ثمة دلالات حضارية بارزة في إبداع الجمال وتذوقه،حيث تعتبر الفنون عامة من أهم منتجات الحضارات وابرز مظاهرها. فحين تذكر حضارة من الحضارات التاريخية انصرف ذهننا، في مقدمة ما ينصرف إليه، إلى ما خلفت من آثار شعرية ونثرية ومن أبنية وعمارات ومن تحف وطرف فنية، وهذه النتاجات الفنية تسم الحقب التاريخية بسماتها وتكون علامة بارزة عليها، ولأهميتها البالغة فان بعضاً من الدارسين يتخذونها دليلاً على الأدوار الحضارية المختلفة،فإذا تكلموا عن الدور الكلاسيكي، أو الرومانطيقي، أو الواقعي، كانت هذه المظاهر الفنية والأدبية الأساس في ذلك التقسيم .
وبوصف الفن منهجا معرفيا وتربويا يساعد الإنسان على أن يعي ذاته وطبيعته وحياته والشروط التي تؤهله للكمال، فان الجمال وتذوق الجمال من خلال الأعمال الفنية لها دورها الحضاري وضرورتها في زرع السلام علـى هذه الأرض ومساعدة الإنسان على نبذ العنف. يقول “تولستوي” ((إن واجب الفن عظيم. إن التعاون السلمي بيـن الناس يجب أن يقوم على نشاط الإنسان وعمله الذي يقوم به حراً وفرحاً. والطريق إلى هذا هو بتأثير الفن الحقيقي يساعده في ذلك العلم ويوجهه الدين بدلاً من أن يكون هذا التعاون الحالي نتيجة لقوى خارجية عن طريق القانون والمحاكم والبوليس والمؤسسات الخيرية ومراقبة المصانع وغيرها)) ( ).
هذا الدور الحضاري الذي يؤديه الفن من جهة زراعته للسلام والتعاون بين بني البشر وما يؤديه من سمو وتكامل في نفس الإنسان؛ قد يؤدي انعدامه إلى غياب حجر أساس من زاوية البناء الحضاري والى تفشي العداء والهمجية بين البشر، لأننا لا نستطيع تخيل أو تصور “نهاية الفن” إلا في ظل الهمجية التي ينعدم فيها التمييز بين القيم .
في ضوء ما سبق تتبين لنا الأهمية الاجتماعية الكبيرة للفن، إذ لا يمكن تصور الخير منفصلاً عن الجمال؛ ومعنى هذه العبارة “الاعتبار” في لغة علم الاجتماع، أن الجمال هو المنبع الذي تصدر عنه الأفكار وتصدر عنه بواسطة تلك الأفكار، أعمال الفرد في المجتمع، فالأفكار هي المنوال الذي تنسج عليه الأعمال، وهي تتولد من الصور المحسوسة الموجودة في الإطار الاجتماعي، والتي تنعكس في نفس من يعيش فيه، وهنا تصبح صوراً معنوية يصدر عنها تفكيره، فالجمال الموجود في الإطار الذي يشتمل على ألوان، وأصوات، وروائح، وحركات، وأشكال، يوحي للإنسان بأفكاره، ويطبعها بطابعها الخاص من الذوق الجميل، أو السماجة المستهجنة؛ فبالذوق الجميل الذي ينطبع فيه فكر الفرد، يجد الإنسان في نفسه نزوعاً إلى الإحسان في العمل وتوخيا للكريم من العادات( ).إن الإنسان الذي لا يمتلك القدرة على إدراك الجمال وتذوقه لا موضع له في المجتمع كما يذهب “كونفشيوس “.
لا تقتصر وظيفة الفن على التسبب في السرور والمتعة فقط، وكذلك ليس الفن مجرد عملية تتساوى في أهميتها مع العلم من اجل الحياة والتقدم الإنساني، ولكن للفن دوراً خاصاً في تحبيب الحياة للناس وفي زرع المحبة فيما بينهم أيضا. والتذوق الجمالي ليس عملية سطحية بل هو عملية جوهرية تتمثل في تسرب مفاهيم الخير والحق والعدالة والإحسان إلى أعماق الإنسان بحيث يبني عليها سلوكه وتفكيره متوخيا الكمال والفضيلة فيما يصدر عنه، لذلك لا تعد الثقافة حقيقية إذا لم يمتلك صاحبها القدرة على تذوق التجارب الدينية والأخلاقية والجمالية .
والفنانون بقدرتهم على تصور المثل الأعلى للحياة من خلال ما يتمتعون به من خيال خلاق قادر على سبر غور الحقيقة واجتلاء كنهها وفي ذات الوقت على تجسيدها حية أمام الآخرين، باستنادهم إلى قدرتهم الإبداعية، فإنهم في عملهم هذا يصبحوا مصدراً لا ينبض للأفكار والحض على السمو والكمال. وهذا الارتباط بين فكرة الكمال وبين الفنون، يؤكد إمكانية أن تمثل أعمال الفنانين تصديا للتحلل الخلقي و التوجهات المنحرفة من خلال ما يمكن أن يتجسد في أعمالهم من منهج جلي ومسار واضح قادر على هداية الإنسان نحو الخير والكمال . وهكذا، فان الجمال لكونه في أحد معانيه مرادفاً للحق والخير والكمال، يجب أن يكون الغاية التي يسعى الإنسان للوصول إليها بوسائل الحكمة والعلم والفلسفة. نعم إن الفن بغير علم فقر، ولكن العلم بغير فن بربرية( ). وحيث ان الفن الحق هو الذي يعيـن على اكتساب المعرفة المرسخة للقيم الجمالية فلقد عد عمل الفنانين ((بداية المعرفة بأسرها ونهايتها.. المعرفة الخالدة خلود قلب الإنسان) ( ).
لقد فنيت الحضارات القديمة وزالت ولم يبق منها إلا حكمتها وفنونها. وشتان بين جمال يبقى على مر الأجيال وجمال يذبل ومصيره الزوال، بين جمال الشكل وجمال المعنى.فالفنان وحده هو الذي يستطيع أن يضع يده على الصورة العابرة ويطبعها في قالب يغالب الفناء. يقول “جوتييه”:
كل شيء إلى فناء
سوى الفن فإلى بقاء
ويبقى تمثال الرخام
وتمضي الدول إلى هباء
***
الدينار يكشفه العامل
من الأرض في شقاء
عليه وجه السلطان
روحه مستقرة في السماء
***
تموت الآلهة ويبقى
رصين الشعر إذا يشاء…
***
من الممكن أن يتبادر إلى الذهن السؤال الآتي: إن العالم الذي يخلقه الفنان( عالم الفن) عالم خيالي، من صنع المخيلة والأحلام، يبنى من الألوان أو الأنغام أو الكلمات أو غيرها من مواد الفن، أي انه عالم آخر ليس واقعيا،ً وليس حقيقياً، فهل يمكن الانتصار على الواقع وتغييره بشيء وهمي من صنع الخيال؟ في الحقيقة، قبل الخوض في غمار هذه المسألة، يتوجب علينا الفصل بين الحقيقة والواقع، وبين الحق والأمر الواقع، وحين نصبح على بينه من هذا الاختلاف والفروق الجوهرية بين تلك المفاهيم، عندها نستطيع أن نفهم القوة التي يمتلكها الفن وهل كان ممثلاً للواقع والحقيقة أم لا؟ بدءاً، لدينا العالم الواقعي والعالم الجمالي، ولان العمل الفني يتقيد بشروط وقيود وقوانين خاصة به، هي قوانين الجمال، فان الشكل الجمالي بوصفه منهجا قصديا يتوخى تجسيد ما يجب أن يكون فهو في ماهيته مناقضا للواقع ،ماهو كائن،ومحرضا عليه . وطالما ترددت مقولة السرياليين بان الجمال لا يوجد إلا بعيداً عن الواقع. نرى أن لكل شخص أو مذهب نظرته إلى الحياة وفهمه للواقع بشكل يختلف عن الآخرين، بمعنى أن لكل واقعه الخاص أي تعدد الواقع، وهو ليس واقعاً واحدا،ً وهذا يعني تسليماً انه ليس حقا لان الحق واحد ولا يتجزأ، أو أن وجهات النظر التي التزمها الآخرون لرؤية الواقع جزئية أو ليست صائبة بالتمام. فالواقع حافل بالتناقضـات المترسخة فيـه والتي تمد جذورها في أعماقه، والإنسان بدافع الحساسية والضرورة نادراً ما يستطيع التحرر من اسر الواقع وتناقضاته، ولكن يبقى لدى الإنسان العالم الجميل بشكله الذي بإمكانه خلق عالمه الخاص بجوهر ينحاز عن الواقع المعطى. انه العالم الجمالي الذي يخلقه الفنان وفقا لشروط الشكل الفني وما يحصل فيه من اتحاد راق بين الذات والموضوع عنصري العملية الإبداعية ،عالما من التناغم البهيج تجد فيه المتناقضات حلا لها.
وعلى أقل افتراض، لو اعتبرنا الفن انعكاساً للواقع، فانه بالتأكيد ليس الواقع القائم، لأنه عندها سيعكس جمالياً، ولا بد من وجود بؤرة الكمال في ثنايا العمل الفني. إذن: الفن ليس انعكاساً مباشراً للواقع يتمثل في تكرار رتيب بما يمثل استجابة ساذجة لقوانين البيئة وصدى لها، وإنما منهجا متكاملا ومميزا لانعكاس الواقع بحسب المذهب الذي ينتمي إليه ونوعية النوع الفني المنطوي تحت لوائه متخذا القصدية أساسا له من حيث المبتدأ والمنتهى .
وعليه؛ لا بد من وجود اختلاف جوهري وصميمي بين الواقع كما هو موجود والواقع ذاته كما هو في الفـن. فكم من شيء بشع وقبيح في الطبيعة ولكنه يستهوينا ويجبرنا على تذوقه جمالياً في الفن فيزرع في نفوسنا البهجة والمتعة ولذة الانتصار ، فما الذي يفعله الفن ليتسبب في هذا الانقلاب العجيب؟ لماذا يمكن لأشياء بشعة في الطبيعة أن ترتدي أردية جميلة في الفن؟ يجيب أحد الباحثين معللاً: ((إنها “أي الأشياء البشعة” تجعلنا في الطبيعة نتخوف من تحطمنا، فتسبب لنا انفعالاً مصحوباً برؤية خطر واقعي: وحيث إن الانفعال بذاته يفرحنا، وان واقع الخطر يحزننا، كان المطلوب الفصل بين جزئي الشعور الواحد. وهذا ما يقوم به الفن: فهو حين يقدم لنا الشيء الذي يرعبنا، وحين يتركنا نرى ذاتنا بذاتنا في آن، إنما يطمئننا، وبهذه الوسيلة، يمنحنا لذة الانفعال بلا شائبة كريهة)) ( ).
إن الواقع من جهة المعكوس لنا عن طريق الحواس وبدون عمق في التفكير والتحليل ليس نزيهاً عن الخداع والوهم، فلطالما تحدث الحكماء عن خداع الحواس، ولطالما خُدِعَ الإنسان مما يتظاهر به بعض الناس فيقودوه إلـى هوة الهلاك بسبب هذا التصديق الظاهري الساذج الذي تورط به. فنحن نعلم انه ليس بالضرورة يوجد تطابق تام بين المظهر والجوهر بل قد يكون الشكل تمويها عن المضمون وخداعا وزيفا، وانما العاقل من تجاوز السطح وذهب عميقا لاكتشاف حقيقة الشيء. ولما كان عالم الفن نتاج تجربة حية وإعمال للذهن في ظواهر الحياة لاكتشاف عللها فهو اقرب إلى الحقيقة من الواقع الساذج ، العالم الخارجي، حين يسلم به البعض على علاته وسطحيته لتنبثق عنه معرفة اقرب إلى الوهم منها إلى الحقيقة . فالواقع الحق والحقيقة ما اختبأ خلف الحواس، خلف الواقع المعطـى، المباشر، لان الحقيقة لا تسلم نفسها إلا لمن يكد في سعيه نحوها بالعقل والقلب، وهذا ما يلتزمه الفن في كشفه عن ماهية الأشياء وحقائق الوقائع الخارجية، ولأنه في أساسه تأصيل لما يمكن أو يجب أن يكون وليس لما هو كائن، فالذي نشاهده في اغلب الأحيان هو الواقع وليس الحقيقة، الأمر الواقع وليس الحق ، ما دامت فوق كـل حق حقيقة. فالفن يبحث عن الجوهر، الماهية، الحق، الحقيقة، ويأصلها في آثاره، لهذا فالفن هو الواقع لأنه: ليس واقعياً بحق وصدق سوى ما يوجد لذاته وفي ذاته(*1) ، ما يشكل جوهر الطبيعة والروح، ما لا يمنعه وجوده في الزمان والمكان من أن يتابع وجوده في ذاته ولذاته وجوداً حقاً وواقعاً والفن هو الذي يجعلها ظاهرة لنا ومحسوسة( ).
المعنى والحقيقة والجوهر مفاهيم أساسية لا يعدمها الإنسان المتأمل في تجاربه الحياتية ولكنها خاضعة للظروف والمصادفات ،كما إنها لا تأتي على درجة معتبرة من العمق لأنها نادراً ما تكون مقصودة لذاتها، ولعدم استطاعة الإنسان أن يتحرر من الضرورة والحساسية والمنفعة في نظرته حتى لتجاربه، لذلك تبدو “الجوهرية” في الحياة مشوهة، محرفة، بفعل تلك الأسباب. والإنسان يمكنه أن يستنبط معرفةً ما من تجاربه ولكن المعرفة حقيقة فقط عندما تصل إلى حد التعريف والفن هو الوحيد الملتزم بتعريف التجربة وفق الشروط الجمالية حيث يتم الوصول إلى جوهر التجربة إن كان العمل حقيقياً وصادقاً، لذلك فالفن في تظاهراته الناتجة عن الفكر والقلب، يكون أكثر واقعية وأكثر حقيقية في وجودهز لأنه، حسب “هيجل”، يحفر هوة بين ظاهر ذلك العالم الرديء والقابل للهلاك ووهمه من جهة، وبين المضمون الحقيقي للأحداث من الجهة الأخرى كي يلبس هذه الأحداث والظاهرات واقعية أعلى وأسمى، متولدة عن الروح.
نلحظ وجه شبه كبير من حيث المبدأ بين الفن والثورة، ما دامت الثورة عزماً على ترك الواقع المتخلف وتغييره إلى الواقـع الذي يعتقد انه حقيقي حسب معتقد أصحابها. والفن كذلك يلتقي مع الثورة في محاولته لتغيير الواقع الوهمي إلى الواقع الذي يجب أن يمتلك وجوداً حقيقياً. إن الفن والثورة يلتقيان من اجل “تغيير العالم”، من اجـل التحرر، ولكن الفن يفترق عن الثورة في الممارسة بسبب من قوانينه وشروطه وضرورته الخاصة به، كما أن له حريته؛ ضمن حدود القوانين الجمالية، وليس بالضرورة أن يتشابه من هذه الناحية مـع ضرورة الثورة وحريتها، لذلك فان سمة التغيير في الفن واقعة ضمن شروط الشكل الجمالي، ومن الممكن كل الإمكان أن تكون الثورة غائبة عن الأثر الفني، وذلك في الوقت نفسه الذي يكون فيه الفنان “ملتزما” أي ثورياً بالمعنى العيني للكلمة.
بهذا المعنى يتحدث “أندريه بريتون” عن الفنانين “كوربيه” و “رامبو”؛ “فكوربيه” الذي كان ثورياً، ومع ذلك نجد لوحاته “بعكس رسومه” لا تتضمن شهادة مباشرة عن الثورة، وهي فارغة من “المضمون السياسي”، وبعد هزيمة العامية وتذبيح أبطالها انصرف كوربيه إلى رسم الطبيعة الميتة، إن بعض تفاحاته.. الخارقة، الهائلة، الضخمة، ذات الوزن والحسية غير المألوفين، هي أعظم قوة وأكثر “احتجاجية” من كل رسم سياسي، ويواصل “بريتون” حديثه عن “كوربيه” قائلاً: لا مناص من الاعتراف بان كل شيء يجري عنده كما لو انه ارتأى ان الإيمان العميق بتحسن العالم الذي كان يعتمر قلبه لا بد أن يجد وسيلة لكي ينعكس في كل شيء يسعى إلى استحضاره، وان يتجلى على حد سواء في النور الذي يسقطه على الأفق أو على بطن سنجاب؛وبذات المضمون يتحدث “بريتون” عن “رامبو” وثوريته فيقول : أما “رامبو”، الذي كان يناصر عامية باريس، فقد حرر دستوراً لمجتمع شيوعي، لكن فحوى ما كتبه في السياق المباشر للعامية لا تكاد تختلف الا في أدنى الحدود الممكنة في فحوى أشعاره الأخرى. فالثورة، الماثلة من البداية في أشعاره، تظل ماثلة فيها إلى النهاية، وذلك مـن حيث إنها شاغل له صفة تقنية، شاغل ترجمة العالم إلى لغة جديدة( ) .
إن التزام الفنان يعني الالتزام في مجال عمله، في المجال الجمالي، سواء في التقنيات أو المضامين التي تعتمد خلق عالم آخر، عالم مثالي انطلاقاً مـن العالم المحسوس، أن يبني الواقع كما يجب أن يكون معتمداً التحوير الجمالي للواقع الكائن فهو ثورة دائمة يصنعها الفكر والخيال الخلاق. وعلى هذا، فان مقياس الالتزام في الفن، هو في مقدار الكشف عن الحقيقة الجمالية، أو انه في جوهره مسألة تقنية فنية، إذ ليس المطلوب ترجمة الفن “الشعر” إلى واقع، وإنما ترجمة الواقع إلى شكل جمالي جديد. ويتجلى الرفض والنقض الجذري في الطريقة التي يتم بها تجميع الكلمات، وترتيبها، الصورة، الصوت، خلق واقع آخر مستمد من الواقع القائم .
إن الفن الذي يعتمد الإيحاء لا ينبغي له أتجسيد الواقع الذي يسعى لرفضه بتفاصيله كافة وإنما يكفي قتل أي رمز من رموز هذا الواقع أو تكذيبه لعكس زيف الواقع جميعاً كما سعى نبي الله “إبراهيم” (ع) حين أراد تغيير العقيدة المنحرفة آنذاك ويثبت بطلانها من خلال تحطيم رمز واحد من رموزها وهو الأصنام .
عموماً ؛ فان التزام الفنان وثورته لتغيير الواقع يجب أن تتمخض عن رؤية ناضجة وحلم صادق لتنبثق ،بلا قسر، عن فهم حقيقي للحياة وفلسفة قادرة علـى احتواء المتناقضات واستنكارها، أن تجد لها الحلول أو على الأقل التوافق، و إلا انقلبت إلى خلق واقع آخـر وهمي نابع من أهواء الفنان وشهواته وضروراته الحسية ولا يمثل الوجود الحق، فتكون الخسارة مضاعفة إلـى الخسارات السابقة. فالثورة سلاح الوعي النافذ والفهم العميق لحقائق الأشياء ودقائقها، وإلا فهي الفوضى بعينها مع التسطح، وهي الرصاص يجرح حامله مع الغباوة والتسرع( ).
يبقى الفنان في همه وعمله محكوماً بالتوتر القائم بين المثالي والواقعي،وعلى افتراض أن الحرية لا تتحقق إلا في ظل الوعي الحق والتوافق الجمالي بين الحساسية والفكر، على اقل تقدير، فمن الممكن عد الفن( لكونه بعدا معرفيا تتحقق فيه وحدة الذات والموضوع)، صورة للواقع كما يجب أن يكون بوصفه رفضا لما هو كائن وتحريضا عليه . هذه الصورة التي لا يمكن تحقيقها إلا عن طريق الخيال في عالم الفن، أو في الواقع ضمن شروط إلهية متحققة بالقوة وتمتلك وجوب تحققها بالفعل(*1) . والفنان في سعيه إلى تعرية الواقع وإظهاره على حقيقته أمام الواقع المثالي، فهـو ضمناً في سياق المواجهة بين الواقعي والمثالي ويعبر “بريشت” عن تلك المواجهة القائمة بين الكاتب لـ “فرحه فـي غمار النطق بالحقيقة” والنظام القائم والتي تؤدي إلى أن تكون الحقيقة ثقيلة وغير مرغوب فيها وباعثة على استياء النظام( ):
أنت يا من تتصدى للقيادة لا تنس
انك تقود لأنك شككت يوماً في القيادة !
لذا فاسمح لأولئك الذين يُقادون
بالشك! .
* * *
حامد سرمك حسن : الضرورة الجمالية للفن
تعليقات الفيسبوك