مؤيد داود البصام : الحب والكراهية في رواية عطار القلوب

muaiad albassam 1المقدمة:
أول ملاحظة تتبادر الملاحظة الأولى، عند قراءة أعمال الروائي محمد برهان * وهي اللغة الشاعرية، والجمل المنتقاة بعناية المحترف، الذي يصوغ عقدا أو أسواره من اللؤلوء، له هذه الإمكانية في بناء الجملة الجميلة والمعبرة، والتي تجر القارئ للتأمل وملاحقة النص، وهذا ما يجعل قراءة أعماله من القراءات الممتعة بما تحمله لغتها الجميلة، والتضمين السهل والمضغوط، الذي لا تجعل القارئ يمل الإطالة والتمطيط، والخروج عن الموضوع الأساس أو الثيمة في سرد يفقد طاقته السردية لثقل الحمولة التي يفرضها على المتلقي، في تحليلات أو تصورات يعتقد الكاتب أنه يفيد بها التطور السردي للحكاية، حتى يضحى مفسرا ومحللا لما يمكن أن يستعص علي الفهم أو شرح الرموز ودلالاتها، معتقدا أنه يقدم إمكانياته المعرفية لفائدة القارئ، دون أن يدرك أنه يستلب حق المتلقي في البحث والتقصي والتأمل وكشف المخفي ومشاركة الكاتب الدهشة، والروائي محمد برهان يجرنا بطريقة غير مباشرة للانغماس في ما يريد أن يقوله لنا عن الواقع السياسي الذي يعيشه المواطن في العالم العربي، وإن كان يخص في كتاباته سوريا زمانا ً ومكانا ً في النص الذي بين أيدينا، إلا أنه يتحدث عن الواقع والهم المرير الذي يشترك فيه الإنسان في مختلف أنحاء الوطن العربي والشعوب المغلوبة على أمرها، الهم الذي يستلب حياته وحياة الآخرين، دون أن يقع في المباشرة، والنصوص الإيديولوجية، مستثمرا الرؤى التاريخية للقصص والحكايات الشعبية، مع الحقائق التاريخية بما هو حلمي وسحري وفنتازي، متخذا التقنية التي تمتاز بها حكايات ألف ليلة وليلة، في تضمين التضمين والبناء السردي المركب، ومن ميزات أعماله إن بدايتها مرتبطة بنهايته بشكل متماسك، يربط ما بدءه من رؤية كمدخل للنص مع النهاية، على الرغم من اختلاف الحكاية، ما بين البداية والنهاية، وتظل الحبكة هاجسه في الربط لئلا يشتت متلقيه.
عطار القلوب…والمعنى الرمزي.
يتحدث في روايته واسمها، (عطار القلوب )، ويكشف اسم الرواية عن معنى النص، القلب مركز الإحساس مجازا لمشاعر ( الكراهية. والحب )، فهو يرمز لشئ خارج إطار الواقع، معنى روحي وحلمي عن كيفية إيجاد الصلة بين أنا والآخر بالحب، ونزع الكراهية من قلوب البشر، فهو يتحدث في القصة التي يسترجع بها أيام طفولته، عما حاولاه والدي الأميرة شاهناز التي أصيبت بمرض عجيب، لم يستطع الأطباء من علاجها أو كشف أسباب مرضها، ومن إحدى الحالات أنها تصاب بآلام مبرحة من رؤيتها بعض الناس، ” لقد حاول الأبوان رصد الصفات التي تجمع بين كل هؤلاء والتي تجعل ابنتهم تنتكس في مرضها جراءهم فلم يجدوا إلا صفة واحدة.. ” الكراهية “.. هؤلاء الأشخاص كانوا حقا ًيشعون كراهية. “ص76 ، وهكذا يؤطر عمل العطار ( البائع ) بشي اسمه الحب، وهي رواية لصناعة الحب في قلوب ” الآلاف المؤلفة من الرجال المدججين بأسلحتهم المتقاذفين بالنار..” ص136، تتكون الرواية من 13 فصلا ً مرقمة بدون عناوين، يروي فيها، عبر مقدمة هي فصله الأول، واصفا الواقع الآني الذي يعيشه تلك اللحظة، عالم يتقاتل بالرصاص والقنابل ومدافع تضرب، وعزل يلوذون تحت الطاولات حماية مما ممكن أن يقع لهم، لآلة عمياء لا تعرف أين تقع وعلى من تقع، يصور الرعب في عيون الأطفال وحرص الأم على أطفالها، وينفرد الراوي الكلي العليم، في محاولة إيجاد الصلة بين واقعه الذي يعيشه ضمن ظرف من المحنة والمأساة، لرجل وزوجته وطفليه، والعالم الآخر الذي لا يعبأ بما هم فيه، يشهدون تkh mohamad borhanقاتل الإخوة بين بعضهم، من دون أن يدرك أولئك أنهم يرسخون حقدا ما كان له أن ينوجد أو يقع بينهما، لو اتخذوا طريق الصفاء وتقاسم الحياة بما هو مقسوم لكل واحد، بالحب دون التفكير بالاستلاب والاستحواذ، ويعدد أشكال وأنواع الحب، في مقاطع حوار بين ذبابة وورقة شجر تحط فوق ظهرها، فتقول الورقة للذبابة” الحب هو أن يكون لك شجرة وارفة يرتاح في ظلها المتعب والظمآن ” ، فينقل رؤى الزوج ( الراوي الكلي العليم ) وهو يحتضن عائلته ويتحسس جسد زوجته في هذه البقعة الصغيرة تحت الطاولة التي حشروا فيها اتقاء القصف، بلا وعي المرعوب الذي يريد الهروب مما هو فيه، فيلجأ إلى الحلم، في حلمه الذي يتشكل عبر رموز الطبيعة لينتقي أضعف موجوداتها عصفورة، رمزا للحرية والحب والجمال، كما انتقى ورقة شجر صفراء للحوار، ” تخيلوا معي ما الذي يمكن أن يغيظ زلزالا ً عنيفا ً قهر غابات البيتون وهدم الأبنية وزرع في الطرقات شقوقا ً أكثر من عصفور لم يعبأ بكل ذلك لأنه ما يزال قادرا ً على التحليق: ” ص13 ، ويمتد حلمه الذي يعيد له استذكار الأحداث الجميلة في حياته، ليغرق لحظتها بالهرب مما هو فيه، ولكنه يعي أن ما يحدث له، شريط ممتد عبر الزمن تترابط به الأحداث الجسام، وأن استذكار أضحت مؤرخة بهذه الأحداث الجسام التي هزت كيانه وكيان مجتمعه، يعود إلى الأحداث التاريخية في حياته ليربطها بما يحدث في الزمن الراهن، زمن ألحكي . فيتم إحالة سخونة الأحداث في زمن حدوثها إلى دلالات مخبوءة في طيات عقله من الزمن الغابر، .حصلت معه ليعيد ترتيب الأحداث على ضوء رؤيته الحلمية ضمن الواقع الآني الذي يعيشه، ويأتي على أول استذكار لشخوصه، التي أثرت في تكوينه النفسي، بحيث تسارعت للحضور في أول محاولة لحل ما هم فيه من مأساة، عبر بطله الحاج محمود العطار، ” معرفتي بالحاج محمود العطار بدأت نهاية حزيران عام سبعة وستين، ألم أقل لكم إن حياتي مؤرخة دوما ًبالأحداث الكبيرة “. ويسرد كيف أخذه أبوه للعمل في سوق البزورية في دمشق، بداية العطلة الصيفية للمدارس عند الحاج محمود، ” صورة الحاج محمود العطار كلما تذكرته هي ذاتها صورته عندما التقيته أول مرة.. منهمك أمام دكانه بتصفيف أكياس الخيش المملوءة بالتوابل والبذور ومرتديا سرواله البني الفضفاض وقميصا ً أبيض محتشدا ً بالجيوب ” ، الرواية في سردها، تبدأ في التاريخ الحديث لأحداث ما يقع في سوريا من مأساة الحرب الطاحنة، ويسحب التاريخ غير الموغل في القدم إلى الحاضر، على خلاف تناوله التاريخ القديم في روايته ( خطيئة الكاهن )، لقراءة الحاضر، في هذا العمل محاولا تفسير ما يحدث في سوريا الآن، وإيجاد إشارات وعلامات للخلاص مما يحدث من مأساة، . فيتم إحالة سخونة الأحداث في لحظة حدوثها إلى دلالات ورموز، يرى أنها القادرة على إعطاء الحلول لما يحدث، مسترشدا بالحكايات والشخوص الشعبين، وعلى الرغم من انه يستقي من ذكرياته المادة التي يقارن بها بين الزمن الحاضر والزمن الماضي غير البعيد، إلا أن الحدث
الماضي يحول الخطاب السردي إلى حاضر يفرض هيمنته على الواقع بصورة حية ودالة، وهو يدخل في تضمين التضمين، بحيث تتحول الحكاية الأولى إلى حكايات تتواصل مع بعضها زمنيا، وتدخل عبرها حكايات أخرى، ليواصل السرد محطات متلازمة، يوصل بها الدلالات من دون أن تفقد روحيتها في الماضي القريب أو البعيد، متأثرا ً بتقنية ألف ليلة وليلة، وكأنه يعيد تأثيرها السردي في عمله كما سبق وذكرنا، وإذ كان الميتا سرد الذي اشتغل عليه محمد برهان في روايته الأولى، مشتغلا على التاريخ في محاكمة الحاضر، إلا أنه في هذه الرواية يجمع الخيال بالواقع، واتصف عمله بالجهد السردي التخيلي، وجعل العمل المصطنع للواقع التخيلي، واقعا ليطرح العلاقة بين الخيال والحقيقة، من خلال رواية الرواية، فالعليم الكلي يروي لنا قصته مع الحاج محمود العطار الذي اشتغل عنده أيام الطفولة، يعود لذكرياته في اللحظة الحرجة من حياته وحياة عائلته ومجتمعه، حاج محمود بائع الزهورات والأعشاب التي يشتريها من القرى النائية في ربوع سوريا، ويصنعها في دكانه، ثم يأخذنا في سرد حكاية الحكاية، عندما ينعطف ليروي ما رواه الحاج محمود من قصص لصديقه العم أنطوان النابلسي ، ” قصص ومآثر لا تنتهي يرويها الحاج محمود عن جده شيخ العطارين الحاج إبراهيم العطار الذي جعل من دكان السعادة هذه قبل نحو مئة عام أسطورة تروى وسمعة تضرب الآفاق من سومطرة إلى خرسان ومن المغرب حتى الأستانة. ” ص25.
البؤرة المركزية في رواية التضمين.
kh mohamad borhan 2الزمن في الرواية غير محدد، بزمن الحكاية الأولى تحت الطاولة والقنابل يهدر صوتها فوق رؤوسهم، ولا بزمن دكان الحاج محمود ، ولا بالحكايات عن شيخ العطارين الحاج إبراهيم العطار جد الحاج محمود، بل هو تتالي الحوادث وتشكلها التاريخي والحاضر، الذي يريد السارد أن يوصلنا إليه من خلال كل السرد في الحاضر والماضي القريب والبعيد، ” لم يكن علاجهم هو الحكاية بل مرضهم نفسه.” ص26، فهو يروي لنا القصص ليثبت ما يعانيه وعائلته تحت الطاولة التي حشروا تحتها والمجتمع جميعا ً، إن الحكاية ليس فيما سيقدمه من علاج، ولكن في مرض الكراهية الذي اجتاح الجميع، وأصوات قصف الطائرات والمدافع، ورائحة البارود، ما هي إلا ديكور، مع إستذكاراته عن عطار القلوب ( الحاج محمود ) وتاريخه، ويستدعي كما هائلا ً مما تكدس في ذاكرته من ذكريات وقصص، التي احتفظ بها، حتى يصل إلى البؤرة، لتكتسب التجربة التي يعيشها رؤاها اللغوية من العمل أثناء العطل الصيفية، منبع الحكاية، فهو إلى جانب سرده لعمل الحاج محمود يروي سفراته معه للبحث عن الأعشاب، وكيف علمه صناعتها وتحويلها إلى دواء يشفي القلوب العليلة، إن الحكاية التي اعتمدها في سرده الواقعي المتخيل، ” ذلك سمح لي أن أبني صورة مكتملة المعالم عن شخصيته الأسطورية، بل إني دأبت بعد ذلك على استكمال ما نقص منها عبر الخيال حتى لم يعد يفصلني حاجز عن كتابتها. “ص72، فهي حكاية ليس عن عطار أعشاب يداوي أمراض الناس، إنه عن عطار يداوي القلوب، ويزيل الكراهية من نفوس وقلوب البشر، ويحولها إلى مشاعر الحب، وخلال تقديمه بطله وسرده تاريخه وعمله، والفنتازيات التي يسرد فيها مجموع القصص والحكايات، يتحول بنا بين الحين والآخر لقص ما يعانيه وعائلته وهم محشورون تحت الطاولة، درءا من القصف المدفعي، ثم يعود للمقارنة بين الآن وما كان يقوم به العطار محمود وجده إبراهيم من مداواة قلوب الناس، وتحويل الكراهية إلى حب وتآلف، وهي لازمة تستمر إلى نهاية الرواية حتى يستمر الترابط، ولا يفقد المتلقي الخيط الذي يربط بين الأحداث، وفي تضمينه قصة الفتاة شاهيناز التي أغرم بها الحاج إبراهيم جد الحاج محمود، تفسير لما أراد أن يقوله في الرواية، أن الحب والكراهية مزروعتان في قلوب الناس، ” بعض الناس أيها العطار ترافقهم تلك الرائحة أينما حلوا.. أصادفهم في السوق في الأزقة والحواري ويزوروننا أحيانا ًفي البيت..”ص77. ويدرك الحاج إبراهيم حقيقة مرض الفتاة، وهو ما أراد محمد برهان أن يقوله في مجمل الرواية، ” أيقن العطار سريعا ً أن الأميرة ليست هي المريضة أبدا ً بل إن العالم من حولها هو المريض…ومركز العذوبة الذي يفوح من طرفها ليس سوى مركز الحب الذي يكابد ليشق طريقه نحو قلوب الآخرين.” ص78. ليس دمشق ولا سوريا ولا أبناء سورية، بل هذا العالم المريض الذي ينقل فيروسه للقلوب، وتشكل حكاية الأميرة شاهيناز النقطة المركزية في الرواية، إذ حولها تتمحور الثيمة الرئيسية التي أراد الروائي محمد برهان الحديث عنها، وهي قضية (الحب والكراهية ) عند البشر، تحليلا لما يحدث حوله وهو مكدس يحلم بزوجته التي إلى جانبه، ويتذكر أن للعالم حياة جميلة أخرى غير هذه الحياة التي فرضت علينا، ولكنه يحاول أن يجد العلاج لتغيير الواقع عن طريق الحلم، حينما تقول الأميرة شاهيناز للعطار إبراهيم جد العطار محمود، ” كنتُ طوال الأيام الماضية أخافُ أن أصارحك بما تحدثني به روحي عنك فنغدو كالعشاق البلهاء لا تعرف أن تطفئ حبك إلا بالوصال، وهذا محال لدي، لأنه قد يقتلني… أعلم ُ أنك لن تقدر على علاجي وأنا أصلا ً لا أرغب بعد اليوم في أن أشفى، فهذا قدري الذي لن أهرب منه.. فقط وصيتي إليك أن لا تتأخر في علاج مكلومي القلوب وأن تنذر معرفتك لنجاتهم، فهؤلاء المساكين لا يجدون في هذا العالم من يساعدهم. “ص81. إنها اللحظة التي أستجمع بها كل الذي رواه لنا ليقول متمنيا ً: ” في يوم قادم من لحظة الثلاثاء أو ربما من يوم الخميس عند الساعة السابعة مساء أو ألطف بقليل سيجلس سوري ٌ مع أولاده دون دم على التلفاز أو عويل في بيت قريب، مستلقيا ً على سطح بيته فوق فراش من طمأنينة، يتأمل النجوم ولا يخشى أن تسقط فوق رأسه، يصغي لهسيس صرصور الليل، كأنه سيمفونية النجاة، محاولا ً أن يتذكر بابتسامة صفح صمت القنابل ويفرح، يفرح لفشل المحاولة، ” ولكنه يستدرك ، ” متى تحين تلك اللحظة وكم من هذا العبث سوف يسبقها ؟…” ص135 .وكما قال الأمير عبد القادر في خطبته عندما حلت المأساة على مدينة دمشق وهو يشرح للمجلس ما مر بالشام، ” أي لعنة حلت بالمدينة جراء فقدان روح التسامح والمودة التي وسمت العيش فيها لقرون.” ، الفايرس أو المرض القادم من خارج رحم المدينة وإنسان المدينة، وتبقى الأمنية يمكن أن تكون في مثل هذه اللحظة، عندما نشرب الشاي، الشاي الذي أعده وقتها العطار إبراهيم، عندما أجتاح مرض الكراهية مدينة دمشق في الأيام الغابرة، لمثل هذه المأساة التي نعيشها هذه الأيام ، ” شاي القلوب !!.. نعم أنا الوحيد في هذه المدينة المنكوبة من يعرف عنه.. ماذا لو كان هو الحل ؟! ” … ” أهدأ قليلا.. بالطبع لن أستطيع وحدي فعلها، لكن ماذا لو كنا عشرة أشخاص.. عشرين، مئة أو حتى ألف بعرباتنا وأباريقنا وأولا ً وقبل كل شيء بقلوبنا ؟!!…” .
– ( عطار القلوب ) الرواية الثانية التي أكتبُ عنها للقاص والروائي محمد برهان ، فقد سبقتها رواية ( كاهن الخطيئة بلا خطيئة ) والتي نشرت عنها دراسة في صحيفة الزمان الدولية في 30 / آب / 2013، والروايتان من إصدار دار فضاءات للنشر في عمان.

تعليقات الفيسبوك

شاهد أيضاً

| جمعة الجباري : قراءة الدلالات الشعرية عند الشاعر صلاح حمه امين في ديوانه “عقارب الساعة التاسعة”.

* صلاح الدين محمد أمين علي البرزنجي المعروف بالاسم الحركي صلاح حمه أمين،  شاعر وفنان …

| اسماعيل ابراهيم عبد : على هامش ذاكرة جمال جاسم امين في الحرب والثقافة – تحايثاً بموازاة عرضه .

الكاتب جمال جاسم أمين معروف بين المثقفين العراقيين باتساع نتاجه وتنوعه كمّاً وجودة , فضلاً …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *