حيدر علي سلامة* : نقد نقد البلاغة السياسية من الابستمولوجيا المعيارية الى الابستمولوجيا السفسطائية

haidar ali salama 2تضمنت اغلب الكتابات الفلسفية واللسانية التي تناولت النص السفسطائي بحثا ودراسة، على كثير من الاشكالات الميتودولوجية (المنهجية)؛ والسوسيولسانية والسوسيوثقافية، المتأصلة والمزمنة في طرائق شرح وتحليل بنية النظام الفلسفي/اللغوي/المنطقي في الخطاب السفسطائي وتاريخ أجياله، والذي أنتج نظريات فلسفية ولسانية تختلف تماما عن النظام الفلسفي والكوسمولوجي للفلسفة الأفلاطو-أرسطية. لهذا، نلحظ أن تلك الكتابات الأكاديمية/واللسانية خاصة والثقافية والفلسفية عامة – وكما اتضح لنا من خلال تحليلنا وقراءتنا لمؤَلف الأستاذ الدكتور “كلود يونان” والموسوم بـ (التضليل الكلامي وآليات السيطرة على الرأي… الحركة السفسطائية نموذجاً)- لم توفق في إعادة تقويم وتقييم بنية الخطاب البلاغي في الفلسفة السفسطائية حيث ظلت أيديولوجيا الاحكام المسبقة مسيطرة تماما على اغلب ما يُنشر ويُكتب حول تلك الفلسفة، لتصل بنا في نهاية المطاف الى ذلك الاستنتاج الثابت والراسخ بسيطرة الميتافيزيقا الأفلاطونية في كل مرحلة تقويمية من تلك الكتابات.
من هنا، نلمح على “طبيعة المنشور الثقافي السائد” حول الفلسفة السفسطائية ونظرياتها الأبستمولوجية والأنطولوجية في البلاغة واللغة والنظرية السياسية وفلسفة القانون ونظرية العدالة، سيادة لنزعة تجزيئية تفصل بين تاريخ العلاقة الإشكالي لكل من: نظرية المعرفة/ونظرية البلاغة؛ وبين نظرية البلاغة ونظرية العدالة؛ وبين نظرية العدالة ونظرية الحجاج البلاغي. لدرجة نجد فيها ان كثيراً من الباحثين يطرح نظرية البلاغة في الفلسفة السفسطائية دون أن يعير ادنى أهمية واهتمام لطبيعة التداخل التاريخي والأبستمولوجي بين البلاغة ومفهوم نسبية الطبيعة البشرية الذي انعرج مع تطور المنهج الشكي اللايقيني عند السفسطائية التي طالما اعترضت على المفاهيم الأفلاطو-أرسطية المكرسة لاقانيم فلسفية ابدية وخالدة، كمفاهيم الحقيقة المطلقة والخير المطلق والحق المطلق والتي شكلت البؤرة الأساسية لإعادة اختبار نظرية العدالة والسياسة عند كل من افلاطون وارسطو في الخطاب السفسطائي انطلاقا من نظريتهم الجديدة في البلاغة والحجاج البلاغي. بعبارة أخرى، ان الخطاب السفسطائي كان خطابا يقف بالضد من الخطاب الذي كان يسعى إلى إعادة انتاج أنماط العبودية والامتثال الاعمى لسلطة معايير القانون السائدة norms المتمثل في بنية الأنظمة الفلسفية لأفلاطون وارسطو. هذا يعني ان مفهوم البلاغة عند السفسطائيين ظل يعمل ضد أي سلطة ممكنة وقابلة لان تتحول الى نسق شمولي مطلق يتألف من مجموعة من القواعد والأنظمة القانونية التي تنتج/وتعيد انتاج ذهنية الطاعة العمياء للغة القانون الوضعانية والميتافيزيقية بالضرورة. وما يدعو الى الدهشة، اننا نلاحظ ان طرح هكذا إشكالات فلسفية متداخلة ومتعددة المناهج والاطر المعرفية والسوسيوثقافية لا زال غائباً ومغيباً في كتابات بعض ا

د. عماد عبد اللطيف
د. عماد عبد اللطيف

لمختصين والباحثين سيما المشتغلين منهم في الخطاب الفلسفي والخطاب اللساني ونظرية البلاغة وتحليل الخطاب النقدي، وقد مثل كتاب أ. كلود يونان المذكور أعلاه، الخطاب الفلسفي بامتياز. وسنحاول هنا ان نستعرض دراسة الأستاذ الدكتور عماد عبد اللطيف الموسومة بـ (موقف افلاطون من البلاغة) باعتبارها تمثل الانموذج اللساني المقترح في البحث والدراسة والتحقيق.
في دراسته الآنفة الذكر، حاول أ. عماد عبد اللطيف إعادة تقويم تاريخ البلاغة واشكالاته الفلسفية من خلال موقف افلاطون إزاء الخطاب السفسطائي، سيما في محاورة (بروتوجوراس في السياسة)، مؤكدا على طبيعة التلازم المنطقي بين جدل البلاغة والسلطة، وكأنه بذلك يُعيد الى الاذهان من جديد طروحات كتاب (التضليل الكلامي) الأيديولوجية حول الخطاب الفلسفي عند السفسطائيين لدى أ. كلود يونان. فلم يختلف الأثنان من حيث المنهج والرؤية والنقد الفلسفي الموجه الى بنية الخطاب البلاغي ونظام اللوغوس اللساني والمنطقي الذي لم يشغل حيزا كافيا لدى كل منهما. وهذا يعود الى سيطرة “لغة بحث وتحقيق واحدية “، فأذا كان اللوغوس عند أ. يونان ظل مجرد انعكاس ميكانيكي وحتمي للبنية التحتية لأيديولوجيا التضليل في الخطاب السفسطائي، فأن مفهوم البلاغة السفسطائي عند أ. عبد اللطيف بقي مرتبطا بسلطة التضليل السياسي والتضليل القيّمي أو الأخلاقي الذي عمل افلاطون جاهدا على تفنيدها ونقدها وتعريتها بوصفها بلاغة تمويهية تعد من اسوء اشكال البلاغة السياسية والتعليمية والعملية – بحسب أ. عبد اللطيف–. ولنطالع تعريف جورجياس لمفهوم البلاغة باعتبارها: ((…”القدرة على اقناع الناس بواسطة الحديث؛ القضاة في محاكمهم، والشيوخ في مجلسهم، وفي الجمعية العمومية، وكذلك في كل اجتماع آخر يجتمع فيه المواطنون”. ويحدد في الفقرة ذاتها هدف هذه البلاغة بأنه السيطرة على هؤلاء المخاطبين ’وتسخيرهم’ لمصلحة حائز هذه البلاغة؛ أي “انت يا من تعرف كيف تتكلم، وكيف تقنع الجماهير.” وقد وافق بولس وكاليكاليس جورجياس على التعريف والوظيفة اللذين يقترحهما للبلاغة، بل وصل ثانيهما الى حد القول بأن البلاغة هي التي تضمن اخضاع الضعفاء لسيطرة الأقوياء. يمكن القول، وفقا لتعريف جورجياس السابق، ان البلاغة التي ينتقدها افلاطون في’ جورجياس’ هي نشاط (تعليمي، وعملي) يمكّن من استخدام الكلام أداة للسيطرة والإخضاع؛ أي أداة للاستحواذ على السلطة وممارستها. وقد لاحظ موري ان محاورة ’جورجياس’ تدور بأكملها حول موضوع ’السلطة’…. ويرى موري ان دفاع السياسة الفعالة في البرلمان والمحاكم، والسيطرة على جمهور الجاهلين بواسطة الأقناع. وكذلك التحكم في أفعال المتخصصين المهرة؛ مستشهدا بأمثلة جورجياس التي يصرح فيها بأن الطبيب ورجل المال يصبحان عبدين للخطيب الذي يمكنه ان يحكم الاخرين في المدينة. ويخلص الى نتيجة مؤداها: ان حيازة السلطة تمثل الخاصية المميزة للبلاغة التي يعلمها جورجياس، وان البلاغة التي تفقد السلطة العامة ليست هي البلاغة التي يدرسها جورجياس. لكن حيازة السلطة ليست دائما عمل شريرا. ومن ثم فأن’ عداء’ افلاطون للبلاغة لا يبرره كونها أداة للاستحواذ على السلطة فحسب بل يرجع أولا، الى ما تتبعه من سبل للاستحواذ عليها. وثانيا، الى طبيعة هؤلاء الذين يحوزون السلطة بواسطتها))(1).
يكشف لنا النص أعلاه، كيف ان لغة الدراسة لم تأخذ على عاتقها إعادة اكتشاف العلاقة المنطقية والأبستمولوجية بين كل من: البلاغة والعدالة والخطاب السياسي، الى جانب فلسفة الأخلاق وقيم الثقافة النسبية في الخطاب السفسطائي. وقد بدا ذلك الإهمال واضحا من خلال عنوان الفقرة التي افتتح بها البحث قراءة مفهوم البلاغة عند جورجياس والمعنونة بـ “نقد البلاغة السياسية” وهذا يعني ان البحث سوف يتجه صوب إعادة تشكيل العلاقة الغائبة والمغيبة، ونعني بها تلك العلاقة القائمة بين البلاغة والنظرية السياسية ونظرية العدالة عند السفسطائيين عامة وجورجياس خاصة. لكننا على العكس من ذلك، رأينا ان لغة الباحث كانت تسير باتجاه تشكيل مقاربات فلسفية تشير الى سيطرة شكل أيديولوجي/سلطوي واحدي للبلاغة تشكلت ملامحه الجينالوجية على يد بروتوجوراس، جاعلا من رأي الكاتب “موري” حول سلطوية البلاغة في الهيمنة والأقصاء في “محاورة جورجياس” الأساس الفلسفي والتاريخي لطروحاته. وهذا ما يُعيد الى الاذهان مرة أخرى، نمط الاكتفاء الذاتي في استعمال المصادر والمراجع المتعلقة بتاريخ الفلسفة السفسطائية، ذلك النمط الذي تسود فيه النزعة الانتقائية الموجهة لإبراز أغراض أيديولوجية معينة، كما مرَّ بنا سابقا مع أ. كلود يونان في كتابه المذكور سابقا. وقد توضحت آثار سيطرة تلك النزعة من خلال الآراء المطروحة في الدراسة حول شكل البلاغة السياسية التي انتقدها افلاطون في محاورة جورجياس، وهي البلاغة المرتبطة بالنشاط التعليمي والعملي، والتي تحتاج الى وقفة تحليلية وتاريخية تخص جملة من القضايا والاشكالات المتعلقة بالنشاط التعليمي/والعملي، فهل ثبُت تاريخيا ان ذلك النشاط تحدد وبشكل حتمي بإنتاج/وإعادة انتاج “استخدام الكلام كأداة للسيطرة والإخضاع”-حسب رأي الباحث-؟ وهنا يمكننا أن نلحظ ونشخص أيضا، غياب الابعاد الفلسفية واللغوية التي أدت الى إفراغ نظرية البلاغة السفسطائية من مفاهيم اللوغوس والحجاج وفلسفة النحو والخطاب، أضف الى فلسفة اللغة ونظريات التواصل التي جرى تدشينها مع ظهور هذه الفلسفة التي بشرت بخطاب قيمي/أخلاقي وتعليمي نسبي، تلك الابعاد والمفاهيم والنظريات التي عمل على تأريخها وإعادة قراءتها وتأويلها المؤرخ والفيلسوف الالماني Werner Jaeger (1888-1961) في مؤلفه الشهير بايديا (paideia…la formation de l’homme grec). حيث نجد مع هذا المصنف الفلسفي ان فلسفة التعليم والبلاغة عند بروتوجوراس لم يكن الغرض منها انتاج كتلة تاريخية سلطوية تسيطر على ذهنية العامة من خلال اللغة وآليات انتاج الكلام السحري الإغوائي، بل على العكس من ذلك تماما، إن بروتوجوراس: ((…لم يأت على وصف التعليم الشخصي/النخبوي، وانما انشغل بالتعليم/التربية التي ينتفع به، في اعلى مراتبه، جميع الاثينيون والاستغناء عن المدارس الخاصة المنتشرة في المدينة آنذاك. كان ذلك الانموذج من التعليم هو الملهم لدى السفسطائيين وقد عملوا على تطويره، سيما فيما يخص الحقول الرسمية التي تمثل القاعدة الأساسية في نظام التعليم عند اليونان. فقبل السفسطائيين، لم نكن نعرف شيئا عن علم النحو grammaire والبلاغة والجدل dialectique، لهذا، يعود إليهم الفضل في ابتكار جميع هذه الحقول المعرفية. حيث يتبين ذلك في التقنية السفسطائية الجديدة التي تبدأ من تدريس اشكال اللغة وفن الكلام/البلاغة وفن التفكير، بكلمة واحدة، انها تقنية تستند على تطبيق منتظم لمبدأ عمليات تشكيل الذهن)) (2).plato
نخلُص من النص أعلاه، ان فكرة التعليم عند السفسطائيين لا يمكن لنا ان نستوعبها كاملة دون الرجوع الى إعادة فهم وتأويل جينالوجيا مفهوم “البايديا”(3) الذي كان يشير الى: ((…مجمل الممارسات والتقنيات والمناهج التي تسمح بتربية الناشئة جسديا وعقليا، واتسع هذا المعنى بعد ذلك وبصورة متواصلة في القرن الرابع وفي العصور الهلنستية والامبراطورية الرومانية، حتى اصبح منذ ذلك الحين يُنسب وللمرة الأولى على حد سواء الى areté التي تعتبر المثال/النموذج الذي يسعى الانسان الى تحقيقه: و هي تشير الى مجمل حالات التكامل للجسد والعقل….بعبارة أخرى هو مفهوم يتضمن بوضوح على ثقافة ذهنية وروحية حقيقية))(4).
وبالعودة الى نص الدراسة (موقف افلاطون من البلاغة) للأستاذ عماد عبداللطيف، نلاحظ على اسلوبها اللغوي والتاريخي في تتبع اثريات العلاقة الإشكالية بين كل من: التربية والتعليم والبلاغة والسياسة في الخطاب السفسطائي، انه اسلوب اتسم بالتأويل الحرفي الافلاطوني لمجمل المفاهيم أعلاه، خاصة فيما يتعلق بطبيعة العلاقة الإشكالية بين كل من: سلطة النخب/وخطاب السلطة وأنظمة التربية والتعليم المرتبطة بها والتي برزت في خطاب المحاورات الافلاطونية كونها نتيجة طبيعية لبلاغة التعليم والتعلم السفسطائي التي تمّ اختزالها وحصرها ضمن بلاط النخب الارستقراطية وانتشالها من الفضاء الثقافي العام public sphere. ربما لان بلاغة افلاطون تقع في الأصل على النقيض من بلاغة الفضاء العام antipublic sphere. وهذا ما يوضحه هذا النص: ((لقد افاض دارسوا محاورة ’جورجياس’ في تشكيل صورة البلاغي او السفسطائي او الخطيب الذي يواجهه افلاطون. ويمكن ان نميز بين طائفتين؛ طائفة المعلمين، وطائفة المتعلمين. الأولى تضم السفسطائيين الخطباء الذين كانوا يُعلمون أبناء الأثرياء اليونانيين البلاغة مقابل أجور باهظة مثل جورجياس وبروتاجوراس… وليسياس… وقد هاجم سقراط هؤلاء هجوما شاملا، وتابعه افلاطون في هجومه عليهم، ووصف عملهم بأنه غير أخلاقي ومضر بالمدينة؛ فهم لا يقدمون لطلابهم معرفة بل حيلا. ولا يستهدفون الوصول الى المعرفة بل الى الأقناع. وتشغلهم المصلحة لا الخير. وغايتهم تعليم طلابهم طرق الوصول الى السلطة لا الفضيلة. ما الطائفة الأخرى فهي طائفة المتعلمين؛ وكانوا من أبناء الأثرياء الاثينيين الذين اقبلوا على دراسة البلاغة التي كانت تمثل لهم، فنا جذابا لا يقاوم لأنه يجلب السلطة. هؤلاء الطلاب – بعد انتهاء دراساتهم، ونجاحهم في تعلم كيف يستخدمون اللغة ويتقنون أساليب البلاغة -كانوا يصبحون رجالا أقوياء ينتمون الى الطبقة الارستقراطية، ويمثلون النخبة التي تمتلك حق الكلام في المجتمع. لقد هاجم افلاطون هؤلاء بقسوة، كما هاجمهم استاذه سقراط من قبل. و كانت شخصية كاليكاليس في محاورة ’جورجياس’ ممثلة لهم، وهو رجل يصفه كروازيه، استنادا الى الصورة التي يظهر عليها في المحاورة، بأنه لا اخلاقي في جرأة، وانه لا يتردد في ان يُلقي في البحر بكل الاخلاقيات الراسخة لينقذ البلاغة من الغرق. تلك البلاغة التي تمثل في الواقع سفينته التي سوف يقفز منها الى السلطة. هؤلاء’ البلاغيون’ لا يلبثون ان يمسكوا بزمام السلطة. وقتها سوف يعملون لمصلحتهم الخاصة، وليس لخير شعوبهم…….. لقد وضحت الآن اية بلاغة تلك التي انتقدها افلاطون – بقسوة او عدائية -في’ جورجياس’. انها ’بلاغة غير اخلاقية بشكل جذري، ولا يمكن تجاوزه، ويكمن الظلم في جوهرها’ بلاغة محورها التلاعب في المستمعين من قبل أناس غير مخلصين بشكل جذري. ووضح الان أي بلاغيين، متعلمين او ممارسين، هؤلاء الذين ينتقدهم افلاطون. فجورجياس المعلم يتكسب من وراء تعليم تلامذته كيف يسخّرون الآخرين لمصلحتهم ويتحكمون فيهم. وكاليكاليس تلميذ جورجياس ليس الا مشروع طاغية ومحتال.)) (5).
يجد المتأمل في لغة النص أعلاه، سيطرة شبه تامة للنزعة الوثوقية/الأرثوذكسية في الاعتماد المطلق على تصنيفات افلاطون في التبويب لمجمل “اشكال المعارف الفلسفية الميتافزيقية منها والأخلاقية والسياسية واللسانية/اللغوية” والتي تحولت بدورها الى سرد فلسفي مطلق في اغلب محاوراته، التي اعتمد فيها على “سياسة لغوية قسرية” نهجها افلاطون في فرض آرائه وتصوراته المطلقة على السِنة سقراط والسفسطائيين وغيرهم. بمعنى آخر، ان هناك كثير من الآراء التي جاءت على “لسان سقراط وبروتاجوراس” لم تكن تمثل –حسب التحقيقات والتأويلات للمحاورات الافلاطونية (6) –آرائهم الحقيقية وانما آراء افلاطون التي حاول بثها وتثبيتها وتعميمها من خلال استغلال السنتهم ولغتم وخطابهم في المحاورات. لهذا، نجد أن الكثير من الفلاسفة والشُراح والمنقبين في “اركيولوجيا وحفريات” مخطوطات المحاورات الافلاطونية “شكك” في “صحة وأصالة” كثير من آراء افلاطون التي ترد على السِنة هؤلاء الفلاسفة بوصفهم شخصيات محورية واساسية في محاوراته الفلسفية، وذلك لان افلاطون “قوَّل” هذه الشخصيات ما لم تُرِد قوله وما لم يُمثل خطابها الفلسفي برمته. نتيجة لذلك، اعتبر المؤرخون إن إشكالية توثيق نصوص ومحاورات افلاطون تُعد من كبرى إشكالات الفلسفة ومباحثها الاساسية، بل انها تفوق أهمية طروحاته الفلسفية بذاتها. فمن خلال صدق عملية التوثيق ودقتها العلمية في التحري والتقصي inquiry عن المعلومة الفلسفية الحقيقية والتاريخية وليس المتخيلة او المفترضة، يمكننا فقط إعادة قراءة تاريخ الفلسفة اليونانية ومراجعة معظم النظريات الفلسفية والميتافيزيقية واللسانية التي سكت عنها افلاطون من خلال “لغة القسر” التي انتهجها في اغلب محاوراته.
والغريب في الامر، ان تلك الإشكالية الفلسفية الكبيرة لم تستأثر باهتمام اغلب الباحثين والمختصين سواء في حقل الخطاب الفلسفي؛ او الخطاب اللساني /والمنطقي مما جعلهم يتناقلون آراء افلاطون بوصفها آراء مطلقة الصلاحية validity والمصداقية المنطقية والقانونية والأخلاقية. وهذا ما انعكس سلبا على طبيعة الدرس الفلسفي واللساني معا، حيث نجد أن هناك اتفاقا شبه عام بين الخطابين المذكورين على “صلاحية النص الأفلاطوني” و”بطلان النص السفسطائي”، وكأن النص الأفلاطوني أصبح نصا مقدسا الى درجة لا يمكن التشكيك فيه ابدا، “وفلسفة السفسطائيين” مدنسة بذاتها، لا تحتاج منا الى إعادة قراءة وتأويل طالما ان افلاطون قوّض مجمل طروحاتهم اللسانية والبلاغية والمنطقية، ووضح مدى ضلالتهم القيّمية والسياسية والاجتماعية. ولنأخذ مثالا على ذلك، الترجمة العربية الأولى للإعمال الكاملة لمحاورات افلاطون الصادرة بطبعتها الأولى عام 1994، والتي تفاجئنا بخلوها الذي من أي مقدمة تاريخية وتحليلية لبنية المحاورات ونظامها اللساني والمنطقي الذي طالما بدا عليه حالة من الغموض والالتباس والتفكك والركاكة اللغوية واللسانية نتيجة لحالات الاقتباسات النصية والكلامية “الغير دقيقة” والمحرّفة عن موضعها الصحيح والتي تناقلها افلاطون على السنة سقراط والسفسطائيين، وتناقلها الباحثون والمختصون من بعده، لتغدو بديهيات مطلقة وراسخة وقارّة في بنية البحث الأكاديمي والفلسفي المحكم، خاصة فيما يتعلق بالموقف الأفلاطوني من “بلاغة الفلسفة السفسطائية “من جهة؛ وفلسفة الأخلاق من جهة أخرى.
فعند قراءتنا لتلك الترجمة نكتشف كيف ان أيديولوجيا صلاحية الأحكام الأفلاطونية تم الحفاظ عليها وعلى قدسيتها المثالية والمتعالية، بخلاف “الفلسفة السفسطائية” التي استمر النظر اليها بوصفها فلسفة بالقوة وليست بالفعل. وهذا ما جعل طبيعة القراءات المقدمة في الخطاب الفلسفي واللساني حول تلك الفلسفة متطابقة تماما في المقدمات والنتائج، فلا تحتاج الى كبير عناء لتكتشف النزعة “اللاتاريخية الراكدة والثابتة” في معظم ما يُكتب ويُنشر حول تاريخ الفلسفة السفسطائية. وبالطبع، هذا عكس ما يحصل في راهن الخطاب الفلسفي الغربي الذي جعل من “تاريخية ونسبية الصورة المطلقة للمحاورات الأفلاطونية” المدخل الأساسي لفهم وتأويل/وإعادة تأويل هذه المحاورات بما ينسجم ويتزامن مع مجمل طبيعة التطورات والتحولات الحاصلة في خطابات العلوم الإنسانية والأبستمولوجية والمنطقية، ربما لأن ذهنية التقديس الفلسفي/واللساني في خطابنا الثقافي والأكاديمي لا زالت هي المتسيدة والمسيطرة حتى هذه اللحظة. فحينما نقرأ مقدمة الأستاذ سامي مكارم لترجمة “الأعمال الكاملة لمحاورات افلاطون” الى اللغة العربية نلمح كيف تعامل أ. مكارم بطريقة عكسية تماما مع: “الإشكالية الكرونولوجية الزمنية التتابعية” في محاورات افلاطون تلك الإشكالية التي تحولت الى سؤال فلسفي لإعادة تفكيك قداسة النص الأفلاطوني الذي لا زال مسيطرا على الفلسفة الغربية. ولنتأمل في كيفية التعاطي مع الأبعاد التاريخية والزمانية لمحاورات افلاطون في نسختها العربية فأهم ما طالعنا به أ. مكارم هو ثنائه على نقل هذا النص ليس من اللغة اليونانية مباشرة وانما من نسختها الإنجليزية؟ فمنذ متى كانت “المحاورات الافلاطونية ” بنسختها الإنجليزية محط اهتمام الفلاسفة والمؤرخين؟ وإلا لماذا يعود المؤرخون والشُراح والفلاسفة الى النص الأصلي، ولم يعتمدوا النص المعرب الى لغاتهم الأم؟ السبب يكمن في حضور الأبعاد التاريخية /والتأويلية في الفلسفة الغربية بخلاف الفلسفة العربية. لهذا جاء تركيز أ. مكارم على الأسباب التي جعلت من هذه الترجمة إنجازا هاما التي اوجزها بما يلي: ((أولا، لان الأستاذ شوقي تمراز، بإتقانه اللغتين العربية والإنكليزية على السواء، وبمعرفته للفلسفة بعامة وللفلسفة الأفلاطونية بخاصة استطاع ان يجعل من تعريبه لمحاورات افلاطون بخاصة استطاع ان يجعل من تعريبه لمحاورات افلاطون عملا دقيقا وصحيحا من جهة وبليغا واضحا من جهة أخرى. ويمكننا القول انه كان في تعريبه قريبا الى روح فلسفة افلاطون إذا ختار لعمله هذا احدى أفضل الترجمات الإنكليزية فاعتمدها في تعريبه ذاك. ثانيا، لا نستطيع فهم افلاطون فهما دقيقا الا إذا درسنا اعماله في ضوء ترتيبها ترتيبا زمنيا، وذلك لكي يتسنى لنا تتبع تطور فكر هذا الفيلسوف. وهو امر في غاية من الضرورة لفهم الفلسفة الافلاطونية. ولم يكن هذا الأمر ليتم الا بالاطلاع على اعماله كاملة غير مجتزأة… ثالثا، ان محاورات افلاطون تختلف الواحدة عن الأخرى اختلافا كبيرا، من حيث المضمون ام الأسلوب ام المقارنة.)) (7).
نلاحظ من خلال النص أعلاه، ان مسألة طرح قضايا إشكالية مهمة في تاريخ الفلسفة عامة والفلسفة الأفلاطونية خاصة، كعملية المقاربة بين محاورات افلاطون وتواريخها الزمنية وتسلسلها التاريخي، إضافة الى تباين واختلاف البنية اللسانية والاسلوبية، جاءت بطريقة وثوقية وتقليدية، فلم تتم الأشارة لا من قريب او بعيد الى منطق المقاربة التاريخية بين لغة المحاورات الأصلية والانجليزية. وهذا بطبيعة الحال سوف يؤدي بدوره الى تذويب الإشكالات الاسلوبية واللسانية والمنطقية المتعددة والمختلفة بين محاورة وأخرى. وهذه مشكلة يترتب عليها إعادة النظر في مجمل الحقول المعرفية والفلسفية التي تم تناولها وطرحها في المحاورات، لأنها شُيدت على لغة فلسفية واحدة هي لغة افلاطون واسلوبياته الميتافيزيقية المؤسَسَة على منطق الفضيلة/وفضيلة المنطق المطلق.
والامر تكرر أيضا مع المترجم نفسه الذي لم يعمل هو الآخر على وضع مقدمة فلسفية تحليلية/وتاريخية لبنية المحاورات من جهة، ولبنية نظامها المنطقي والمفاهيمي من جهة أخرى بل اكتفى المترجم في وضع مفاتيح تعريفية موجزة لأهم الثيمات الفلسفية التي جاءت على طرحها كل محاورة. وكان اهم ما يمكن ملاحظته على تلك المفاتيح التعريفية، هو ابتعادها عن الطرح الإشكالي والأبستمولوجي، خاصة فيما يتعلق بالمحاورات الخاصة في مناقشة وتحليل ثيمات لسانية ولغوية ومنطقية كتلك المتعلقة بالخطاب السفسطائي واشكالية البلاغة وعلاقتها بالإشكالية الأنطولوجية والثقافية، ربما لان المترجم اعتمد على “لغة ومنطق الفضيلة المطلق” التي تتعارض تماما مع “لغة ولوغوس الأخلاق النسبية عند السفسطائيين”. لهذا نجد كيف ان المترجم، لم يأت على ذكر فلسفة البلاغة وخطابها المنطقي واللساني، التي شكلت أحد اهم المحاور الرئيسية والأساسية في تاريخ الفلسفة اليونانية. فعندما جاء المترجم على وصف بنية محاورة “جورجياس” على انها محاورة بنيت على أساس تعريف ماهية “علم الكلام” أي” فن البلاغة” او “فن الكلام” لا نعرف لماذا لم يلجأ المترجم الى استعمال مصطلح البلاغة عوضا عن علم الكلام في هذه المحاورة؟ ثم الا يوجد اختلاف جوهر ي بين “علم الكلام “الذي يشير، في أحد معانيه، الى ذلك العلم الذي يستعمل الحجج العقلية والمنطقية للدفاع عن فكرة وجود الله في العالم، وقد ساد هذا العلم في الفترة الوسيطة من تاريخ الفكر الغربي والعربي وهي الفترة التي سيطرت عليها الأفكار الدوغمائية واللاهوتية المعتمدة على المنطق الأرسطو ي المعياري والميتافيزيقي في بناء نظام العالم وتصوراته المطلقة. اذ أن هناك ثمة فرق كبير بين منطق “علم الكلام” ومنطق “فن البلاغة او فن الخطاب”، هذا الأخير الذي تحول مع الخطاب السفسطائي الى فن انتاج القيم الاجتماعية بواسطة استعمال اللغة الطبيعية في انطولوجيا الحياة اليومية، فمثل هكذا ممارسة وسوسيوثقافية/وسوسيولسانية لم يتم تسليط الضوء عليها عندما جاء المترجم على وصف ثيمة محاورة “جورجياس” حيث يتحاور فيها: ((كل من سقراط، بولس، جورجياس، وكاليكلس. يبدأ جورجياس …بالبحث في علم الكلام ،ثم يعرفه أخيرا بأنه فن الأقناع في المحاكم القانونية والجمعيات العمومية الأخرى .ويأتي دور بولس الذي أراد من سقراط ان يعرف علم الكلام ،ويقول سقراط :ان علم الكلام ليس فنا على الأطلاق بل هو نوع من الحذق العملي ويشبه الطهو .فكما ان الطهو يرضي اذواق الأكلين ويهبهم اللذة ،كذلك علم الكلام ينتج نوعا من البهجة والأرضاء للمستمعين .لذلك فعلم الكلام ما هو سوى جزء من المداهنة والنفاق اذا اسيء استعماله ،لكن اذا حسن استعماله ،فما ينبغي الا ان يستخدم لرفع شأن الأنسان وحثه على ممارسة الفضيلة بشكل عام.))(8).
يتضح لنا من لغة النص أعلاه، كيف ان منطق الفضيلة المطلق/والميتافيزيقي هو منطق سابق على منطق ولوغوس بلاغة التواصل الثقافي النسبي. بالطبع اننا بكل بساطة لا بد وان نصل الى مثل هكذا احكام جاهزة لا تحتاج الى كبير عناء، فقد أصبحت القاسم المشترك والموحد لجميع الترجمات والأبحاث الفلسفية واللسانية والسياسية وما شابه. ذلك لان المنطق الوثوقي المطلق والعام هو المنطق الذي ظل متسيدا ومسيطرا على مدار تطور تاريخ اللغة والبلاغة في الفلسفة اليونانية عامة والفلسفة السفسطائية خاصة. فما ان يتم مناقشة طروحات الفلسفة السفسطائية وخطابها اللغوي/والبلاغي، حتى تجد ايديولوجيا التشابه في انتاج الاحكام على هذه الفلسفة مطلقة مستمرة وسارية الصلاحية والمفعول في النهاية لا تجد هناك اختلاف على ان السفسطائي: ((يدعي العلم فقط وهو مخاصم ويعلم فن الخصام عن الأشياء الإلهية التي هي محجوبة عن الناس بشكل عام وكذلك عن الأشياء المرئية في السماء وعلى الأرض وما شابههما، ويعلم فن الجدال في المحادثات الخاصة عن اثبات النشوء والماهية، وعن القانون والسياسة. وباختصار فأن السفسطائي ما هو الا ساحر ومقلد وكلامه كاذب وخادع. وهناك فرق كبير بين الفيلسوف الذي يرتبط علمه بفن الديالكتيك وهو علم صاف وحق، وبين ما يرتبط به السفسطائي، ومرتبته مع المقلدين بحق وليس بين هؤلاء الذين يمتلكون معرفة. لذلك فأن الجهل الأكبر هو ان يدعي المرء انه يعرف عندما لا يعرف، وهذه قمة الجهل، وهذا ما يفعله السفسطائي بكل تأكيد.)) (9).
ساد على لغة النص أعلاه حالة من الخلط المعرفي والفلسفي التي تشير الى قلة في الاطلاع على تاريخ وفلسفة الخطاب السفسطائي، وهذا ما توضح من خلال ورود مثل هذه العبارات: “ان السفسطائي يعلم فن الخصام مع الأشياء الإلهية…ويعلم فن الجدل في المناقشات الخاصة عن اثبات النشوء والماهية…. الخ” فمثل هذه التعابير تدعونا الى اثارة أكثر من تساؤل، فهل كان السفسطائيون فعلا من المهتمين بالقضايا الماورائية واشكالات النشوء والماهية؟ وهل ذكر لنا تاريخ الفلسفة السفسطائية اهتمامهم أيضا بفنون الخصام مع الأشياء الإلهية؟ ان طرح المترجم لمثل تلك التصورات عن الفلسفة السفسطائية، كان مفتقرا لمنطق التحقيق التاريخي والأبستمولوجي لبنية الخطاب السفسطائي وحقيقة وظائفه الثقافية والاجتماعية من خلال البدء والانطلاق من الانسان كونه وجود– في – العالم حسب هايدجر، وهذا أيضا ما أشار اليه افلاطون نفسه عندما فسّر فكرة نجاح السفسطائيين في اكتساب: ((الشهرة. كما يصوره افلاطون، يرجع الى مقدرة وتأثير حقيقيين على مفكري عصرهم أمثال ثوكيديديس ويوريبيديس. لقد كانوا يعلمون “فن السياسة” بأسلوب عملي ولم يهتموا بالتأمل فيما وراء الطبيعة. لا يهتمون بالبحث عن الآلهة ولكن اهتمامهم موجه الى الحياة نفسها وعلى الأخص الحياة السياسية والاستعداد لمواجهة كل الاحتمالات. الأنسان في نظرهم مقياس كل شيء، وفي هذا المجال كان يكمن خطرهم واستحقوا بذلك لقب السفسطائيين)) (10).
من هنا نرى ان “مترجم المحاورات الافلاطونية” أ. تمراز كان محكوما بسلسلة لامتناهية من الاحكام المسبقة والجاهزة حول تاريخ الفلسفة السفسطائية من جهة؛ وخطابها اللساني/واللغوي من جهة أخرى. ففي الوقت الذي عدّ فيه الكثير من الباحثين والمؤرخين محاورة “السفسطائي” ممثلة “لفلسفة وجينالوجيا بلاغة اللغة”، نرى كيف تم استبعاد فلسفة اللغة من هذه المحاورة وتضييقها في مجالات ميتافيزيقية مطلقة. وكما مر بنا سابقا، فقد رأينا ان اغلب الدراسات والبحوث الأكاديمية في حقل الخطاب الفلسفي/واللساني لم تتحرر بعد من سيطرة هذه الأحكام المسبقة والجاهزة المتعلقة بتاريخ الفلسفة السفسطائية الذي طالما ظل مرتبطا بسياسات المكر والخداع والتضليل، وهذه القضية مرتبطة بدورها أيضا بإشكالية وجدلية الصراع بين كل من: الفضيلة؛ والمعرفة؛ والبلاغة. حيث يتضح من خلال هذه الجدلية كيف ان الخطاب السفسطائي شكل قطيعة ابستمولوجية وانطولوجية واخلاقية مع علاقة البلاغة بالفضائل حيث كما هو معروف ان الفضيلة تساوي المعرفة المطلقة والخيّرة بذاتها عند سقراط و افلاطون، في حين ان الفضيلة تساوي البلاغة عند السفسطائيين، هذه “القطيعة” لم يتم تسليط الضوء عليها بل تحولت الى ممارسة اعتيادية عند الباحثين الذين يأتون على ذكر العلاقة بين الفضيلة والبلاغة ويتجاوزون عملية تداخلها مع “النظام الابستيمي/النظري” والمعرفي السائد في سياق الثقافة اليونانية لان ما يعنيهم، في نهاية الامر، ان يبقى مفهوم “الفضيلة ميتافيزيقي ومحض” في الوقت الذي رأى فيه السفسطائيون :(ان معرفة العلوم المختلفة لا تفي متطلبات الوقت، فما جدوى هذه العلوم وما جدوى الفضيلة ،في نظرهم، اذا كان هناك من لا يستمع اليها؟ ورأوا ان الضرورة تحتم تعلم الخطابة وفن التأثير على المستمعين وكسب الجدل بأي وسيلة ممكنة. اذن فالريطوريقا في نظرهم هي الفضيلة وهي أسمى العلوم…اما سقراط ..أراد ان يعلم الفضيلة= المعرفة الحقة)) (11).
فعلاقة البلاغة مع مفهوم الفضيلة عند السفسطائيين تجاوزت منطق المعايير الثابت/ومنطق الحقيقة المطلقة، منذ تدشين الخطاب السفسطائي لمفهوم “القطيعة الأبستمولوجية” الذي عمل على تفكيك مفهوم الابستمولوجيا الافلاطوني التقليدي ألمؤسس على “منطق التبرير justification ” لكل معرفة مطلقة وميتافيزيقية واعتقادية تتجاوز بالضرورة منطق نسبية التواصل الأخلاقي والاجتماعي المتمأسس وفقا لأيديولوجيا الخطاب السياسي المسيطر والسائد والذي كان يمثل البؤرة المركزية لدى السفسطائيين، حيث سعوا الى تقويض أسس ذلك الخطاب ومعاييره criteria المنطقية الثابتة من خلال أسس منطقهم الحجاجي الاقناعي المناقضة لأيديولوجيا قواعد منطق التبرير النظري والمعرفي لكل ما هو نخبوي وسياسي بالضرورة أيضا- حسب افلاطون-. بعبارة أخرى، ان منطق الخطاب السفسطائي لا يمكن تأسيسه على معايير و سساتيم ميتافيزيقية قبلية سابقة على نسبية الوجود الإنساني في بلاغة السياق السوسيوثقافي، فهذا الوجود النسبي الذي جعل من فكرة الأنسان مقياس كل شيء، هو بالضبط ما شكّل القاعدة الأساسية لبلاغة الخطاب السفسطائي، وهو ايضا من أعاد الاعتبار الى “منطق الدوكسا” الذي يتأسس على عمليات تاريخية ومعرفية مستمرة تنطلق من نقد وتفكيك سياسة الاعتقاد والاعتقاد السياسي الذي شكل جوهر نظرية المعرفة المعيارية المطلقة في بلاغة الفلسفة الافلاطونية المثالية. اذن، ان “بلاغة الدوكسا” التي تُعنى بمنطق اختبار المبادئ المسؤولة عن تشكيل اعتقاداتنا المقررة سلفا doxastic decision principles ، تقف على طرفي نقيض من بلاغة “التبرير الابستيمي epistemic justification”(12)، أي تلك البلاغة التي تسيطر على عملية انتاج مجمل آراء واحكام الوجود الإنساني اللساني واللغوي النسبي لتجعله خاضعا الى معايير ومعتقدات موجهة من قبل ميتافيزيقا سياسية ونخبوية مطلقة تصادر منطق الفعل الإنساني، ومن ثمة، كل ما هو نسبي وتاريخي وحجاجي/بلاغي كما هو الحال عليه في البلاغة الافلاطونية التي عملت على محاربة ومطاردة “دوكسا الكلام النسبي في الخطاب السفسطائي” تارة باسم الفضيلة المجردة وتارة أخرى باسم الاعتقادات السياسية المبررة لكل ما هو ثابت ومستقر من قيّم واحكام واراء أخلاقية غير قابلة للمراجعة والفحص وإعادة الاختبار لأنها تحولت الى معايير نظرية تسيطر على بنية الفعل الإنساني وتتحكم به.
لكننا نلمح عكس ذلك تماما، إذ نجد ان عملية الفصل المستمرة بين ما هو ابستمولوجي؛ وانطولوجي؛ واخلاقي؛ وبلاغي/حجاجي في الخطاب السفسطائي، أصبحت معيارا ثابتا ومطلقا في بنية اسلوبيات الكتابات الاكاديمية الفلسفية خاصة واللسانية عامة، سيما فيما يتعلق بإشكالية العلاقة بين البلاغة الافلاطونية والسفسطائية حيث ارتبطت البلاغة الافلاطونية بميتافيزيقا المعايير الفاضلة، حيث: ((كان نقد افلاطون للبلاغة يعكس صراعا بين طريقتين في الحياة وتصورين للعالم. الاول يرى غاية الحياة الوصول الى الفضيلة والثاني غايتها الوصول الى السلطة. الاول يحتفي بالصدق مهما كانت نتيجته والثاني يحتفي بالتملق والخداع. الاول يعنى بالمعرفة، والثاني يعنى بالاعتقاد. الأول يشغله الخير، والثاني تشغله اللذة. الأول يحركه العدل، والثاني تحركه المنفعة. الاول لا تشغله الحياة العامة، والثاني لا تشغله الا الحياة العامة. الأول وسيلته الفلسفة والجدل، والثاني وسيلته السفسطة والبلاغة.)) (13). ان هذا النص اشكالي بامتياز، ويتضح لنا ذلك من خلال محاولته في تبني منطق “الثنائيات الأيديولوجية والتراتبية” التي عمل افلاطون على إرساء دعائمه واسسه. فالنص يشطر العالم والبلاغة الى نصفين: نصف ماورائي ثابت ومطلق ويقيني/عقلاني/فاضل واخلاقي بالضرورة والبداهة، ونصف نسبي متحول ومتغير لا يخضع “لسستمة الفضيلة الميتافيزيقية”، ولهذا فهو عالم لاعقلاني لأنه محكوم بالأهواء والانفعالات؛ أيديولوجي لأنه يسعى للسلطة؛ لاأخلاقي لأنه يخضع للتملق والخداع واللذة؛ غير عادل لأنه محكوم بالمنفعة؛ عالم غير نخبوي لأنه منشغل بالحياة العامة.
وعلى الرغم من نجاح أ. عبد اللطيف في تشكيل ورشة عمل تحليلية لنقد نقد بلاغة افلاطون وإعادة استنطاق ما سكت عنه ذلك النقد، الا انه ظل نقدا منصبا وموجها لتفكيك تصورات افلاطون “المعيارية” حول مفهوم “البلاغة السياسية العام” ولم يأخذ على عاتقه – أي هذا النقد – إعادة تقويم فلسفة البلاغة واللغة خاصة، والخطاب السفسطائي عامة، سيما وان أ. عبد اللطيف برع في تفكيك “الثنائيات الافلاطونية المؤدلجة”، إلا أن مشكلة هذا التفكيك تكمن في انه لم يأخذ بنظر الاعتبار خطاب الآخر المقصي والمهمش واعني به السفسطائي وفلسفته البلاغية والسياسية على حد سواء ، بل انشغل في عملية “نقد النقد الافلاطوني” للبلاغة و ثنائياتها التي تعتبر نتيجة طبيعية للنظام التراتبي/والهرمي للفلسفة الافلاطونية المثالية/المعيارية. والشيء الاخر الذي نود ان نوضحه في هذا النقد، هو انه لم يستطع الخروج من “دوائر التأويل الحرفية” لكثير من المفاهيم ذات الصلة والوظيفة السوسيو ثقافية والسوسيولسانية كمفهوم البلاغة السياسية؛ والقضائية؛ والسلطوية والأيديولوجية التي بدت وكأنها منفصلة تماما عن فلسفات المعرفة ونظريات الاخلاق والقانون ونظريات الخطاب وفلسفة اللسانيات، وهذا ما وسم طبيعة “نقد النقد الافلاطوني للبلاغة” بالسمة المعيارية normative المحددة بنظام لغوي واحدي لا يخرج عن لغة التوصيف الحرفية، ربما هذا ما جعل من قيمة “نقد النقد الافلاطوني” تفتقر أيضا الى فلسفة المناهج والمقاربات الثقافية المتعددة التي لا يمكنها ان تفصل بين تاريخ المفاهيم وارتباطه بنظريات المعرفة والأبستمولوجيا وبالمنطق الخفي الذي يشكل بنية سياسة الاعتقاد/والاعتقاد السياسي بالقيم والأخلاق والأعراف السائدة المتحولة جميعها الى معيار norm ثابت ومطلق يتألف من لغة اخلاق واخلاق لغوية ولسانية لا يمكن لها ان تنفصل أيضا عن فلسفة الذهن والعقل المرتبطة بدورها بنظريات الحجاج المنطقية والبلاغية.
اذن يتبين لنا ان لغة “نقد النقد الافلاطوني للبلاغة” لم تبتعد كثيرا عن لغة التضليل والخداع السياسي المتصلة بالبلاغة السفسطائية، هذه البلاغة التي طالما حاول افلاطون تقويض أسسها ومصادرة مبادئها الأبستمولوجية والمنطقية. على الرغم من أن البلاغة التي انتقدها افلاطون لا تتركز فقط على نقد البلاغة السياسية والقضائية فحسب، بل انها موجهة ضد “الفلسفة السفسطائية عامة” وقد تم التبرير لهذا النقد بواسطة الخطاب السياسي ونظامه اللساني والسلطوي. وبذلك يكون افلاطون قد أسس لما يعرف بـ “الأبستمولوجيا الارستقراطية” وهذه تتحقق من خلال: ((…الجدل والتفلسف… اللذان –يضعهما افلاطون موضع البلاغة والخطابة-يعدَّان نشاطا نخبويا، قد تتفاعل معه النخب الفكرية، اما عامة الشعب فيصعب، غالبا، ان تتفاعل معه. ينطوي مقترح افلاطون اذن على اقصاء للبلاغة الشعبية التي تستهدف الاقناع، يتسق مع اقصائه للشعب نفسه من دائرة الحكم، لصالح سيطرة الارستقراطية الفكرية. ومن ثم فان بديل البلاغة السياسية الموجهة للجمهور عند افلاطون هو ديكتاتورية التفلسف. وينتج عن ذلك ان يصبح الشعب خارج دائرة الحكم، وتسقط الحاجة للبلاغة السياسية فليس ثمة حاجة لإقناع من لا قوة له.)) (14).
كما نرى في النص أعلاه، ان هناك بعض النقاط تحتاج الى أكثر من وقفة نقدية واشكالية، فمثلا البلاغة السياسية لم يتم توضيح ما المقصود بها؟ ومَنْ المقصود بها؟ وهل كان هناك غير السفسطائيين مَنْ أسس لها؟ وهل كان هناك غير السفسطائيين من أعاد الاعتبار الى مفهوم “البلاغة الشعبية” و “بلاغة الاقناع”؟ ونتيجة لذلك، لا يمكننا إلا ان نضع مفهوم “البلاغة السياسية” بين قوسين(؟)، حيث كان موقعه يشوبه نوع من الضبابية في النص أعلاه. اضف الى ان المفاهيم التي حاول استبدالها افلاطون بديكتاتورية التفلسف، هي جميعها تعود الى الخطاب السياسي والفلسفي السفسطائي، اما توصيف النص ولغته كانت عامة، تحاول ان تتقنع بأكثر من مصطلح لتبتعد عن منطق تسمية الأشياء بمسمياتها، خاصة وأننا لاحظنا في بداية دراسة أ. عبد اللطيف، كيف ارتبط الخطاب السفسطائي بكل ما هو تضليلي ولا أخلاقي ونسبي وسلطوي يتحين الفرصة للاستحواذ على السلطة ،لكننا نجد في النص الآتي ان هذه الفكرة تتكرر أيضا لكن بأسلوب مختلف ومغاير: ((لقد رأى افلاطون ان التخلص من الخداع والتضليل اللذين يمارسهما البلاغيون للاستحواذ على السلطة يتحقق عن طريق التخلص من ’البلاغيين’ واحلال الفلاسفة محلهم. وهو ما يبدو حلا نخبويا يتسق مع النزوع الارستقراطي لأفلاطون، لكنه في الوقت ذاته لا يحقق سوى استبدال سلطة بسلطة أخرى، ربما تكون مضطرة بدورها الى ممارسة خداع وتضليل مماثلين.)) (15). فمن هم هؤلاء البلاغيون الذين حاول افلاطون التخلص من خداعهم وتضليلهم السلطوي؟ لماذا سكت النص اعلاه عن توضيح هذه النقطة؟! ولماذا لم يتم التمييز بين خطاب البلاغة السياسية العامة؛ وخطاب بلاغة السفسطائيين؛ وبلاغة الخطباء؟
الهوامش : 
*باحث من العراق متخصص في فلسفة الدراسات الثقافية/وما بعدها
(1) د. عماد عبد اللطيف: موقف افلاطون من البلاغة من خلال محاورتي “جورجياس” و “فيدروس”، مجلة جامعة الشارقة للعلوم الإنسانية والاجتماعية، المجلد 5، العدد 3، أكتوبر2008، ص-ص 230-231
(2)
Werner Jaeger: Paideia, Éditions Gallimard, Paris, 1964, p. 363
(3) للتوسع حول جينالوجيا مفهوم البايديا، يُنظر:
Vocabulaire Européen Des Philosophies, Sous La Direction De Barbara Cassin, Éditions du Seuil / Dictionnaire Le Robert, France, 2004, pp. 195-204
(4)
Ibid., p .333
(5) د. عماد عبد اللطيف، المصدر السابق، ص-ص-ص 232-233-234
(6) للمزيد يُنظر:
Alexis Philonenko: Leçons Platoniciennes, Les Belles lettres, Paris, 1997
(7) افلاطون المحاورات الكاملة، ترجمة: شوقي تمراز، الدار الأهلية، ص 9
(8) المصدر نفسه، ص-ص،21-22
(9) المصدر نفسه، ص 27
(10) د. عبد الله حسن المسلمي: افلاطون. محاورة منكسينوس او عن الخطابة، منشورات الجامعة الليبية-كلية الآداب، 1972، ص ص،23-24
(11) المصدر نفسه، ص 9
(12) للتوسع حول هذه المفاهيم الابستمولوجية، يُنظر:
Midwest Studies in Philosophy V 1980… Studies in Epistemology, Minneapolis, 1980, pp. 29-30
(13) د. عماد عبد اللطيف، المصدر السابق، ص234
(14) المصدر نفسه، ص 237
(15) المصدر نفسه، ص 237

تعليقات الفيسبوك

شاهد أيضاً

| إبراهيم أبو عواد : فلسفة التاريخ في التفاعلات الرمزية للعلاقات الاجتماعية.

1      توظيفُ فلسفةِ التاريخ في التفاعلات الرمزية للعلاقات الاجتماعية يُعْتَبَر مُحاولةً لتفسيرِ مَصَادِر المعرفة …

| د. زهير الخويلدي : الفنومينولوجيا من حيث هي علم صارم حسب ادموند هوسرل.

مقدمة درس ادموند هوسرل الرياضيات أولاً، ثم كرس نفسه للفلسفة من أجل التأمل في أسس علمها ومعناها. أول …

4 تعليقات

  1. محمد غبد الحميد المالكي

    {او كيف خسرت البلاغة درسها الافتتاحي التأسيسي الفذ مع هزيمة السفسطائيين العظام امام “مؤسسة الخطاب” المعيارية..!؟}
    شكرا للباحث المثابر حيدر على سلامة على التنوير واعادة المساءلة النقدية لممارسات “جماعات الخطاب”..

  2. حيدر علي سلامة

    يبقى مفهوم : “جماعات الخطاب وممارساتها المعيارية” هو الأساس السلطوي الراسخ في تراجيديا انهزام الفكر السفسطائي امام الشمولية الافلاطونية …كل الشكر والتقدير استاذنا الفاضل محمد عبد الحميد المالكي المحترم على تواصلكم الذي يضيف لنا ولمحاولاتنا الكثير.

  3. سعد محمد

    لو كنت مكان الكاتب لوضعت مقدمة رشيقة اذكر فيها موضوع المقال واقسامه وفكرته الاساسية. وبعد ذلك، كنت سأقسم المقال وفق هذه الأقسام الى فقرات قصيرة بشكل واضح وسلس يتضمن الانتقال من فكرة الى اخرى بشكل يضمن ايضاح المعنى من خلال جمل واضحة تخلو من الاشتباك والتشابك. كنت أيضا أوضح المصطلحات بدل ان احشرها حشرا بطريقة لا تساعد على ايصال المعتى. هذا المعنى اساسا بسيط: الخلاف بين منهج السفسطائيين ومنهج سقراط وتلميذه افلاطون. وهذا موضوع قتل بحثا. واذا كان كاتب المقال لديه جديد بهذا الخصوص فالاحرى به ان يكتبه على شكل نقاط بشكل جلي وسلس بدل الفقرات ذات الطول المسرف والعسر الكبير في التعبير. ولو انه جنب القارئ نصف المصطلحات التي اوردها لما اخل ذلك بالمقال بل لاناره واوضحه.

  4. حيدر علي سلامة

    تحية طيبة وبعد…

    أولا: يجب ان نفرق بين نوعين من الدراسات: التقليدية والمبتكرة. الاولى تتوفر على كثير من النماذج الاكاديمية السابقة والرشيقة بما يكفي للتأسيس عليها. اما الدراسات المبتكرة فهي تلك التي تنشأ من العدم وغير مسبوقة بأحكام أيديولوجية جاهزة ومعدة للتطبيق في مجال البحث والكتابة الاكاديمية والثقافية والفلسفية.
    ثانيا: ينبغي التمييز بين المصطلحات الموضوعة بطريقة اعتباطية ومتشابكة، وبين المصطلحات التي تفرضها منهجية وثيمة الدراسة. وبما ان الدراسة المطروحة غير مسبوقة، فهي تحتاج بالضرورة الى إطار تنظيري جديد يتلاءم وطبيعة الإشكالات الفلسفية واللسانية المبحوث فيها.
    ثالثا: الدراسة لم تشتغل على تاريخ الفلسفة التقليدي حتى تتعامل مع قضاياه بطريقة ارثوذكسية، فتاريخ السفسطائية والافلاطونية هو أيديولوجيا من الناحية الاكاديمية، وفلسفة بلاغة وحجاج من الناحية الإشكالية، وهذا هو جوهر وخطة دراساتنا السابقة واللاحقة.
    رابعا: للباحث كل الحق في اختيار لغة وأسلوب البحث التي يراها قادرة على تأسيس وتدشين قراءات إبداعية جديدة في بنية النص الفلسفي التقليدي.
    خامسا: هذه الدراسة جزء من كل، وهي سلسلة من المقالات التي اعتبرها استمرار لمحاولات العلامة الراحل علي الوردي الرامية الى احياء “روح النقد السفسطائي” في العلوم الاجتماعية والفلسفية، تلك المحاولات التي لم تستمر نتيجة لعدم وجود نخب اكاديمية وثقافية تؤمن بتعددية المناهج والحوار بين مختلف حقول العلوم الإنسانية.

    شكرا للمتابعة، وللبحث تتمة في دراسات قادمة ان شاء الله…
    الباحث

    حيدر علي سلامة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *