إشارة :
بمناسبة الذكرى الثالثة لرحيل المبدع الكبير “محمود صبري” ، تبدأ اسرة موقع الناقد العراقي بنشر ملفٍ عنه في حلقات ، وتتمنى على جميع الأخوة الكتاب والقرّاء المساهمة في هذا الموقع بما يتوفر لديهم من دراسات ومقالات وصور ووثائق ولوحات عن المبدع الراحل إسهاماً في هذا الملف الذي سيكون – على عادة أسرة الموقع – مفتوحا انطلاقا من أن ملف الإبداع ليست له نهاية .
المقالة :
رتبط المعرفة العلمية ارتباطا وثيقا بالإنسان، وذلك لكونه الكائن المفكر الذي يمتلك القدرة العقلية التي تقاس عليها ملكة المعرفة، ولأنّ أولى مظاهر المعرفة هي عملية فهم الوجود وعرضه في الفكر الإنساني فردا أمجماعة، ولأنّ الإنسان هو منتج المعرفة ومحركها، فإنّ هدفه الدائم هو البحث والكشف والوصول إلى ما نسميه دائما بالحقائق رغم نسبيتها.
وعليه يمكن أن نصف المعرفة بالعملية الجدلية التي تحوي نظما مركبة تؤكّد الحركة وتطوّرها المستمر، إلاّ أنّ المعرفة لا يمكن أن تنجز وتحقّق إلاّ بالأداء والعمل والتجربة والممارسة، إذ أنّها تبدأ بالإدراك البسيط للأشياء والعلاقات والظواهر وآلية خزنها في الذاكرة وآلية استرجاعها بواسطة نظم استعادة مختلفة تنتج عنها صور عقلية لا تخلو من إرادة، وهذا هو المظهر الأول لها ببساطتها المرتبطة بمعطيات الحسّ، وعندما يبدأ التأمل ويفترض افتراضات تركيبية تتجاوز محلّلات الوجود ومعطياته، ينتقل الفكر إلى افتراضات تجعل من التحليل والتركيب للنظم والعلاقات المتاحة حركة فاعلة تنتج الجديد المتحوّل والمتطور فينسقه على اختلاف المألوف، بفعل عمليات حدسية ناتجة عن فعل التجريب الذي يؤسّس خبرة الإنجاز.
فما قدمته نظرية العلم وفلسفته المعاصرة يثير الكثير من التساؤل حول إمكانية استخدام هذا النتاج الفكري الفلسفي في المعرفة الجمالية الفنية وتطبيقاتها المختلفة، وهذا ما يدعو إلى عدّ الفن نشاطا معرفيا ناتجا عن فعل وقدرة مؤسّسة داخل نظام المعرفة، انطلاقا من وجهة نظر فلسفة العلم التي تعرّف الحدس على أنّه نتاج يكون فيه الدماغ في أعلى حالات التركيز، وعلى هذا الأساس تعدّ العملية الإبداعية المتحقّقة في لحظة الإبصار علما وفنّا.
وتأسيسا على ما تقدّم، فإنّ الفن نظام معرفي يمتلك آليات فكرية وعقلية تتراكب من خلال الصورة الذهنية الناتجة من فعل عقلي يقع ضمن دائرة القصد والوعي العالي ويحقّق فعل الإنجاز في بنية المنجز المبدع، والذي يشابه في آلياته مع تباين مظاهره الإنجاز للمنجز العلمي. فالتداخل ما بين العلوم بعضها بالبعض الآخر، أصبح اليوم هو القاعدة، وأخذت العلوم في التزايد والانفراج فيما بينها، وأصبحت حدودها متحركة وغير ثابتة، وتوحّدت في داخلها المعارف الأكثر تباعدا والأكثر اختلافا، وبهذا يخرج كلّ علم من عزلته وينشأ تواشج العلوم استنادا إلى تلك العلاقات العديدة، فالعلم المعاصر يسمح بالتقارب غير المرتقب بين العلوم ويتسامح في التعايش بين مجموعات العلوم الكثيرة، ويقبل إعادة التنسيق بين فروعه المختلفة.
وإزاء هذا التداخل المعرفي وإمكانية الإفاضة نحو تحقيق تأسيسات معرفية مشتقّة من علوم تخصصية مثل الرياضيات والفيزياء، وعلى الرغم من الاختلاف في التأسيسات النظرية، إلاّ أنّ هناك اتفاقاً أساسه الانفتاح المعرفي أو الفلسفة المفتوحة. فهذا التأثير المتبادل، يجعل من المعرفة عبارة عن عملية متمرحلة ومتسلسلة تتطوّر وتنمو، ويتطوّر الوعي من خلال تكثيف نشاطات الوعي المختلفة وتفعيلها بالتجربة والممارسة.
