د. إخلاص محمود عبدالله : دوال الموروث في قصيدة (صبوات متأخرة) للشاعر عبدالوهاب اسماعيل

abdulwahab esmailالقصيدة : صبوات متأخرة
(( لو كنتُ أعلمُ
ما عشِقْتُ
فكيف والعشّاقُ ماتوا ..
عبروا على جسَدي وأُغنيتي
وأنكَرَني العواذلُ
والوشاةُ ..
لو كنتُ أعرفُ
ما كتبتُ لكِ النشيدَ
ولا قرأتُ لكِ الغَزَلْ ..
فالعمرُ ضاعَ
مسَحتُ بالحيطانِ كفّي
واستدَرْتُ على عَجَلْ ..
الشّيبُ في الرّأسِ اشتَعَلْ ..
ما كنتُ أعلمُ
أنَّ مَنْ أحببتُ يقتلُني
ويرميني إلى يأسي الجُناةُ ..
ما كنتُ أحسَبُ
أنَّ هذا الدَّهرَ يفعلُ ما فَعَلْ ..
بل كنتُ أُمسِكُ
حين يأخذُني الوَجَلْ ..
ببقيَّةِ الصَّبرِ الجَّميلِ
أضُمُّهُ في جانحيَّ
وأستكينُ على أمَلْ ..
أنْ يأخذَ العشّاقُ دورَهمو
وتجمَعُنا الصّلاةُ ..
لله ما ألقى
إذا عصَفَتْ بهذا القلبِ عاصفةٌ
رَمَتْها الذِّكرياتُ ..
لله ما أبقى ليَ الصَّحْبُ الغواةُ ..
عشقوا وماتوا ..
فالتَفَتُّ لكي أُسَمّيهمْ
وأكتبُ بعضَ ذكراهمْ
على القلبِ الطَّلَلْ ..
فتعَثَّرَتْ بي راحتايَ
وجَفَّتِ الرؤيا
وفاتوا .. )) (1)
القراءة :
يلجأ الشاعر في هذه القصيدة إلى البوح عن مكنونه الداخلي، عندما يفرط بشعور الخيبة لحالة عشق أبدية، والحسرة من جراء هذا الافراط ، وما ذهب من الحياة والعمر، وهو نوع من الاعتراف المتأخر، نعرف ذلك من خلال عنوان القصيدة (صبوات متأخرة )، إذ جاءت بعد فوات الاوان ..
يعزز ذلك عندما يركن إلى المفردات الموروثة المتعارف عليها من مثل :
(العواذل /الوشاة / الطلل )، والعواذل من العذل اللوم اسم فاعل من عذل، والوشاة وشى وشيا ووشاية، فهو واش نمّ عليه وسعى به، نقل شيئا عنه بخبث.(2)
يفتتح القصيدة بذكر العشاق على النهج المتعارف عليه قديما من افتتاح القصائد وإنما بذكرهم هذا يحيي مجدا قديما من الحب لشعراء ماتوا عشقا بقوله : ( لو كنت اعلم / ما عشقت/ فكيف والعشاق ماتوا ) .
يرتكز بعد ذلك على موروث آخر يجري مجرى المثل بقوله:( مسحت بالحيطان كفي) يدل على فقدان الفائدة المرجوة من الشيء ، ولا التعلم مما سبق . لتكن النتيجة خذلان الذات المستمر ونكساتها الدائمة، إذ لا تحصد أي مكسب، أو فائدة تعم عليها بالنفع في شتاء حياتها الموغل بالجدب والخيبة.
يستمر فعل المسح الذي بدأت به الجملة في اسباغ دلالة الازالة للشيء ،وهو هنا لازالة عاقبة الفائدة المنتظرة ،كما ان التقديم والتأخير لعب دوره في اغداق الخيبة المتلاحقة، إذ قدم الحيطان رمزا لصدمة الحدث والعاقبة المنتظرة من وراء التعب والحب السابق على (كفي) رمز العطاء والبذل، انها خرجت صفر اليدين خاوية من اي شيء .
يردف ذلك بموروث ديني ( الشيب في الرأس اشتعل)، اشارة واضحة إلى الآية الكريمة :(( واشتعل الرأس شيبا ))(3). إذ يسعى الشاعر إلى قلب التركيب الجملي بفاعلية التقديم والتأخير بالابتداء بالشيب بدلا من الفعل (اشتعل) كي يركز على (الشيب) بوصفه النتيجة الحتمية لفعل الاشتعال وفوات الوقت والعمر، ومن هنا جاء تبنيه النتيجة أولا مقدما إياها في التركيب الجملي ،لأن الفعل معروف وأمر واقع لا محالة، أما النتيجة فهي إما لاظهار الحسرة على ما فات، أو قبول ذلك والاعتراف به . هذه الآية تلخص لنا صورة لمضي العمر وذهابه، التي صارت مثلا يضرب لمن يضيع عمره دون فائدة تجنى ،أو لمن تسري به ذرات الزمن الى التقدم بالعمر وتبدل الحال من قوة وشباب الى ضعف وعجز .
يستعين الشاعر بمعنى آية قرآنية أخرى يشد من أزر نفسه ويواسيها عندما يتخذ من الصبر معبرا وقارب نجاة وسلاحا لمواجهة خوف الروح الدائم .(ببقية الصبر الجميل) اشارة إلى الآية الكريمة (( فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون )) (4).
كما يذكر دال التسمية بقوله ( لكي اسميهم ) اشارة الى قوله تعالى (( وعلم آدم الاسماء كلها ))(5) إن فضيلة التسمية التي اكتسبها الانسان هذه المعرفة التي حباه الله بها تكريما له يستخدمها الشاعر لتثبيت اسماء الاحباب في الروح ،وإذ ما كان كذلك فهي تدعم انتشار دال المعرفة في مكنون الذات لهم ،إذ يأتي بعدها فاعلية الكتابة ( أكتب بعض ذكراهم )، لأن بعد هذه العملية المعرفية الاجرائية التثبيتية لابد من تثبيت آخر يقوي حضوره ويعزز مكانته وليس أدل على ذلك من الفعل (اكتب) الذي يتخذ من القلب مساحة ذاتية يخط عليها الذكرى، إذ اصبح هذا القلب مسكونا بالذكريات كالطلل الباقي من البيت المهجور .
هكذا يستدرجنا الشاعر لدال موروثي آخر ألا وهو ( الطلل) وهو ما بقي شاخصا من اثار الديار .(6) والأثر الباقي من أناس رحلوا فأصبح القلب طللا مكانا يحتوي الذكريات ولا يجد أناسه .
فالطلل ليس المكان الخارجي وما يدل على الديار والاثار بقدر ما يعبر عن المكان الداخلي المتمثل بالقلب الذي اصبح طللا تكتب عليه الذكريات من اسماء الاحباب والاصحاب بدلا من الذاكرة التي تحتفظ بهذا كله .
يفتح الفعل الناقص النص امكانيته الماضوية وطاقته التوظيفية للحدث، ليبين نقص المعلومة عند الذات في ادراك الأمر( لو كنت أعلم)، فيتكرر الفعل الناقص بجملته لأربع مرات لتأكيد الماضي الناقص، أو تأكيد النقص لعلم الذات في ذلك الزمن، مقابل تكرار صيغة (أفعل) بـ ( أعلم / اعرف/ أحسب /أمسك ). نلحظ الأفعال اغلبها افعالا للذات المفردة لتكريس وجعها المتيقظ فيها .
إن تكديس فعلي الماضي والمضارع يعطي التناوب في اصدار حركية النص واشعال جوه ما بين استمرارية المضارع وتدفق حركته، والماضي الذي يمثل زمنا مضى من عمر الذات الذي يبنى على أمرين تمجيد الذكريات والأيام السابقة، وضياع العمر والزمن وتسربه من بين اليدين، والحقيقة أن هذا الضياع منوط بالحاضر بصورة من صوره .
إن دال الفعل الماضي يشير إلى ما ورثته الذات من أفعال واحداث لم يبق لها إلا ما ترثه من (الصبر والأمل ) تعلل به نفسها المكلومة وهو طريق كل العاشقين .
كما أن هناك دوالا تشير إلى الرجوع للوراء والزمن الماضي كما في :( التفت /ذكريات/ استدرت / فاتوا ذكراهم ). فيعزز دوران الماضي وتسلله إلى عتبات الحاضر، فتشتعل الذات وجعا وألما ما انفكت تهرب منه .
إن صيغة الجمع في الأفعال ( ماتوا /عبروا /عشقوا/تجمعنا / فاتوا )، وفي المفردات (العشاق /العواذل /الوشاة /الصحب /الغواة /ذكريات /اسميهم /ذكراهم )، جاء ليفعل القوة الجمعية في الأمر الواحد من الاسم الدال على الجمع (الصحب/ العشاق)، والفعل الدال كذلك على الجمع ( تجمعنا) فاتحد الاسم مع الفعل في علامة الجمع لإعلان حالة الصبابات ذاتها قديما وحديثا، كما تتحد لأداء الصلاة ( ان يأخذ العشاق دورهمو/ وتجمعنا الصلاة) .
تحدث الخاتمة صدمة عندما تلتفت إلى الراحتين واعطائها فعل التعثر في استخدام لغير ما هو عليه، لأن التعثر خاص للأرجل، كما ان الكتابة خاصة باصابع الكف، فتصف الخاتمة عدم الاستطاعة على البذل من جديد وسط تراكمات الوجع المستمر .

الهوامش :
1_ هواجس على مرآة خاصة، قصيدة صبوات متأخرة , دار الشؤون الثقافية العامة، بغداد، ط1 ،2001
2_ ينظر : معجم المعاني ، www.almaany.com
3_ سورة مريم : الآية (4)
4_ سورة يوسف : الآية (18)
5_ سورة البقرة : الآية (31)
6_ معجم المعاني www.almaany.com

تعليقات الفيسبوك

شاهد أيضاً

| مهند النابلسي : سينما ارتجالية وشهرة مجانية وشخصيات سطحية:وصف دقيق لتحفة ترفو”الليلة الأمريكية”-1973/الفيلم الفائز باوسكار أفضل فيلم أجنبي لعام:1974 .

*يلعب Truffaut نفسه دور مخرج سينمائي يُدعى Ferrand ، الذي يكافح ضد كل الصعاب لمحاولة …

| عبدالمجيب رحمون : كيف نتواصل بالحكي؟ أو الرواية والحياة عن رواية “عقد المانوليا”

لماذا نقرأ؟ وكيف نقرأ؟ هذان السؤالان الإشكاليان اللذان طرحهما الناقد الأمريكي “هارولد بلوم” لم يكن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *