إشارة :
احتفاء بتراث الفيلسوف العراقي الراحل الدكتور “مدني صالح” ، وبمساهماته الفذّة في الثقافة العراقية والعربية ، تبدأ اسرة موقع الناقد العراقي بنشر هذا الملف الخاص عنه ، والذي تدعو الأخوة الكتّاب الأحبّة إلى المساهمة فيه . وسيكون الملف مفتوحاً من الناحية الزمنية على عادة أسرة الموقع حيث لا يتحدّد الإحتفاء بالفكر بمساحة زمنية معينة .
المقالة :
حين هاتفني الزميل الدكتور ريكان ابراهيم يطلب مني ان اكتب عن الفقيد الراحل الاستاذ مدني صالح , ادركت جيدا انه يضعني في محنة ! هو يدرك مدى اعتزازي بهذه الظاهرة المعرفية الشامخة بقدر ما يدرك حالة الغموض التي تنتابني ونقص الأدوات التحليلية عندي التي لا ترقى لتقييم هذه الظاهرة الفريدة في عالم المعرفة العصرية العراقية التي تلبست بها سلوكية وكتابات ومؤلفات وسيرة هذا الطود الشامخ واللون المتفرد والمعرفة المتميزة والموسوعية المتشتتة من حيث الزمان والمكان والعمق والبعد واللبس واللغز والجد والسخر والاسهاب والاطناب والغموض والتعتيم وطبيعة الخطاب والتخصص والشمولية والهوية والهوى والمدينة والوطنية والانسانية واليسار واليمين والتفقه والإعتزال والتصوف والإختزال والعرفان والوجود والإبهام والإدغام والتعقيد والتبسيط والابتسامة والاكتئاب والفقر والثراء والنقد والاعجاب والموت والحياة .
تفصلني عن مدني صالح فواصل لم تسمح بتوثيق المعرفة الشخصية به خلال نشئتي المبكرة في كبيسة عندما كان هو في هيت على بعد 15 كيلومترا عندما كانت زيارة هيت حلم في عالم مواصلات ضيق وتفصلني عنه 15عاما من العمر الذي حال دون ان يكون لي به وصل في مرحلة الدراسة او عند تواجده في كمبرج . لكني اعرفه عن كثب من خلال خاله الشيخ الوقور عزالدين صديق والدي ومن خلال ابن خاله الدرويش الصوفي حسين عز الدين ومن خلال طلبته الذين درسوني كطراد الكبيسي واخي الدكتور عامر الكبيسي وغيرهم . واعرفه بعد ذلك من خلال ما يكتب ويؤلف ويقول ويتحدث مع اصدقاء ومعرفيين منهم الشاعر والزميل الدكتور ريكان ابراهيم الذي يريدني ان ادلو بدولي عن ما أروخ به هذا الطود المعرفي الذي لا يطال واسختصر بانطباعاتي الشخصية عن مدني صالح من خلال إرثه وسيرته فأقول :
ليس غريبا ان تسهم هيت اسهاما واضحا في تكوينة مدني صالح , فهيت حين تعود بي ذاكرتي اليها كما يصفها الانباريون مدينة فريدة ضمن المحافظة الواسعة برمزية حكمائها واعيانها وحضارية مجتمعها واعتدالية وتطلعات شبابها ومثقفيها وهيت فريدة حتى في جغرافيته والتصاقها بفراتها والتصاق الفرات بها ,فريدة في نكهة وطعم ولون وشكل خضرها وفاكتها وتفردها بشموخ وحنو مئذنتها وشهرة نخلها ونواعيرها وكبريتها واوليائها وخطبائها ورقي وثقافة نخبها السياسية والوطنية . الكباب والدبس والراشي والطرشي والقثة والطمامة في هيت وصلاة الجمعة في جامعها الكبير والتجول في سوقها والوقوف على ضفاف الفرات فيها ,كلها لها طعمها الخاص وذكرايتها الخالدة في ذهن محبيها ومرتاديها , وبالتالي لا يستغرب ان يكون لإبنها البار الملتصق بذاكرته بها والمتجذر انحداره من اشراف انسالها , طعما فريدا غريبا في معرفته وشموخه وكتاباته وتألقه .
مدني صالح باعتقادي يمثل نتاج هجين اجتماعي وثقافي متنوع ترك بصماته بشكل واضح على هويته الثقافية هو نتاج لهيت الشاقوفة والمعمورية وحسين عز الدين وعلي الهيتي وهيت نمر ذياب والغريري وفي الرمادي السياب والبياتي وفي بغداد الوردي والألوسي وفي كمبرج المعرفة والاستشراق والاستحواذ وهو نتاج لصراعات سياسية وموجات عنف سياسي وفكري وصراع بين الاصالة والتحديث وبين الظلم والانعتاق بل بين ان يكون أو لا يكون . وبالتالي فهو الحائر بكيفية احداث التغيير والتجديد دون ان يقطع الوصل بالتاريخ والارث وبين ان لا يوغل بنتاج مغريات التجديد والتحديث بالإنقلاب على كل ماهو متأصل ومتجذر . مدني صالح في كتاباته يتحرى الايضاح بالغموض لم تزده سعة المعرفة والبحث الا هموما وعذابا , الغوص في اعماق الفلسفة لم يرسخ في ذهنيته توصيف المفاهيم الفلسفية السائدة مما دفعه للغوص في اعماق الشعر والأدب للكشف عن زيف وحقيقة المفاهيم الفلسفية التي اعتاد الفلاسفة على اعتبارها ثوابت منهجية في علم الفلسفة وهكذا كان مدني صالح مشتتا بين التقليد والتجديد متعدد الادوات في تحطيم ما يعتقد انه جدران واهية فاصلة بين الفلسفة والأدب فجاءت كل كتاباته وتنظيراته الساخرة والملغزة والمبطنة انعكاس لما اختطه من منهجية في التعريف والتوصيف في صراعه بين منطقية العقل وامكانية تغليبها على منهجية وسطوة النقل . هل شكل مدني صالح في نهجه هذا مدرسة خاصة به تركت بصماته على جيل من طلابه ومقلديه ليصبح مجددا معرفيا متفردا عن غيره من عمالقة الفلاسفة الذين سبقوه , ام ان محاولاته هذه لم تفلح الا ان تصنع منه خزينا معرفيا لم تمكنه من معرفة ذاته قبل ان ترسخ لهوية معرفية لها من سيكمل مسيرة مدني صالح مستقبلا بترسيخ معالمها . يختلف اقرانه ومقيميه من الباحثين والمختصين في تقييم أدبياته ومؤلفاته ونهجه البحثي بين معارض يوصمه بالمشاكسة والعناد وبين منصف ينحني لمحاولاته ويعتبرها منافذ في التطوير والتجديد .
من لطيف ما ذكره لي اخي الدكتور عامر عن استاذه مدني صالح انه عندما كان يلقى محاضرته في الصف كان الاستاذ مدني صالح يتنقل خلالها من موضوع الى آخر وفق انسيابية الحديث وكانت تلم المحاضرات تبدو كانها نمط من لوحات الفن السيرالزمي الذين لا ندرك ابعاده ولا معانيه في حينها وكل الذي يشد الطلبة اليه هو الطريقة التي يسهب فيها بالحديث متنقلا من موضوع الى آخر حيث يجد في ذاته حلاوة لا تثمن وهو يحدث طلبة صاغين حتى وان كانوا لا يجدون فيها مادة منهجية او امتحانية . ثم يذكر الدكتور عامر عنه انه بعد اكثر من ثلاثة عقود من الزمن حين اصبح هو رئيسا لقسم الادارة في كلية الادارة والاقتصاد في جامعة بغداد وكان الاستاذ مدني صالح استاذا للفلسفة في كلية الاداب وجد ان افضل من يعهد اليه بتدريس مادة فلسفة الإدارة هو الاستاذ مدني صالح واستجاب لطلبه لكنه اصيب بدهشة كبيرة عندما حضر الاستاذ مدني صالح الى القسم حين رآه متعبا مهموما بملابسه وهندامه واعتلال مظهره وصحته وبعد الترحيب به واستعادة ذكريات الدراسة وثانوية هيت فاتحه في امكانية ان يحصل له على فترة اعارة خدمات الى احد الجامعات الخليجية التي يعرف مسؤوليها وساهم في انشائها لفترة تحسن من وضعه الاقتصادي وتخفف عن همومه , لكن الاستاذ مدني صالح اجاب يا دكتور عامر الجبال لا ترحل !! فاستدركت نفسي وقلت له لكن يا استاذي الارض كلها تدور في هذا الكون المتحرك مع جبالها . فكانت اجابة مدني صالح , إذا انا بهذا المفهوم لست ثابتا وانما دائر بدورانها وانا في العراق , يالها من مواطنة ممتلئة بالصمود والعناد . هذا هو مدني صالح يختار ايام البرد القاسي او المطر الشديد ليقطع اميالا في شوارع بغداد يستنشق هوائها العذب ويتطلع فيها التاريخ والأدب والمرح والمعاناة وهو يقرأ ويستذكر مسميات ازقتها وشوارعها ومأذنها ومدارسها واضرحة مشاهيرها تماما كما يفعل كل مرة يزور فيها هيت مدينته الراسخة بدراويشها وصعليكها واعيانها , لا يعتاد المجالس ولا الدوواين او الفواتح او الأفراح ويكاد ان ينعزل في مقهى شعبية او مجمع او مكتبة يختارها يجد فيها سلوة نفسه ولذة عيشه , بقى متمسكا تمسك الصوفية والدراويش بكل ما فيهم من قيم ممتنعا زاهداً بملذات الحياة وشغف العيش لا يداهن ولا يمدح ولا ينافق لكنه قوي الشكيمة في نصرة المظلوم والدفاع عن الحقيقة بصلابة متميزة لا يسعى لمال ولا يتوق لمنصب أو لقب او جاه غير مهتم بشؤونه الخاصة والمعيشية باحثا عن حقيقة نفسه في عالم يعرف قدره ويشخص علاته وميزاته تواق للتغيير بادوات الحكمة والمعرفة لا القوة او العنف وبهذا المعنى فهو يكاد يأخذ من اليسار عمقه ومن اليمين حنكته وهو بينهما شامخ متسلط بالنقد اللاذع واللغز اللامع والابداع الساطع للقارئ والسامع , تولد عباراته طاقة كامنة وتحرك مفاهيمه افاق واسعة في اعماق النفس والأدب والمعرفة مما تحير به الأذهان والأذان .
يمتاز الفقيد الراحل بمواهب مبدعة ومواصفات سلوكيه عراقية الجذور متفرده , كان يحلم بعراق لا تفت بعضده الطائفية ولا العنصرية او التقسيمات الجغرافية , لم يتحزب ولم يتنصل عن نصرته للمظلوم ونزعته لإشاعة الحرية الانسانية التي تشع بها كل معاني المدينة الفاضلة التي يؤمن بقوامة نهجها , لم يكم مهتما بشؤونه الخاصة او بكسبه او عيشه بقدر اهتمامه بما اراد لنفسه كيف يكون ولذلك حين وجد نفسه غريبا في أطواره عن غيره بعيدا عن تحقيق طموحاته في زمن تغيب فيه الفضيلة وتطمس فيه مقومات البنية السليمة والذهنية المدركة ويتغلب فيه الظلم والاحتلال وتختل فيه القيم والاخلاق ويسود فيه العنف والاستغلال , اختار الموت على الحياة بلا تشبث او استجاد وهو العارف بحجم معاناته وخطورة مرضه ورحل في الزمن الذي لاعيش فيه لكريم ولا عز فيه لعالم ولا مفكر بعد ان ادرك ان حتى مدينته هيت التي يفخر ويعتز بكل ما الهمت به من مواهب وقدرات وقيم وأخلاق لم تعد ملجئه التي اليها يأوي ويأنس بعد ان اصبحت ترسخ في عذابات الاحتلال ومكائد العنف والتفجيرات وكان ذلك آخر ما كان يتوقع ان يشهده او يراه في حياته , وهكذا تعايش مدني صالح مع مرضه و واقعه بكل صبر وشجاعة غير مبال بحياة لا تسر , العيش فيها من الموت اقسى وأمر .
عمان في 6 شباط 2011 .
* عن صحيفة كتابات