لا يمكن التغاضي عن تذبذبات النفس الحادة حيال العواطف الإنسانية ، التي تجد التعبير عنها بشكلٍ واضح ٍ ، وتواجه إلغائها بالغموض نفسه ، وبالصرامة نفسها أيضاً ، برغم هذا ، وربما بفضله ، يظل القليل من العواطف حبيساً ، في غرف مغلقةٍ ، يتشبث بجذور التحامه ، بلا مشروعية ، بأشياء بعينها بشكل خاص .
تتبدل الرغبات والمخاوف وسطوح الأحلام ومنظومة الإدراك الذاتيِّ ، صعوداً وانخفاضاً ، وتبقي راسخة ذلك الرسوخ الانفعاليِّ كخنجر معلق في البال ، وبالنسبة لي أنا .
هضمَت قشرة ُطفولتي عبثيتها ، وحلَّ الشبابُ تمائمي ، ونضجتُ في أدني بقعة ٍ من ظلِّ الألم ، آلاف المرات ، وكراهيتي حيال يوم الجمعة تتمسك بامتلائها .
قد يتردد الفراغ من حين لحين في النفس كالمكيدة ، ولكن يضيع ، حتي يمكنني أن أعتبر كراهية هذا اليوم تناذري الخاص ، غير أني أستطيع أن أمسك بيدي أشجار ذاك التناذر ببساطة ، السماد الذي عتَّقَ تلك الأشجار داخل العمق الأليف لروحيَ الصغيرة أيضاً .
ربما كان أطوله تخصيباً وحضورا ذلك التحذير من ذلك اليوم تحديداً، الذي يجثم علي ألسنة الأمهات جثوم العادة ، وما ينطوي عليه من ساعة نحس ، تسرح فيها الجنيَّات ، لكي يعكِّرن سلام الأمهات ، فينخرط الفقد في لهجاتهن ، وهو اعتقادٌ لا يتحد بالموضوعية أبداً .. وبرغم ذلك ، وربما بفضله ، أجد يوم الجمعة يجد التعبير عنه بغابةٍ من النبض الأكيد في أوردة الفواجع التي تتصدر لائحة التراث الدومي الحزين ، بطول اللوحة المرسومة علي جدران الذاكرة ، وبعرض حصارها الصحيِّ .
لا أظنُّ الأمرَ ينطوي علي شئِّ من الغرابة ، ذلك أن الفلسفة الشعبية تعقيبٌ صادقٌ علي غابة من التجارب الإنسانية السحيقة .
هناك سببٌ آخر أتمُّ امتلاءاً ، لا يزال يوم الجمعة عطلة تجمِّد الحياة المدرسية ، ويكرس نفسه جداراً يفصلنا عن يوم السبت ، أقسي أيام الأسبوع المدرسيِّ وأطولها ، لذلك كنا نحب ليلته أكثر من نهاره ، حيث يكون الجدار في عنفوانه ، وحيث يمتد غابة من الساعات تفصلنا عن الإلتزامات المدرسية ، وتفصلنا أيضاً عن ديكتاتورية العم ياسين ، فراش مدرسة الدومة ، وسلبية الناظر حيالها .
العم ياسين الذي كنت أخافه أكثر من مخافتي الناظر ، والأستاذ فريد ، والأستاذ عمر والآخرين ، طوله الفارع ، بطنه المنتفخة ، عيناه العدائيتان .
العم ياسين ، ذلك المارد الذي يزعم الدوميون أنه أكل جرناً صغيراً من الفطير وخمسة من كيلوات الدهن البقري الخالص في وجبة واحدة !
لقد أصابني الغثيان لمجرد كتابة هذه الوشاية الرائجة ، وأقسم علي هذا .
العم ياسين ، ذلك العاشق الذي انخرطتُ في سره ، ذات صباح ، خلف انتباهه ، فضبطته في لحظة رغبةٍ واضحةٍ ، يفكر بصوت مرتفع :
– آه لو قطمة ف خدك يا كوثر !
المرحوم ياسين ، ذلك الطيب الذي كنت أسبقه غالباً إلي المدرسة ، في الصباحات الشتائية بشكل خاص ، فأجد الباب مغلقاً ، وأتسلل إلي بيت الخالة لطيفة ، لأنعم بحرارة الشاي وعطاء النار ، ويدهم سلام البيت فجأة .. فتطوق المكان في عينيَّ هالة ٌمن التوتر ، وأهم بالنهوض ، وأنا ألعنه في سري . فيردني بصوت مسور بالرقة ، ويفتح بيني وبينه بوابة الحنان لبعض الوقت ، ثم .. بمجرد الدخول إلي سياج المدرسة ، يعود وجهه إلي مائدته الأولي، كأنما خلق الرجلُ خلقاً جديداً .
ديكتاتورية العم السادات أيضاً ، فراش المدرسة .
كان يأتي من البطحة علي حمارةٍ رماديةٍ قصيرة ، جثم نهيقها بمجرد الاقتراب من المنحني المفضي إلي المدرسة جثوم العادة ، وما إن ترفع رأسها ، وينتصب ذيلها ، وتغور خاصرتاها وتصيح :
– هي هان ، هي هان ، هي هان ، هئ !
يتزاحم المنافقون من الصغار علي الترحيب بوفادتها ، وربطها في مربطها للحصول علي نصيب أوفر من التغذية المدرسية التي يوزعها الرجل .
العم السادات الذي رأيته ذات ضحي ، يدخل حقل قصب قريب ٍ ، ويعود بسلة من الجراء العمياء ، تحت درع معتني به تماماً ، من غياب أمهم ، ثم وضعهما بمأمن خلف انتباه الناظر ، وعاد ليوزع التغذية ، تملكني إحساس بالرغبة في القئ ، لمجرد إحساسي بتداخل الخبز والجبن برائحة الجراء العمياء ، وأفضيت بسرِّي إلي قريب القاع ، زميلي “عبادة” ، فذهب مباشرةً ، وأطلع الرجل علي سري ، طمعاً في الحصول علي نصيبي من التغذية .
طاردني العم السادات ، وفشل في اللحاق بذعري ، فقذفني برغيف خبز ، أصاب مباشرة وجهي ، تألمت وسط شعوري بالحرج من ضحكات الرفاق ، فعدوت مذعوراً، لأستدعي أبي ليستعيد لي كرامتي الضائعة ، فارتطمت ، فجأة ، بتحفز الكلبة الأم ، ونباحها العصبيِّ ، لقد فكَّت شفرة رائحة جرائها ، تملكني الرعب التام الدوائر، وتراجعت راضياً بالمقاربة المخزية .
المرحوم السادات ، الذي انخرطت في سر أيامه الأخيرة، لقد كابد المسكين في شيخوخته الكثير من أصداء الآلام الشاقة .
وجمال المرحوم مرعي أيضاً ، فراش المدرسة ، لقد وجد الرجل حبه في قلوبنا الصغيرة التعبير عنه منذ البداية ، عندما انصرف الرجل منذ البداية عن ضربنا إلي ضرب المدرسين مباشرة ، وأقسم علي هذا ، كانوا يخافون أعصابه العارية علي الدوام ، وكانوا يقولون عنه أنه غشيم ، من الممكن أن يضرب خصمه في ساعة الغضب ، بأي شئ تقع عليه يداه دون مراقبة العواقب .
هناك سماد آخر وحديث ، وأكيد ، يغذي أشجار ذلك التناذر ، لقد تجاوزت فاجعة أبي التي لم أتجاوزها حتي الآن ، وأظن أني لن أتجاوزها إلي الأبد ، العتبة النقية لبيتنا العتيق ، بين الساعة التاسعة والساعة العاشرة ، لابد أن ساعة النحس المظنونة تختبئ بين التاسعة والعاشرة ، وهي ساعة نسبية بالتأكيد ، وكان من الممكن أن تواجه إلغائها .
لولا أن شبه أبي البشريَّ ، خرج من بيتنا محمولاً علي سواعد الرجال دون أن يخبِّئ في نيته كالعادة خط الرجعة ، بين الساعة التاسعة والساعة العاشرة من صباح يوم جمعة أيضاً .
محمد رفعت الدومي