وفي هذا الإطار تتنزّل تجربة الفنان العراقي محمود صبري فيما أطلق عليه بواقعية الكم، وهي نظرية، تعتمد تطبيق الطريقة العلمية في حقل الفن، إنّها شكل جديد من الفن يصوّر المستوى الجديد من الواقع الموضوعي الذي كشف عنه العلم الحديث: الواقع الذري، إنّها فن تنقل الوظيفة الفنية من مستوى المظهر إلى مستوى الجوهر، وتعلم الإنسان أن ينظر إلى الطبيعة على مستواها الجوهري – مستوى عملياتها الذرية.

فلقد تفاعل الفنان في هذه النظرية مع الواقع الجديد للذرة، مكتشفا بذلك مصدرا جديدا للمادة الأولية الفنية، غير أنّ ذلك لا يمكن تحقيقه إلاّ ضمن المختبر العلمي أو على أساس المفاهيم والقياسات العلمية الجديدة، لهذا فإنّ الإبداع الفنّي الجديد يجد نفسه معتمدا على وجود وسيط وهو العلم، وذلك من خلال اكتشاف ‘ إينشتاين’ المتعلق بتبادل الكتلة والطاقة، وكذلك في المفهوم الذي عبّر عنه ‘ انجلز’ بقوله أن العالم يجب أن نراه، لا كما يبدو للعين المجردة كأشياء جاهزة، بل كعمليات وتفاعلات مستمرة.
فالحقيقة العلمية نسبية، فهي دائمة التطور والانتقال من طور إلى آخر، فالتطور هو الأساس الذي يبنى عليه تقدّم العلم وما يرافقه من اكتشافات واختراعات، نظرية كانت أم تطبيقية، بحيث لا يمكن أن تصل الحقيقة العلمية إلى النهائية والاستقرار، فإنّ التطور سرعان ما يتجاوز هذه الحقيقة بحقيقة أخرى.
وهذا ما نلاحظه في الاستقرار النسبي رغم الامتداد الزمني الذي رافق فيزياء ‘ نيوتن’، والذي قارب القرنين من الزمن، فما إن جاءت فيزياء ‘ إينشتاين’، حتّى ابتلعت فيزياء ‘ نيوتن’ داخلها واحتوتها وتجاوزتها وأثبتت أنّ ما بعد حقيقة مطلقة ليس في الواقع إلاّ حقيقة نسبية، أو هي في حالة من نظام أعمّ وأوسع.
ففي كلّ من العلم والفن كان هناك تحول مماثل في النظرة إلى الطبيعة. إنّه تحول من الشكل الخارجي إلى التركيب الداخلي، ومن الموضوع إلى العملية. ففي حوالي سنة 1967، تحوّل بحث محمود صبري بدرجة رئيسية نحو الألوان، والبحث فيها يقود إلى البحث في الضوء، وبالتالي إلى الطاقة وعلاقتها بالكتلة، وهنا لا يستطيع الإنسان أن يرفض هذا الاستنتاج البسيط من كلّ ذلك، إذا كان اللون هو الضوء، والضوء هو طاقة، والكتلة هي طاقة مكثفة، فإنّ اللون يصبح مفتاحا لأسرار الكون.لهذا كانت المشكلة بالنسبة لهذا الفنان هي العثور أولا على المفردات كشرط أساسي لوصف العالم كنظام من عمليات، إلاّ أنّ اكتشافات العلم الحديث جعلت ذلك ممكنا، فحتّى نهاية القرن التاسع عشر كانت الأشياء غير قابلة للانقسام، وهذه الفكرة ترجع إلى نيوتن، غير أنّ العلم الحديث كشف أنّ الذرات نفسها ليست وحدات نهائية، ثابتة، بل هي تراكيب من جسيمات، وهذه الجسيمات نفسها ليست سوى تكثيف للطاقة.
إنّ تحليل المادة يقود إلى جوهر كوني، هو الطاقة المشعة، وهذه الطاقة ذاتها هي عملية. إنّها تتواجد على نحو مجزأ متقطع كوحدات صغرى، أو كمّات، بحيث أنّ كلاّ منها يصبح كوحدة نهائية من الطاقة المشعة، كمّا للعمليات. فالصورة التي نحصل عليها للعالم، هي صورة نظام من وحدات متفاعلة من الطاقة المشعة، أي ألوان، كلّ ذلك ساهم في تسمية محمود صبري لهذا الفن الذي يقوم على واقع عمليات الطاقة بواقعية الكم.
ويتعرّف العلماء على هذه العناصر بطريقتين: عن طريق الوزن الذري للعنصر، أو عن طريق الألوان المنبعثة من ذراتها، أمّا بالنسبة لواقعية الكم فإنّها تستعمل الطريقة الثانية أي الألوان المنبعثة المرئية لهذه العناصر، حيث لكلّ عنصر ألوان طيفه الخاص، ولكلّ عنصر عدد معيّن من الألوان ( أطياف)، وهذا العدد يختلف من عنصر إلى آخر وكلّ عدد على حدة يسمّى( كمّاً / طيفاً)، ومجموع هذه الكمّات / الأطياف يؤلّف شخصية هذا العنصر أو ذاك.
فذرة الكيمياء هي معادلة للكتلة، تركيب من جسيمات، نظام شمسي مصغر، بنواة مركزية والكترونات دائرة، أمّا ذرة واقعية الكم، فإنّها معادل للطاقة، تركيب من كمّات، ذبذبات تقترن بمستويات طاقة، أي مجال مصغر من ألوان. فالتكوين الواقعي الكمي هو ببساطة تركيب من ألوان، كل عنصر كيميائي هو تركيب معين من ألوان، التركيب مرتبط بنظام معين يطابق النظام الطبيعي لتسلسل الأطوال الموجية التي تؤلف هذه الألوان صورا لها. إنّ مع واقعية الكم يتحوّل تفاعل الإنسان مع الطبيعة من مستوى الكتلة إلى تفاعله على مستوى الطاقة، وهكذا الحال مع الفن، فالإبداع الفنّي القديم كان إبداعا على مستوى الكتلة ـ الموضوع – الشكل، أمّا مع هذه الواقعية فيصبح إبداعاً على مستوى الطاقة ـ العملية – التركيب، وفضلا عن ذلك فقد خلق إمكانية لعلمنة الفن، وبالتالي إمكانية لتحويل العلم إلى فن، بالاعتماد على مدلولات علمية.
فالذرة تتميّز بثلاث صفات أساسية، التكافؤ الكيمياوي، الوزن، الطيف، الصفتان الأوليتان لا تتعلقان بالفن، غير أنّ الثالثة أي الطيف تمثل المعادل المنظور للتركيب غير المنظور للمادة الذرية، ولهذا فإنّ هذه الخاصية تؤلف المصدر الجديد لفن العمليات الجديدة.
ففن واقعية الكم الجديد يعامل المادة الذرية كنظام من مستويات للطاقة تكشف عن وجودها عبر الأطياف الخطية التي تقترن بها، يعني الخطوط اللونية التي تتميز بها ذرات العناصر المختلفة، لهذا فإنّ الحالة الجديدة من المادة – المادة الذرية، تجد تعبيرها المتميز في الألوان: الألوان الخالصة للأطياف الخطية، فالتمثيل التشكيلي للواقع كعمليات، يعني تصوير العمليات الكيمياوية للطبيعة كتراكيب من تفاعلات ذرية معبّر عنها بصيغ مستمدة من الطبيعة على هذا المستوى الجديد، أي بصيغ لونية.
لهذا فإنّ الذرة في دورها الجديد كوحدة بلاستيكية أولية لواقعية الكم تصبح كوحدة متعددة الألوان في يد الفنان، فكلّ كم له قيمة مادية معينة مقاسة تطابق لونا معينا بحجم معين، وكلّ كم كموجة ضوئية يتميّز بعلاقة قائمة الزاوية تربط خط مسار الموجة وذبذبة الوسط الذي تسير فيه، أي أنّ الكم يجد تعبيره تشكيليا كسطح هندسي ذي لون معين مقاس، وأبعاد هذا السطح ترتبط بعلاقة عمودية فيما بينها: كل كم هو أيضا وحدة كهرومغناطيسية أي تركيب من مجال كهربائي ومجال مغناطيسي في آن واحد، والعلاقة بين هذين المجالين من جهة وخط مسار الكم من جهة أخرى هي عمودية أيضا.
كلّ هذا يعني أنّ المادة الذرية ( كعمليات من الطاقة) لا يمكن التعبير عنها إلاّ بصيغ ذات بعدين، هذا يعني إحلال وحدات مسطحة ذات بعدين، بدلا من وحدات مجسمة ( ذات ثلاث أبعاد)، في واقعية محمود صبري.
وتستخدم واقعية الكم ما يمكن تسميته بالطريقة المختبرية، فالمرسم الفني يوازي المختبر العلمي، فالفنان يشيد عمله الفني كما يحضر العالم الكيميائي مركبا كيميائيا، كلاهما يهتدي بنفس المبدأ رغم استخدامهما مواد مختلفة، فالعالم ينتج عملية ما، كتكوين الماء مثلا في مختبره، بمزج ذرات الهيدروجين والأكسجين بنسبة معينة وتحت ظرف معين، أمّا الفنان فإنّه يعيد نفس العملية تشكيليا بمزج معادل الطاقة اللوني لنفس الذرتين، غير أنّ الطبيعة هنا لا تأخذ مجراها، فالفنان يأخذ مجراها بيده ويخلق بنفسه تركيبا معينا يسميه ماء، وفي كلتا الحالتين فإنّ نفس النسبة الثابتة لذرات العناصر أو نظائرها اللونية موجودة.
غير أن الفنان يختلف عن العالم في أنّ هذا الأخير يستخدم عناصر وحدات مادية حقيقية، بينما الفنان يستخدم عناصر تشكيلية اصطناعية، نظائر لونية لعناصر مادية حقيقية، فالعالم يعطينا كيانا منسقا من المعرفة غير الشخصية، صورة افتراضية للكيفية التي تعمل بها الطبيعة، بينما الفنان يحول المعرفة العلمية غير الشخصية إلى معرفة شخصية، إنّه يعطينا صورة لطبيعة جديدة من صنعه هو على غرار الطبيعة.
وبهذا فإنّ الفن هو نتاج معرفي بفعل آلية الفكر انطلاقا من مبدأ أنّ المعرفة هي نتاج مجموعة من العمليات العقلية ذات الطابعين التجريبي والتأملي، فلا يمكن تصوّر معرفة دون جدلية فكرية ولا فكر دون معرفة تؤسّس بنيتها، فالمعرفة بتنوّع دوائر التخصّص تعدّ الأساس الموضوعي الذي يستقي منه الفكر أسسه ومفرداته.
وهكذا يمكن عدّ الاتجاه التجريبي الاتجاه الأقرب إلى المباحث الفنية التشكيلية، على الرغم من أنّ المعرفة لا يمكن أن تستكمل بالتجربة وحدها، لذلك ولكي تستكمل المعرفة شروط بنائها تدخل الملاحظة مع التجربة بعلاقة ترابطية لتأمين تحقّق المعرفة بفعل تراكم المشاهدة وبداهة الملاحظة ودقّتها للمفردات، ليتكوّن المنهج أو الأسلوب، وهذا لا يتم إلاّ بفعل تحديد الموجودات، ومن ثمّ يتّم بفعل التركيب الذي يأخذ اتجاهين، الأول لغرض الفهم، أي فهم الأنظمة التي تتشكّل منها أي معرفة، والمعرفة الفنية بشكل خاص، والثاني يكون بهدف التحليل والتركيب هو كشف الأنظمة ثمّ تأسيس نظرية جديدة، وهذا هو الابتكار والإبداع في المعرفة
الفنية.
فبكشف الخصائص التحليلية للضوء واللون، استطاعت الانطباعية أن تحقّق الثورة الحداثوية التي انتقلت بالفن من المرحلة التأملية إلى المرحلة التحليلية التي تعتمد الكشف وإعادة التركيب أساسا في بناء العمل الفنّي، وهذا الانتقال كان لا يتحقّق إلاّ بفعل الملاحظة المتخصّصة التي يقودها المنهج المنظم في التحليل، وهذا ما يجعل الملاحظة لا تقتصر على المشاهدة بغرض الوصف، بل المشاهدة بهدف التحليل، لذلك تستلزم الملاحظة الاستعانة بالإدراك والتصوّر.
غير أنّ الإلغاء الذي جاءت به واقعية الكم يمكن تحديده في نقل الواقعية التقليدية من مستوى المظاهر إلى مستوى جوهري، المستوى الذري، وأيضا إعادة خلق الفن مجددا من الطبيعة على هذا المستوى الجوهري، فالبديل الذي تقدمه هذه الواقعية هو فن جديد يتجاوز سطحية الواقعية التقليدية ليعطي صورة أكثر عمقا للواقع الموضوعي، فهي واقعية تنطلق أساسا من التفاعل الجديد للإنسان مع مستوى جوهري من العالم الموضوعي، وتنقله إلى جوهر الأشياء، وهذا ما تفتقر إليه الواقعية التقليدية أو المدرسة الحديثة.
عن مجلة الفنون التشكيلية دمشق 2005