نوال هادي حسن* : (بوصلة القيامة فن التعبير عن الواقع) دراسة في رواية (بوصلة القيامة) الفائزة بجائزة الشارقة للإبداع العربي للروائي (هيثم الشويلي)

haitham alshoaili* جامعة الكوفة.
لماذا (بوصلة القيامة)؟
تعد الرواية من أبرز الفنون الأدبية ولها مكانة متميزة في أدبنا العربي، لأنها غالبا ما تمثل انعكاسا لقضايا واقعية، تتصل سيكولوجياً بمعاناة وأحلام الفرد والمجتمع العربي تجاه قضاياه المعاصرة والتي يغلب عليها طابع التأزم والّلاستقرار السياسي والأمني والاقتصادي والديني العام، والذي – بطبيعة الحال- يحيل إلى تأزم وعدم استقرار نفسي وفكري على المستوى الفردي والمجتمعي.
ولعل الرواية العراقية المعاصرة من أكثر الروايات العربية وأشدها تأثّراً بهذه القضايا كونها تمثل أحد انثيالات الأثر النفسي لأزمات عاصفة يمتد عمرها قرابة تسع عقود.
فروايات الخيال العلمي وروايات الرعب والتحول الجيني تعد ضربا من المغامرة من قبل الراوي، لأن الراوي عادة ما يأخذ بنظر اعتباره السقف البياني لإمكانية التقبل الذهني والنفسي لدى المتلقي العربي والعراقي، والذي يفضي إلى نفور ذهني ونفسي حاد ، لأسباب عدة.
فالنفور من رواية الخيال العلمي العربية والعراقية مرجعه الى عدة أسباب جوهرية أهمها عدم معايشة المواطن العربي والعراقي لتطور على مستوى إنتاج التكنلوجيا المتطورة وامتلاكها، لذا فان إنتاج روايات تتحدث عن غزو الكواكب وتحويلها إلى مستعمرات عربية أو عراقية، وتحويل الإنسان – بعمل عربي أو عراقي – إلى كائن آخر عن طريق التداخل الجيني أمر اقرب ما يكون إلى المستحيل بحسب استقراءات العقل العربي عموما والعراقي خصوصاً، ورواية عربية أو عراقية في هذه المجالات – على أقل تقدير من ناحية الرّواي نفسه – تعد مغامرة ربما تجلب لروايته السخرية ثم الصدود عنها.
وعليه فإن المؤشر البياني لمدى تقبّل المتلقي العربي والعراقي يتحزّب دائما إلى السرد الواقعي وهو ما يحدو بالراوي العربي والعراقي إلى تكريس تقنياته السردية وصهرها في بوتقة الواقع.
ويظهر ذلك جليّاً في الرواية العراقية المعاصرة، التي عادة ما تعكس صور العنف والإرهاب والاضطهاد والاستبداد الحكومي، كرواية (فرانكشتاين في بغداد) الحاصلة على جائزة البوكر لعام 2014 للروائي العراقي أحمد السعداوي.
وكذلك نلاحظ هذا جليا في رواية (بوصلة القيامة) والحاصلة على المركز الثاني بجائزة الشارقة لعام 2013 للإبداع العربي للروائي العراقي (هيثم الشويلي).
فنلاحظ أن الراوي هيثم الشويلي استقطع من تاريخ العراق المعاصر حقبة زمنية تعتبر من أصعب الحقب الزمنية التي مرت على العراق، والتي تمثل مؤشرا بيانيا خطيراً للتحول السياسي والعسكري والأمني والاقتصادي والاجتماعي والتي تمثل النقطة الشاهقة في منحدر الأحداث الأليمة والمفجعة التي تقتضي توالد وتوارث الأشدُّ والأدهى من الأزمات والفتن .
فيكشف الشويلي أنواع العذاب والإجرام الذي مارسته السلطات آنذاك لتكون للأجرام جرعة حتى للطفل الرضيع لِيحرم من أدنى حق له، كالعيش في حضن والديه.
عندما وصلتني الرواية محملة بكلمات هي منابر للوجع ، وبعض من الم الروائي تلقفتها يدي إلى القراءة ومعرفة ما فيها فأضحت لا تفارقني حتى انتهيت من قراءتها في يومين مشحونة بالأسى مع ما يجري في بلدي فكأن كلاهما – الرواية والحقيقة – يتحدثان: أن الوجع لازال يئن، فكلاهما موجود لكن لكل منهما ألوان مختلفة تتشابه في المضمون.
يقول الراوي (هيثم الشويلي) في مطلعها: (كلّ الروايات لم تكن أقرب من الخيال بقدر الحقيقة التي أصبحت شيئا من الخيال في مملكة الجحيم الرواية تحكي قصة رجلٍ تشبثَ بالحياةِ بقوةِ مقاتلٍ، رجلٌ يملكُ ثلاثَ أمهات ورابعتهم الجدّة).(1)
حديثه هذا ذكرني بقول للناقدة المغربية الدكتورة أسماء غريب في حديث معها ذات يوم حين قالت :( إن الوضع في العراق أصبح وضعا يفوق السريالية ).
ربما لم يتهيأ للناس أن يعرفوا ماذا فعل حاكم العراق المخلوع صدام ببلده وشعبه لشدة التعتيم الإعلامي وقتها، ولكن هذا العذاب ظل محفورا في ذاكرة الأغلبية لما شهدوه من ظلم وتهجير و قسوة، حتى أصبح كالجحيم الذي لا يطاق.
فمن أراد أن يطلع على عذابات العراقيين وويلاتهم في عهد البعث فليقرأ رواية بوصلة القيامة فهي مختصر لربع قرن تنفس العراقيون الهواء فيه على مضض.
فها هو الشويلي هنا يثبت لي فيما لم اشك فيه يوما، أن العراق بلد الروايات الخيالية الواقعة على أرضه فعلاً وبدون رتوش من خيال راوٍ أو من مكنونات نفسه، كل شيء كان يتنفس على أرض الحقيقة، وهي الحقيقة التي أغدقت بكرمها على الأبطال جحيمها.
1- عتبة الرواية (العنوان):
kh haitham alshoailiالبوصلة هي جهاز تُعَيَّن به الجهات.
والسؤال هنا: كيف تكون هذه البوصلة دليلا أو مُتَّجها للوصول إلى القيامة؟ ماذا عنى الشويلي بعنوانه هذا ؟ وما هو التناسب البياني بين العنوان ومضمون القصة؟
إن ما تحملتّه الرواية من ألم يكاد يفيض، فالسكوت مقابل تحمل كلّ الألم، والعيش بالسقم وبالموت البطيء، أو الرحيل بأبسط طريقة من هذا الجحيم إلى أرض الله الواسعة تحت أو فوق التراب.
وفي إحصائية قمت بها وجدت أن المعجم اللغوي لهذا الرواية يحتوي على كلمات عددها (38،133 )، وردت لفظة (الموت) و(القتل) (173) مرة بينما وردت لفظة (الحياة) أو ما يدل عليها كـ (عاش) و (عشت) (48) مرة، فيكشف لنا هذا عما تجود به أحداث هذه الحقبة الزمنية من مآسٍ مفعمة بالموت، في مقابل ضآلة المعدل الإحصائي للحياة التي ربما تمثل مقدار ما يسد رمق وجود الإنسان في تلك الحقبة على أرض هذا البلد.
وليس الأمر يقف عند هذا لحد بل لنتوسع أكثر ولتنظروا معي كيف يبدو الأمر أكثر هولا عندما نرى نسبة الحياة أو ما يدل عليها في كلمات الرواية حيث تساوي نسبة (0.001) من مجموع كلماتها، في مقابل نسبة (0.004) الذي تمثل القتل والموت، أي أن الموت يمثل ثلاثة أضعاف الحياة، وما ذلك إلا انعكاس لمدى واقعية أحداث الرواية وعدم مبالغة الراوي فيها.
وأما حصيلة إحصاء حروف الرواية على المستوى الصوتي فقد كانت كالآتي:
الحصيلة الأكبر من حروف الرواية من ذوات الصفات الجهورية اللثوية كانت من نصيب الهمزة مع الإلف ومن دونه وهي من أشد الحروف وأصعبها في النطق التي بلغ مرات ورودها (29988) ثم يأتي حرف اللام المائع المجهور ليصل عدد وروده في الرواية إلى (16673)، ثم حرف الياء وهو حرف غاري مجهور إلى (12498) ويليه حرف النون وهو حرف مجهور أيضا وبلغ عدد مرات وروده في الرواية إلى (10388) وهكذا.
فهذا الكم الهائل من الحروف الجهورية التي غلبت على حروف الرواية والتي تدل على القضايا الخطيرة والصعبة التي يريد الراوي أن يفصح عنها، إنما يدل على حجم المأساة وخطورة الأمر.(2).
فيما لم يرد لفظ السعادة إلا مرة واحدة في مقام الظن حينما قال:((انقطع أبواي عنّي وعشتُ مرارة اليتمِ منذ الصغر، إلا أنني لم أشعر بها في بداية الأمر فالقابلة (سهيلة) كانت كأمي والحاجة (بدرية) هي العين التي ترعاني ولا أكاد أفارقها قط، لأنني وقت أن وقفتُ على قدميّ ما كنت أنام إلا بجوار أمي الحنونة التي لم تفارقني مطلقاً.. الحاجة (بدرية) ولاسيما عند غياب أمّي الجديدة (سهيلة)، فمنذ أن بدأت بواكير الأشياء تتفتحُ لدي علمت أن (القابلة) هي أمّي التي تبنّتني وأن أبي الذي لم يشعرني قط بحنانه هو (جبار عبد عطيه) وأن (كاظمية) التي سُجلتُ باسمها في سجلات النفوس العامة هي أمّي التي ولدتني و أهدتني لـ(سهيلة)، هذا ما نما معي منذ أن كنت كالزهرة التي تتفتح رويداً رويداً لحياة جديدة قد تكون جميلة تحمل بين طياتها الراحة والسعادة، وقد تكون مؤلمة محزنة يشوبها الهم والغم)).(3).
ثم يبدأ يبين لنا من كلماته حدودا لشخصية البطل فقال: (الروايةُ تحكي قصّةَ رجلٍ تشبّثَ بالحياةِ بقوةِ مقاتل، رجلٌ يملكُ ثلاثَ أمهاتٍ ورابعَتَهُم الجدّة ).(4)
فيظهر لنا مدى تشبث البطل بالحياة رغم الجحيم وبقوة مقاتل لم تنل منه المصائب ولم تثبط همته ، وهذا الرجل يملك ثلاث أمهات والرابعة جدته. السؤال الذي يتبادر إلى الذهن من أين له هذا؟
إذا لم تتمكن من الحصول على نسخة من الرواية فعليك بقراءة عرض الرواية لتعرف الإجابة.

عرض الرواية :
تبدأ روايته في يوم قد يكون هادئاً وقد لا يكون، تبدأ الرواية بسلسة جمل منفية وظنية قصيرة، ليرسم لنا أوصاف هذا اليوم ، قد يكون يوماً ربيعياً معتدلاً يقل تواجده في بلادي لأن الأيام الربيعية لا تحب الإقامة في العراق، فهي في سفر دائم ككل شيء جميل .
يبدأ هو بالمماطلة للخروج من بطن أمه متشوقاً للعوالم الجديدة ، لكنه لا يعرف إن الخطر يترقبه خارج أسوار رحم أمه .
(أحمد) الطفل الذي يسرد لنا بعقل الرجل ما مرَّ به من صعوبات، تجبره على البقاء في رحم أمه (سعاد)، وهو بين فينة وأخرى يضجُّ منتفضاَ عليها، كان لابد له من أن يشق الظلام إلى ظلام أوسع، و تشاء القدرة الإلهية أن يجعل الليل ستراً لوالديه فالأب مطارد من قبل أزلام الدولة، ولا يستطيع الخروج إلا تحت جنح الظلام .
فبدأ التشاجر الأخير بينه وبين والدته هي تتوسل إليه بالبقاء قليلاً حتى تصل إلى القابلة ( سهيلة) وهو يريد إن يجلس خلف قضبان الأيام .
في النهاية أذعن لأمه حتى وصلت إلى القابلة ، فيحين موعد ولادته، فرحة قصيرة أعقبتها نخب همّ ثقيل.
فتتركه عند القابلة لأن الصغير مريض، ولا يمكن لها الاعتناء به أو إرساله للمستشفى؛ فأمّهُ (سعاد) لا تملك حرية الدخول والخروج بحكم الشوارع التي تسكنها ماسحي أكتاف البعث.
بعد أن توسل بها زوجها النقيب (جليل) بتركه عند القابلة لأنه يرى رائحة الخطر تقترب، فتمتنع وتقرر (سعاد) البقاء مع صغيرها المريض قابعة مع حزنها، وهي تراه يذبل لحظة بعد أخرى، ثم تضطر إلى الرحيل خشية على حياته، فتشمّه وتعلق عليه أشياءاً وثقت بمباركتها من الربّ، وترحل مع أبيه (جليل).
فاختفت رغم الحنين الذي يضجُّ في صدرها، فعيون (صدام) لا تصوم عن مراقبة الناس.
تقوم (سهيلة) القابلة بتحمُّل مسؤوليات الطفل المريض فقد كانت حالته خطرة ، تبكي على شدة ضعفه وتردِّي صحَّته، وهنا تظهر لنا شخصية محبوبة لدى (أحمد) وهي الحاجة ( بدرية) والتي رضع منها الحنان منذ أول أيام حياته فقد كان يراها (ملاكاً تحمل من الطيبة ما يحمله الملائكة من حبّ الله، كانت أرقَّ من نسمة، وأعذب من ريح الصبا)(5).
تنظر في وجهه تتلقفه إلى أحضانها وتعالجه بالطبِّ الذي عهدته من أزمان سابقة لعلاج مرض (أحمد) الخطير، فتتحسن حالته بعد أن يأخذ علاجها البسيط ويعود للإنتكاسة مرة أخرى ويجبر الجميع على تسجيله باسم غير اسم والده (جليل) واسم أمٍّ غير اسم والدته (سعاد) لتسهيل إدخاله إلى المشفى لتلقِّي العلاج فتسجِّله (سهيلة) باسم أخيها جبار وزوجته لأنها ولدت ابنة في ذات اليوم الذي ولد في أحمد، فقامت بتسجيلهما على إنهما توأم فتنجح في ذلك بعد أن نضبت كل الحلول أمامها وتدخله المشفى ، فيعالج وتبث الروح في هذه الوريقة الصفراء مرة أخرى ليترعرع بين أحضان الجدَّة وصوتها الملائكي وبين أحضان أمه (سهيلة) القابلة إلى أن أصبح فتى في السادسة من عمره ليلتق أول مرة بهما عندما قدما لبيت القابلة (سهيلة ) يسألونها عن حال حفيدهما فيصعقان ويبكيان حينما يسمعان بموته، لان القابلة سهيلة التزمت بما أوصاها النقيب (جليل) بأن لا تسلم الولد إلى أي شخص عداه.
ثم أخبرتهما الحقيقة بعد أن تيقنت من صدقهما. فتعاودا على زيارته إلى أن وافتهما المنية .
وهنا قد جالت في ذهني بعض التساؤلات منها:
1- لماذا وافقت القابلة سهيلة على تبني الطفل لاسيما وهو مريض ورضيت بتحمُّل هذه المهمة الجسيمة؟ وما صلة المعرفة القوية التي تربطها بالسيد جليل؟ مع العلم انه ليس من أقربائها وكما هو واضح عند قدوم جدَّي أحمد والسؤال عنه وقد قابلتهما بالنكران.
فلو كانت من أقربائهم لعرفتهم ورحَّبت بهم ولم تنكر الحقيقة أصلاً ، هذه الأشياء باتت غامضة لديَّ لم يكمل رسمتها الشويلي لتتضح الرؤية عندي.
2- لِمَ تأخر الوالدان كل هذه السنين في السؤال عن صغيرهما ومعرفة مصيره حتى وإن كان ذلك صعباً فلا بد من طرق لمعرفة الخبر، وكذلك الأجداد، وهناك تساؤلات أخرى سأطرحها في حينها.
ولعلِّي هنا – وبالاعتماد على المؤشر البياني لكلمات (القتل والموت) في الرواية وغلبة الحروف الجهورية اللثوية ودلالاتها المنعكسة على تلقي النص – ألتمس لهما بعض الأسباب التي لم يفصح الراوي عنها – ربما – لفتح آفاق التشويق والتفاعل بين النص والمتلقي.
فلعلَّ الخوف على النفس من الوقوع في قبضة رجال الأمن والحزب آنذاك كان أحد أهم الأسباب لعدم محاولة السؤال عن ابنهما.
أو لعدم تعريض القابلة لخطر الاعتقال كونها ذات جميل عظيم عليهما وعلى ابنهما، فتكون – بالإضافة إلى كونها في خطر كبير – الخيط الموصل إليهما وإلى ولدهما، أو للخوف على حياة الولد نفسه.
لكن هذا كله لا يبرر عدم السؤال ماداما لم يهاجرا خارج البلد، فثمّة وسائل يمكنهما – ولو لفترات متقطعة متباعدة – أن يتعرفا على حال ابنهما ولو عن كثب.
ونعود إلى عرض بقية أحداث الرواية، فيكبر أحمد ويدخل مرحلة جديدة من العناء والأسى بعد أن شقَّت رأسه الشكوك بسبب تفوه ابن الجيران بكلمات غريبة ( ابن من أنت؟)
وبدأت دوامة الأسئلة لا تتوقف عن الدوران ومن هنا بدأ العذاب الحقيقي والنفسي له ..يبحث في دهاليز أمه (سهيلة ) وجدَّته (بدرية) ما سرّ العاطفة المفقودة نحوه من أمهِ (كاظمية) وأبوه (جبار)؟.
سبب آخر لتكون شكوك وثقى.
ثمة أشياء تعلن بقوة إنهم يفرِّقونه عن إخوته فهم لا يمنحونه الحب مثل أولادهم البقية، أخته التوأم التي ولدّت معه لا يشعر بأن هناك شيء يربطه بها، بل أن (كاظمية) بدأت تضايقه وتنزعج منه، وتغتال ضحكاته البريئة أحيانا أخرى، ثمة سأم يحاور أيامه، حتى أنهما لم يتأثرا بتلك الشائعات التي يطلقها الأولاد في المدرسة والشارع، كان يصرخ ويتوسل بأن تفتح له (سهيلة) أبواب الحقيقة، ولكنها في كل مرة تبقيه متحيّراً مستنكرة هذه الشكوك وتزيل الجدَّة (بدرية) هذا الحزن عنه بابتسامة ساحرة أو كلمة واثقة، ويستمر الصراع من أجل معرفة الحقيقة ولا مفر من الصمت المطبق وهمسات الآباء والأولاد تنمو بسرعة، مما اضطره إلى ترك المدرسة بالرغم من كونه متفوقا فحالته النفسية بدأت تزداد سوءا وبمرور الأيام بدأت جدته (بدرية) تصارع آخر ما تبقى لها من أيام؛ وتبدلت الأجواء الحزينة حزنا أكثر، وما إن علمت بقدوم الموت حتى نادت (سهيلة) وبحضور( احمد ) فطلبت منها أن تخبره عن الحقيقة وان توصله لأهله وأخذت منها وعدا بذلك وكانت هذه وصيتها،ثم رحلت بكل هدوء على أجنحة الملائكة .
في كل مامر يختبئ الكاتب خلف الراوي فكما هو معروف ان ( تقنية الراوي الشاهد على السرد الروائي تعادل تقنية الة التصوير لعمل سنمائي، والوظيفة في كلا الحالين هي التقاط المرئي ونقله الى القارئ او المشاهد، لتصبح العلاقة لا بين القارئ والكاتب، بل بين القارئ والمشاهد)(6)
ومن خلال هذا الوسيط – الراوي- بين الشويلي وبين القارئ تمكن من تبيان كل ما جال في خلده من تخمة تلك الحقبة مقرونة بأدلة حقيقة تجعل القناعة لدى المتلقي فرضا.
وهكذا تستمر الأحداث فالوضع السياسي في العراق مثل كل مرة قلقا وخطرا ففي عام 1990 عوقب العراق بحصار اقتصادي وبدأ حكومة العراق تنذر دول الخليج بحرب تحرق فيها الأخضر واليابس وفي هذا العام دخل الجيش العراقي الى الكويت وظهرت داخل العراق حركة انقلاب على نظام الحكم ألصدامي فسقطت المحافظات جميعها ماعدا بغداد والمناطق الغربية.
في 1991 التحق (احمد) بالعسكرية وهنا فتحت له ملفات جديدة من الألم والموت المتقطع ، فكان بين أن يلتحق إلى وحدته وبين الفرار فكانت كلتا الحالتين جحيما لا يطاق، ثم يقوم بالاستعانة بأحد المزورين في سوق مريدي لتصدير النموذج المزور من اجل تفادي الوقوع بأيدي براثن البعث.
وتبدأ مرحلة أخرى في حياته وهو ما قررته أمه ( سهيلة) وفقاً لوصية أمها الراحلة، ان توصله إلى أهله لكن عليه أن يلتزم بصمت مطبق وبدون أسئلة وعليه أن يعود معها.
فأعطاها وعد بالإجابة رغم انه هناك هاجس في نفسه غير ذلك، وصلا إلى أهله وسط صعوبات الطريق وطوله إلى بيت طيني حرب منزويا على ضفة من ضفاف الأهوار المتيبسة، انه بيت أهله وإخوته ، بقي يقف خارج هذا البيت الطيني ناظرا إلى الستارة أيُّ وجوه ستخرج منها؟ وهل سيرى أمه ؟ هل يشبهها؟ …هل يشبه والده ؟… هل لديه إخوة؟
وهنا تنادي عليه أمه ( سهيلة) بالدخول فإذا بنسوة جالسات تتوسطهن امرأة تحمل معالم لها رائحة في نفسه وعبق غريب تقوم تشمه ويشمها فيتذكر رائحة قماطه أنها أمه (سعاد)، يرى إخوته يقبلهم ينظر إليه الجميع ينسبون ملامحه لأبيه.
وهنا راودني سؤال أخر أرى إن الراوي لم يفلح في تصويره، وهو: عندما أقبل (أحمد) وبعد أعوام طوال وعلمت أمه به، أليس من الأحرى أن تهرول هي إليه بعقل مخلوع من الشوق لتقبله وتسحبه إلى أحضانها، ما سبب بقائها جالسة بين نسوة تنتظر دخوله، خاصة وإنها تعلم به حينما دخلت (سهيلة) وأخبرتهم بذلك؟
ويبدأ الوقت مارا سريعا لم يتمكن من خلاله كشف أوراق الماضي وسر ابتعاده فلم يحن الوقت لإخباره؛ فعليه اخذ قسط من الراحة من بعد هذا الطريق الطويل الذي قطعه من بغداد إلى ذي قار.
كان يهدأ نفسه على شوق لمعرفة الأسباب، رغم انه اطمئن بأن له عائلة ولم يكن ابن شارع عثرت عليه القابلة سهيلة في يوم شتائي بارد وربته.
خرج مع زوج عمته وأخيه إلى السوق، ولم يشعر بأن هناك عيون غادرة تراقبه، وأحاطت به من كل صوب ونقلته إلى زنزانة الظلم ليتلقى موت جديد برائحة الغدر والمرارة، لم يتسنى له معرفة الحقيقة كاملة لم يعرف سبب زجّه بالسجن، توقع أن يكون النموذج المزور الذي أعطاه إياه صديقة المتمرس في سوق مريدي فأبتلعه لئلا يحكم خمسة عشر عاما بتهمة التزوير، مآسي و أرواح بريئة قبض على حريتها في هذا السجن ، أحلام منخورة على الجدران، ثم يبدأ كيل الاتهامات بما يشاء وما يراه في منامه صاحب (القاط الزيتوني )، كان (أحمد) ترعبه كلمة” إيران” حينما يسأل عن علاقته بها.
فيتعرض لأنواع العذاب حتى تتبدد روحه، تنكسر يده ويبقى في السجن عدة أيام، مات فيها ثم انقشعت عنه غشاوة الموت وسفّر إلى بغداد حيث سجن ” أبو غريب” ويبقى هناك عدة سنوات يمنع على ذويه زيارته ، فلا يسمع عنهم شيء إلا من رسائل شوق تصله من أمه (سهيلة) وصلته متأخرة، ثم يحدث ولحسن أخلاقه ولحفظه القران تزويقا إعلاميا آخر لرئيس الحملة الإيمانية يفرج عنه، وتتضح لديه أسباب رحيل والده (جليل) عنهم فقد كان رجلا معارضا لهذا النظام المجرم وهو مطارد طيلة حياته، ويقال انه في احد السجون إن كان لازال حيا، هنا يقرر الارتحال، وقضية الارتحال ككل القضايا التي أوردها (هيثم الشويلي) قضية حقيقة تأتت بسبب الأوضاع المتردية التي عاشها العراقيون، حيث نلاحظ تكرار محاولة السفر خارج العراق لأسباب لا أظنها قاصرة على البحث، والاكتشاف او كما نقل عبد الله إبراهيم( يقول جورج ماي” إن تجربة الرحلة تختلف عن سائر التجارب الشخصية ، لا فقط من حيث هي قابلة لأن تروى إلى الغير، وإنما لأنها تستجيب لحاجة من أكثر حاجات البشر انتشارا، وهي لذة الجديد، والغريب، والمغامرة”)(7)
بل إن الحرية مقتولة، فليس من حق أحد أن يتفوه بكلمة قد تزعج (القهوائي) في حزب البعث او احد أفراد عشيرته وقسّ على هذا.
يسافر بعدها (أحمد) بجواز سفر مزور وباسم جديد(حميد حسن قاسم) بدلا من اسمه الذي زورته الظروف (احمد جبار عطية) الى خارج العراق ليتلقى موتا مروعا أخر حيث خانته رصاصة القنص ، لم يعجبها جسده البالي فقامت بتقبيل قميصه ، فنجح بصعوبة بالغة في الابتعاد عن هذا الجحيم المميت وهنا صور لنا بلغة صادقة مدى القساوة التي يحملها الوطن على أبنائه:( – الله يا وطني ما أقساك حين تفيض علينا بدل الحب رصاصاً، وبدل الحياة موتاً ودماراً وبدل العشق ألماً) (8) ليستقر في الأردن ويعمل وتتحسن حالته ثم يرسل لامه (سهيلة)الإعانات المادية لها، ولأمه (سعاد) ولأخوته.
ثم يعرض عليه صاحب العمل في السفر إلى لبنان ليستلم أعماله هناك فيقرر في العودة إلى العراق حتى يتمكن من إخراج عائلته من العراق والعيش معه في لبنان فيعود بجوازه المزور ويلقى القبض عليه في شرطة الحدود ليتلقى عذاب آخر لم يسمع أو طرأ على مخيلته هكذا عذاب ويودع السجن لحكم قد يكون الإعدام وهو يرى تراتيل من سبقه المنقوشة على جدران هذا السجن، منتظرا يوم وفاته الأخير لم يصدق حينما فتح باب السجن ونادوا بتبييض السجون عندما قامت أمريكا بالهجوم على العراق في 2003 فراح مهرولا ومتعثرا وهو غير مدرك إن الأمر كان واقعا ختمها ببصقه على وجه التأريخ الأسود الذي لوثه الشياطين.
التقنية السردية في ضوء البنية السردية للرواية:
لاشك أنه لابد لكل رواية من عناصر تتكون منها وهي: الشخصية والحدث والسرد والحوار والوصف والزمان والمكان.
فالشخصية الرئيسية ومحور الأحداث الهامة في بوصلة القيامة هو (أحمد) الجنين، ثم أحمد الطفل المريض، الصبي، الشاب المعدم، المشرد، السجين، المحكوم عليه، الغريب المغترب، وهناك شخصيات أخرى رئيسية تم عرضها سابقا.
البنية الخارجية للرواية لم تحوِ فصولا او أي تجزيء وإنما سرد متواصل يجزئ القارئ أحداثها وفق الأحداث والحبكة.
( السرد من الأدوات الفنية التي يستخدمها الكاتب للوصول الى قصته، وهو العمود الفقري الذي ترتكز عليه الأدوات الأخرى كالحوار والوصف وغيرهما. فالسرد هو دراسة القصّ واستنباط الأسس التي يقوم عليها وما يتعلق بذلك من نظم تحكم إنتاجه وتلقيه). (9)
والسرد هو (فن التعبير عن الوقائع ليبين لنا الصورة المتخيلة إلى الصورة اللغوية من خلال نقل الجزئيات مع الأحداث. ونعتبر السرد من الأدوات الفنية للوصول إلى غاية القصة وأهدافها) (10)
أما تقنيات السرد فهي من أبرز ما يميز رواية بوصلة القيامة وما جعلها تتميز هي الآليات التي تحكم فيها الشويلي و تحبيك الأحداث وتشخيص الأبطال وبلورة الفكر المحرك لفعل الروي. والنجاح للوصول الى هدفه بالبناء الفني والفكري .
تنطلق إيديولوجيا السرد في رواية بوصلة القيامة من خلال الدخول إلى يوم من أيام الراوي الضمني في الرواية، وهو البطل الذي يتحدث عن ذلك اليوم بصيغة الاستذكار، الذي يخلق تساؤلا في ذهن المتلقي ما هو هذا اليوم؟ ولماذا لم يخبر الراوي عن احتمالية كونه ربيعيا معتدلا أو أنه يوما هادئا دون أن يقول أنه لم يكن شتائياً شديد البرودة ولا حارا من أيام الصيف؟
هكذا يبدأ الشويلي زمن القص في الرواية، والذي يكشف من خلال هذه الإيديولوجيا أننا في رحاب رواية مليئة بالأزمات والتعقيدات بحيث جعلت الراوي يخفي ملامح هذا اليوم في استهلاله رغم أنه يعود ليفصح عن ماهية ذلك اليوم من خلال قوله : ” ربما كانَ يوماً من أيامِ الألمِ، لا أشكُّ قط أنني كنتُ عائقاً لوالديّ اللذينِ يرزحانِ تحتَ وطأة المطاردة أو البحث عنهما بتهمة الانتماء إلى أحزاب أخرى أو العمل ضد السلطة الحاكمة آنذاك ” فيستهل الراوي روايته بحلقة سردية تبدأ من العقدة لتنطلق في سلسلة حلقات سردية تمثل حلقات عقد مترابط من العقد والتأزمات، والتي تؤدي دورها الوظيفي في تشويق القارئ وتأسيس انفعالاته المتنامية مع ارتفاع مؤشر التأزم في حلقات ذلك العقد السردي.
ويمكننا من خلال هذه الدراسة رصد تلك الحلقات من خلال عيِّنة نأخذها من الرواية فنأخذ مقطعا سرديا وليكن الاستهلال حيث يمثل الحلقة السردية الأولى في الرواية، والتي يمكن تلخيص أحداثها كما يلي:
1- الراوي الضمني يصف يوما ما ويقول عنه ” ربما كان يوما من أيام الألم” وهو أسلوب سردي مختصر للدخول في أول أزمات السرد في بوصلة القيامة.
2- يبين الراوي ملامح ذلك اليوم لينبئنا بأنه يوم ولادته.
3- حلل المخاض وملامح الولادة و الوليد يشكل إعاقة لوالديه ويحرجهما حيث يرزحان تحت وطأة المطاردة من السلطة التي تقتضي تخفيهما نهاراً .
4- الأم تصارع الطلق، والولد يضج في بطنها ليولد ويرى النور.
5- الأب يتوسل بالأم لتؤخر ولادتها حتى غروب الشمس ليتسنى لهما الخروج بتخفٍ.
6- الأم تصارع الألم والزمن ويعتلي صراخها.
7- الوليد يحاول تمزيق أحشائها ليخرج من بطنها.
8- انغلاق أبواب الحلول أمام الأب إذ لابد من مرافقة زوجته.
9- عائق المكان ينضم إلى عائق الزمان حيث أن بيت القابلة في بغداد التي تبعد (40كم) عن الدجيل محل سكنهما.
10- الرَّواي يزيد العقد المستحكمة تعقيداً من خلال تساؤلاته :
(( هل تمتلك أمّي الشجاعة والقوة اللتين يؤهلانها لبقائي لصيقاً في جوفها طوال الطريق؟ أو أني سأبدّد ظلام جوفها قبل وصولها إلى بيت (القابلة)، ويُأزم السرد من خلال تساؤلات ضمنية يثيرها تساؤله هذا في خلد القارئ وهي: هل ستلد هذه المرأة قسراً دون قابلة أم ستدرك القابلة؟ هل أنها ستعيش؟ أم أنها ستموت في ظل العوامل التي فرضت عليها الإمساك بقوة بوليدها كي لا يولد في الزمان والمكان الخطرين؟ ولو ولدت قسراً فهل سيعيش المولود؟ أم سيموت؟ وإن عاش فهل سيعيش معافى؟ أم سيعيش عليلاً؟.
ويرفع الرّاوي من حدَّة التأزم في هذه الحلقة السردية من خلال التساؤلات والاستنتاجات بين حين وآخر، وهذه المرة يعود ليقول: ((ربما أمّي لم تكن بحاجة إلى (قابلة) أبداً، لكنها كانت تبحث عن ليل دامس يسترها ويختبئ خلفه أبي ومكان آمن تلوذ به لتمارس طقوس الولادة وتبدّد ما يعتريها من ألم، تساؤلٌ لطالما راودني كثيراً، لماذا كلّ هذه المشقة والعناء؟ لاسيّما أن الطريق طويل وأمّي ما عادت تحتمل ألم الولادة وهي تحاول جاهدة تحقيق رغبة والدي ببقائها قوية متمسكةً بي وبقوّة لئلا أولدُ في أي مكان، وما كنت أدرك سرّ إصراره على أن يختار هذا المكان – شارع فلسطين – بالتحديد، ربما هناك أشياءٌ أنا وأمّي نجهلها ولا يعرفها سواه، لِمَ لم يختر المستشفى؟ – مثلاً – فالتساؤلات الكثيرة أربكت مخليتي كثيراً، وحاولتُ بكلّ ما أوتيتُ من فطنة أن أحلّ لغزاً واحداً من هذه الألغاز، لكني ما كنت وقتها أستطيع حلّ هذه المعادلات الصعبة جداً والعلاقة الكبيرة بين أبي وهذه (القابلة)…))(11).
وفي ظلِّ هذه التساؤلات والاستنتاجات تكمن لعبة الشويلي السردية حيث يمارس ضغطاً ذهنيا ونفسياً على القاريء من خلال القلق والتساؤلات التي تدور في مخيلة القاريء وهنا تكون اللعبة السردية قد بلغت ذروتها وأصبح الحل مما لابد منه فلقد نفذ صبر القاريء.
11- ظهور بوادر الحل بتوقف السيارة عند باب دار القابلة، ومع ظهور الحل ينبؤنا الراوي بعقدة جديدة تمثل المنطلق لجميع العقد السردية اللاحقة وذلك من خلال قوله: (( لم أتصور أن (القابلة سهيلة ) ستكون أمّي ذات يوم،…))(12)، فهل ستموت أمه أثناء الولادة ليتزوج أباه ( القابلة سهيلة ) فيما بعد؟ أم أنه سيتخذها زوجة ثانية مع بقاء (سعاد) أمه على قيد حياة؟ أم أنهما سيقبض عليهما عند القابلة أو عند خروجهما من دارها؟ أم أن هناك حدثٌ آخر خفي سيتضح لاحقاً؟
وفي هذه الحلقة السردية نجد أن عامل التشويق والانفعال عند القارئ في مستوى ببياني متصاعد وبتناسب طردي مع المستوى البياني للتعقيد والتأزم، إلا أن الرواي ينتج لنا عنصر المداومة إلى خاتمة الرواية من خلال سلسلة من العقد السردية المتوالية وصولا إلى الحل الأخير بسقوط النظام وفتح أبواب السجون أمام السجناء.
و يمكننا أيضا من خلال هذه الدراسة ملاحظة توظيف الراوي الشويلي لعدَّة تقنيات لتقطيع الزمن منها: “تعطيل السرد”, من خلال تقنية “المشهد”, وفيه سرد لمقاطع حوارية بين الشخصيات, وتقنية “الوقف” من خلال الوصف والخواطر والتأملات. مثال على ذلك القصيدة التي قرأها لسجين نحتها على جدران السجن:(13)
لمَ الهروب
لا تدعي وقت الغروب
فأنا أحاول رسمكِ
بلا همسٍ ولا لمسِ
أفتشُ في تفاصيل الهوى عنكِ
ففي كل يومٍ أراكِ تختلفين عما كنتِ عليهِ بالأمسِ
أمسك بيدي فرشاتي
وأرسم
أحلامي وأوهامي
أرسم للقادم من أيامي
شمسٌ وبحرٌ وماءُ
ولعينيكِ فضاءٌ وسماءُ
بالله عليك أريحيني من تكونين أنت؟
كل الناس تقول
عشيقتي
حبيبتي
و أقول أنا ملهمتي وغريقتي
يا من غرقت ببحر هواكِ
دليني كيف السبيلُ إلى نجواكِ
دليني إلى الطريقِ
فقد بات الطريق
محض وهمٍ
وشكٍ
وازدراءِ
فأنا رجلٌ
مازلتُ أبحث في تضاريس الهوى
عن خرائط لقياك
سيلاحظ القارئ جهدا مبذول من الراوي في جمع المادة التاريخية للمعارك التي قام بها العراق وأسبابها الحقيقية .
عنصر الزمن:
من الواضح أن (بوصلة القيامة) تتحدث عن حقبة زمنية معينة وأيام عصيبة مرت على العراق في الربع الأخير من القرن العشرين حتى تضع أقدامنا على أعتاب عام 2003 حيث الهجوم الأمريكي على العراق وبداية صفحات سود أخرى كمثل تلك التي طويت.
فالزمن الذي اختاره الروائي هيثم الشويلي هو زمن حقيقي يضج بالأحداث الصعبة وهو وقت حساس أحرج تأريخ البشرية من شدة سواده .
اما زمن القصّ في الرواية فقد تواجد بانواعه فقد وردت عبارات غلب عليها زمن الوقائع كقوله على سبيل المثال: (ومرّت الأيّام على عجلٍ تجرّ أذيال الألم بين طيّاتها، فكلّما تقدّم الزمن بي كبرتُ وكَبُرتْ معي آلامي وهمومي بل أقتربُ من المرارةِ فلطالما تمنيتُ أن أبقى طفلاً مدى الحياة لئلا يكبر معي الوجع بل وتمنيتُ لو أني فارقت الحياة منذ أن غرس المرض نيابه بجسدي الصغير الغض، إلا أن إرادة الألم كانت أكبر من أن أرحل عن هذه الدنيا في صغري وعقدنا أنا والألم صفقة منذ أن نجوت من الموت وتعاهدنا أن نبقى متلازمين حتى الموت .
فالألم صديقي الذي لم يفارقني طوال حياتي بل كان كظلي .
)(14)
وايضا عبارات غلب عليها زمن القص كقوله على سبيل المثال ايضا لاالحصر: (لمْ يكنْ يوماً شتائياً شديدَ البرودةِ جداً، ولمْ يكنْ يوماً حاراً من أيامِ الصيفِ القائظ، ربما كانَ يوماً ربيعياً معتدلاً أو يوماً هادئاً، أو ربما يوماً لا يحملُ أيَّ لونٍ أو طعمٍ أو رائحةٍ )(15)
وقد افتتحت الرواية – وكما أشرنا سابقاً – بزمن وهو يوم واليوم هذا هو وسطي بين برودة وحرارة او هو يوم هادئ او يوم من ايام الالم فالدقائق والثواني الأولى حملت كماً هائلاً من التشويقِ، والنجمات الصغيرة تختفي شيئا فشيئا ليؤذن بخروج الرواي البطل(أحمد)عام 1973
أرخ للحرب التي لا طائل من ورائها غير إرضاء غرور شلة من المجرمين، تمكنوا من الصعود على جثث الأبرياء للوصول إلى كراسي الحكم، وكيف إن العائد معدوم والذاهب إلى الحرب مقتول بلا شك.
ثم يبدأ الشويلي بتسجيل وثائق تاريخية أخرى عن السنين الثقيلة التي مرت بالوطن وخاصة في عام ،1990 وما بعدها عندما غزا العراق الكويت، وخلال يومين تم اقتحام الكويت عرفنا و إن العراق في كل مرة يقدم من الخسائر البشرية مالا عوض عنها.
وتستمر الرواية بإيراد الكثير من الوقائع على ارض الحقيقة من قتل وتدمير، وتهجير، واستباحة حرمات ، إلى إن ختم روايته بعام 2003 وهو العام الذي سقط النظام الصدامي في العراق وفيه تم الإفراج عن الكثير من السجون الصغيرة والسجن الكبير وهو الوطن.

عنصر المكان:
(الدجيل) هي المدينة الأم للبطل ،المكان الأول الذي بدأ الألم فيه عندما تصارع مع (احمد) مع أمه في رحمها شوقا للخروج إلى الدنيا فعاش قسرا شارع فلسطين حيث بيت القابلة (سهيلة).
بين حين وآخر يأتي ذكر مدينة الدجيل والتحدث عنها بتخفي وترقب حتى ان اسمها يثير الرعب عند بعض الناس وبالأخص كل من يقرب الى
النقيب (جليل) والد احمد. و هذه حقيقة تاريخية أخرى فيا ترى مابها الدجيل ؟ ومابهم سكانها؟ ولماذا كل هذا الرعب عند سماع اسمها في الثمانينات؟
ما قصة ( الدجيل) الهارب أهلها عنها كنت ابحث عن اشياء توصلني للحقيقة فأجابني الكاتب رشيد خيون في مقالته :( الدجيل تاريخ نهر وقضية) اقتطف منها لتقرؤوا معي ما يوثق صحة ما كتبه الروائي هيثم الشويلي وان الحقيقة فاقت المخيلة :( كانت زيارة صدام حسين لبلدة دُجَيْل (تموز 1980)، ومحاولة اغتياله فيها، تنطويان على تحدٍ خفي بينه وبين حزب الدعوة العراقي، بعد إعدام رمزه آية الله محمد باقر الصدر (نيسان 1980). أراد صدام أن يظهر للعالم، أن بساتين دُجَيْل ستحييه، وما حزب الدعوة، الذي أعلن أبادته بأثر رجعي، وبقية المعارضة فيها، إلا حديث خرافة. إلا أن صداماً كان مستعداً كعادته للطارئ، فقبيل الزيارة مسحت الطائرات وعيون البصاصين بساتين النخيل والرمان والأعناب.)(16)
محاولة اغتيال فاشلة لصدام تسببت بعقوبات جماعية طالت المدينة تراوحت ما بين عقوبة الإعدام الى السجن والحجز لمئات من العوائل وترحيلهم القسري الى جنوب العراق وتجريف البساتين.
ذكر الروائي أماكن المحّرقة التي انتهت إليها الجيوش العراقية في نهر (الجاسم) و(الشوش) و(ديزفول) و(المحمرة)…وكيف عم العراق اللون الخاكي المبطن بالسواد والجثث من الضحايا والشهداء مع التكتم الإعلامي على كل هذا.(17)
ثم بدأت لدينا سلسلة من السجون ومراكز التدريب، التحق البطل بالخدمة العسكرية الإلزامية وأرغم على دخول ( مركز تدريب التاجي) كل شيء في ذلك الوقت كان بالإكراه او الموت والبيوتات التي يلجأ فيها حين يهرب من الخدمة العسكرية بيت (أم فراس) خالته (شكريه) وبيت (مثنى) وبيت أمه ( سهيلة) حتى لا يقع فريسة للفرق الحزبية التي تدمن طرق الأبواب واقتحام الدور فجأة.
سجن التاجي الذي بقي فيه شهر كعقوبة مخففة عن هروبه من الخدمة العسكرية ثم التحاقه بمركز الرشيد ثم الوحدة العسكرية الأخرى الفيلق الثاني في مدينة (خانقين) التابعة لمحافظة ديالى للفرقة، عندها مرَّ بويلات جديدة .
سوق مريدي الذي ورد عدة مرات في الرواية لهذا السوق تأريخ خاص له علاقة بالتزوير الى منتصف الثمانينيات ، حيث بدأ تزوير نماذج الإجازات الدورية التي يحتاجها الجنود الهاربون، والذين كانت أرواحهم تساوي أوراقا تؤيد حصولهم على هذه الإجازات.
ذكر عدة مناطق مهمة في هذا النص حين قال على لسان البطل:
(استوقفت أمي سيارة، حين سألها السائق إلى أين؟ قالت: إلى (النهضة) وعلمت اننا ذاهبان إلى (النهضة) وهي منطقة فيها أكبر مرآب للسيارات الذاهبة إلى المناطق الجنوبية كالناصرية والعمارة والكوت والبصرة، وأيضا فيها مركبات أجرة تذهب إلى المناطق الشمالية كالسليمانية وأربيل وكركوك ودهوك، كنتُ أرقب كل شيء عن كثب، وحين وصلنا إلى هذا المرآب، كان الكل يتصايح واقتربنا من شخص كان يصيح بصوت عال (ناصرية.. ناصرية) ….كم تختلف هذه المدينة يا ربي عن ضجيج
العاصمة وصخبها و اكتضاض المدن فيها وحين لاحت لي قطعة خضراء على الطريق كتب عليها (محافظة ذي قار ترحب بكم) علمتُ أننا دخلنا هذه المدينة، بعد هذه القطعة ببضعة كيلومترات، وصلنا حيث مرآب هادئ وثمة أصوات أخرى (بصرة.. بصرة) وتعالت الأصوات (فهود).. (سيد دخيل).. (سوق الشيوخ) وآخر (رفاعي).. (نصر).. (شطرة) واقتربنا من أحدهم كان صوته أجش.. أبح يرتدي دشداشة بيضاء وعلى رأسه كوفية بيضاء وعقال أسود كان يصيح بصوته المميز (جبايش.. جبايش) وتيقنتُ أننا ذاهبان أنا وأمي إلى هذه المنطقة، كان وقت الظهيرة قد حان … (قضاء الجبايش يرحب بكم) ومن خلال هذه القطعة أدركتُ أننا على مشارف هذه المدينة ….)(18)
.ويستمر الشويلي في وصف المنطقة النائية التي وصل لها لملاقاة أهله:
( وبعيدا عن الهور هناك مدينة مقاة متواضعة وسوق شعبية بسيطة وطريق معبدة، كانت هذه المنطقة المتواضعة هي سوق الهور الوحيد الذي يبتاع منه كل الأهالي، وهو أيضا على مقربة من مركز قضاء الجبايش) والذي هو من الداخل مديرية الأمن.
سجن مديرية امن الكرادة، سجن ابو غريب الشهير ، الشعبة الخامسة في مدينة الكاظمية ، ومنفذ طريبيل، منطقة رويشد الحدودية الى منطقة الزرقاء، مديرية امن الحاكمية.
عنصر اللغة:
تعتبر اللغة إحدى أهم عناصر البناء الفني للرواية، هي نسيج النص وهيكله، وبها تكشف مقاصد الرواية، استخدم الروائي اللغة العربية الفصحى وكانت لغة متماسكة سلسة قريبة من الإفهام مشوقة لا غرابة فيها وهي تلائم السرد والحوار والوصف.
اختيار الماضي كزمن تخيليي مرتبط بالدلالات التي تريد الرواية إيصالها إلى الزمن الواقعي
كما أنه أجاد الوصف باختياره الألفاظ والاستعارات المعبرة فخلق لنا صوراً تنسجم مع فن التعبير عن الواقع, وعلى اعتبار أن الرواية تهدف إلى كشف خبايا كثيرة عن زمن ساده التكتم، فيفصل لنا دقائق الأمور بلغته الرقيقة الرقراقة ، الصور البلاغية عانقت نسيج النص فعلى سبيل المثال لا الحصر قوله :
(الصبح آت والفجر يشيّع جثامين النجوم إلى مقبرة الضياء والنهار )(19)
(وراكلاً بقدمي كل ضبابيتي) (20)
ونلاحظ ايضا مناسبة الجمل القصيرة مع الأحداث السريعة والخطيرة التي تمر على العراقيين في قوله : (…(الزحف الكبير) و (يوم النصر العظيم) و (أم المعارك) وجثث وضحايا وشهداء ويعمُ السواد العراق وتتكتم الاذاعات العراقية عن حجم الخسائر التي كنا نخسرها، ويذاع بيان البيانات، أن أفرحوا فالنصر آت، فقد كبدنا العدو الخسائر بالجملات، ومزقنا آيتهم العظمى بالطرقات، وكنا على مشارف طهران لو منحنا القدر بعض اللحظات)(21)
كما تناثرت في الرواية حوارات بلهجة عامية لم تؤثر على جمالية الرواية بل زادتها صدقا والتصاقا بالحقيقة، وخاصة الأمثال او الأهازيج الشعبية الشهيرة كما ورد في عدة صحائف من الرواية كـ : يا( حمد) يبني.،(الدللول يالولد يابني دللول)، ( ردتك ذخر ليام شيبي) ( ياابني ياسندي وذخري، ياهو اليغسلني لومتت ويجفني) (يمة حمادة)
(22). وهذه اهازيج شعبية طالما تتغنى بها النساء الكبيرات خاصة لتنوم الاطفال.
وكذلك بعض الحوارات مثل: (يمة ليش تبجين؟) (لهدرجة احنه قشامر)
(حجية هذا الاسم مو موجود)،( اذا شفناج مرة ثانية هنا نذبج بالسجن)
(شو فيك يازلمة) ،(انت زلمة كويس وكبير وفاهم، وانا حاب تمسككلي المستودع) (23) وبعض الأهازيج الشعبية التي كانت يطلقها أعوان صدام لتهتف بحياته وقد اتخمت مسامع الناس منها، ومن المناسب جدا إيرادها كما هي مثل:
(سيدي شكد أنت رائع)،(يا حوم اتبع لو جرينا) ،(أرخصنا ياابو عداي وخل تفكنا يثور…ما شفنا الدجاجة اتعاركلها صكور)،(بالروح بالدم نفديك يا صدام)،( نحبك والله نحبك يا صدام نحبك).(23)
الخلاصة:
رواية بوصلة القيامة هي أنموذجاً للأدب العراقي وتندرج ضمن أدب السجون، المنافس بقوة على ساحة الأدب العربي والعالمي فهي رواية محكمة البناء الفني، غنية بمعلومات تاريخية، وجغرافية، ووثيقة إدانة على جرائم البعث المقبور، فمن أراد أن يطلع على جرائم صدام فعليه بقراءة (بوصلة القيامة) فهي اختصار لهموم العراقيين ، أضف الى ذلك الجانب الإنساني المهم فيها المتمثل في (سهيلة) القابلة والجدة وغيرهما مقابل الجانب الوحشي للبشر المتمثل بالتعذيب الوحشي من قبل السلطات الصدامية.
الهوامش:
1- بوصلة القيامة، هيثم الشويلي،ص5.
2- ظ/ الاصوات اللغوية ،ابراهيم انيس،48-53، وعلم الاصوات اللغوية، مناف مهدي الموسوي،73 ومابعدها.
3- المصدر نفسه،ص38.
4- المصدر نفسه،4
5- المصدر نفسه،ص22
6- تقنيات السرد الروائي،يمنى العيد،135
7- السرد، الارتحال، البحث، الاستكشاف، عبد الله إبراهيم،ص60.
8- المصدر نفسه،ص151.
9- دليل الناقد الادبي، ميجان الرويلي، سعد البازغي 176.
10- المصدر نفسه،ص176.
11- بوصلة القيامة،ص121.
12- المصدر نفسه،30
13- المصدر نفسه،5
14- المصدر نفسه،7.
15- رشيد الخيون، مقال الدجيل تاريخ نهر وقضية، الشرق الاوسط.
16- بوصلة القيامة،69
17- المصدر نفسه،ص95/96
18- المصدر نفسه،ص35.
19- المصدر نفسه،ص57.
20- المصدر نفسه،ص69.
21- المصدر نفسه،ص19،25،43.
22- المصدر نفسه،ص22،154،136، 135، 116.
23- المصدر نفسه،ص73.
المصادر :
1- الأصوات اللغوية، ابراهيم انيس، مكتبة الانجلو المصرية،سنة الطبع 2007.
2- بوصلة القيامة، رواية هيثم الشويلي، الطبعة الأولى،1014.
3- تقنيات السرد الروائي، يمنى العيد، دار الفارابي بيروت، الطبعة الاولى 1990.
4- الدجيل نهر وقضية، مقال، رشيد الخيون ، منشورة في صحيفة الشرق الأوسط، بتأريخ الخميـس 24 محـرم 1427 هـ 23 فبراير 2006 العدد 9949.
5- دليل الناقد الأدبي، د.ميجان الرويلي، سعد البازعي، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء المغرب، الطبعة الثالثة، 2002.
6- السرد ، والارتحال، والبحث، والاكتشاف، د. عبد الله ابراهيم، بحث منشور مع بحوث الملتقى الدولي للسرديات في الجزائر،القراءة وفاعلية الاختلاف في النص السردي، وزارة التعليم العالي، المركز الجامعي، بشار ،2007.
7- علم الأصوات اللغوية، مناف مهدي الموسوي، الطبعة الثالثة،دار الكتب العلمية ،2007.

تعليقات الفيسبوك

شاهد أيضاً

| عبدالمجيب رحمون : كيف نتواصل بالحكي؟ أو الرواية والحياة عن رواية “عقد المانوليا”

لماذا نقرأ؟ وكيف نقرأ؟ هذان السؤالان الإشكاليان اللذان طرحهما الناقد الأمريكي “هارولد بلوم” لم يكن …

| د. شعبان عبد الحكيم محمد : النص الطازج والقصة القصيرة الشعر قراءة فى مجموعة ” حواس زهرة نائمة ” لسامية غشير.

صدر للدكتورة سامية غشير أول مجموعاتها القصصية ” حواس زهرة نائمة ” عن دار النشر …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *