خضر عواد الخزاعي : مرتكزات بناء الشخصية السردية وتطورها في رواية “سقوط سرداب”

khudr alkhozaeiالعراق/بغداد
في رواية”سقوط سرداب” الصادرة عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر في 2015 للروائي العراقي الكوردي نوزت شمدين، نحن إزاء نص سردي يقترب في بعض جوانبه من أدب الحرب رغم أن بطل الرواية الشاب ثائرعاش بعيداً عن ساحات الحروب، بل إن من مصادفات ذلك النص أن بطله الذي آثر تلبيةً لرغبة أمه وجدته اللجوء إلى السرداب هرباً من الحرب، وجد نفسه يعيش في خضم هذه الحرب بطريقة ما، من خلال أصوات الإنفجارات، وقصف الطائرات وصفارات الإنذار، التي كانت تطلق بين الحين والاخر لتفادي الغارات الجوية؛ وكذلك من خلال شبكة الإذاعات التي كانت يستمع إليها من الراديو الذي اصطحبه معه للسرداب، وهذا يعتبر من امتيازات الكاتب، إنه اختار لنصه شخصية بمواصفات الشاب ثائر الذي لم يكن يمتلك حتى لحظة دخوله السرداب، أي مؤهلات رجولية تمكنه من مواجهة الأخطار والتقلبات التي سيتعرض لها لاحقاً وهو وحيداً داخل سرداب “كنت مستسلماً بالكامل لحنان أمي وفطنتها. فقد كانت تفكر وتقرر بدلاً عني، تطعمني وتحممني وتختار ثيابي وألعابي. ص8 “، ليجعله الكاتب في مقابل شخصية الأم، بكل قوتها وجبروتها وحكمتها في إدارة البيت الذي الذي غاب عنه الأب في ظروف غامضة وملتبسة، ففي هذا النص السردي أعطى الكاتب شخصية الأم مساحة كبيرة من النص، وحرص على أن يقدمها بكاريزما مغايرة تماماً لشخصية الابن الضعيفة، وكانحضورها يطغى في مواضع كبيرة على مساحة الابن، من خلال أدوارها المتعددة التي لعبتها في حياة أبنائها، وخصوصا ولدها بطل الرواية “كانت أمي القائد الميداني في المنزل والعقل المدبر لشؤونه بسبب انشغال أبي المستمر بالحروب. وبعد أن أخذوا تابوته الفارغ ملفوفا بالعلم العراقي في جنازتة رمزية. أصبحت سلطة أمي مطلقة وانفردت بالقرارات مكتفية بمنح جدتي دور المساعد والمشاور غير الملزم في قضايا محدودة ص9″، ولقد كان الرواي في اختياره لشخصية “ثائر” المسلتبة والمتذبذة في كل جوانبها النفسية والإجتماعية والذكورية، موفقاً ليضعه وسط تجربة تشبه السجن الإنفرادي ليواجه مصيره منفرداً منذ اللحظة التي أسلم فيها نفسه لإرادة أمه”الساعة الواحدة وثمانية عشر دقيقة من ظهر يوم الجمعة11 كانون الثاني سنة 1991 . في هذا الوقت تحديدا كنت أهبط مع أمي دركات السرداب التسع وأنا متيبس من الخوف وحواسي تنطفيء واحدة بعد الأخرى ص15″.
اسلوبياً قسم الكاتب نصه إلى مستوين،”متواليات ظاهراتية”حسب تعبير بارت،و”معطيات بيلوغرافية”، مستعيناً بوحدات دلالية مادية – روحية متعددة ليتمكن من خلالها السيطرة على مجريات الأحداث التي ستعصف لاحقاً بشخصية البطل الشاب ثائر، وهذه الوحدات كانت تتطور تبعاً لتطورات الأحداث المحيطة بشخصية البطل وخصوصا الداخلية في بيئته الجديدة السرداب، ففي البداية nawzatكان “الراديو” هو التمظهر الوحيد المحايث لشخصية البطل وكان تأثير دلالاته في البداية روحياً أكثر منه نافذة معرفية يطل منها على العالم،”أحببت في راديو ناشيونال باسونيك، ضوء مصباحه الأحمرالصغير بحجم حبة العدس لأنه كان يكفي للكشف عن عالم ما تحت البطانية بمجرد الاستقرار على إذاعة ما. وفي ذلك اليوم تحديداً أحسست بالضوء أكثر توهجاً مع عبدالحليم حافظ وهو يجرني معه بأغنية “زي الهوى” إلى حيث ياسمين. ص46،47″، ثم يتحول هذا الجهاز في مرحلة لاحقة إلى وسيلة اتصال غير مباشر مع محيطه الخارجي، حين يتعرف من خلاله على أهم الأحداث العالمية التي لها شأن بالوضع الداخلي للعراق ومنها إعلان الحرب في كانون الثاني 1991 “الأخبار في إذاعة صوت أمريكا ذكرت عملية عسكرية جوية ضخمة باسم درع الصحراء بدأت في الساعة الثانية فجراً لتحرير الكويت من الجيش العراقي. ص34″، الوظيفة الثالثة لجهاز الراديو إنه كان الصوت الآخر الذي شاركه عزلته القسرية، وكانت أصواته ووشوشاته تمنحه الكثير من الإحساس بالأمان” الراديو كان خطي الدفاعي الأول في معركة صمودي ضد الجنون، وسلاحاً ذا حدين في مقاومة عزلتي والتجسس على العالم الخارجي في آن واحد. كان لأي صوت يصدر عنه حتى وإن كانت مجرد وشوشة غير مفهومة فعلاً سحرياً يمنحني شعوراً بالأمان والألفة. ص36″، الوحدة الدلالية الثانية في المتواليات الظاهرية هي”الفانوس” فكما كان للراديو فعل تشكيل لعلاقة من نوع ما مع محيطه الخارجي، كذلك كان استخدامه للفانونس دلالات كبيرة في اكتشافه محيطه الداخلي الضيق الذي يعيش فيه داخل السرداب”الفانوس كان سلاحي الثاني بعد الراديو للصمود بوجه العزلة والانتصار على الظلام، بل كان السبب في الإنعطافة التي طرأت لاحقاً على شخصيتي عندما ساعدني على استخراج كنز كبير جاورني عاماً كاملاً دون أن أعرف كلمة سر تدخلني إليه. ص74″ ولقد قاده الفانوس كأداة للإستجلاء، إلى التنوع فيما يخص اكتشافاته اللاحقة، حين يسهل له عملية العثور على وحدته الظاهراتية الثالثة والمهمة” الكتاب” الذي اعتبره المحصلة النهائية لنمو ونضج شخصيته الجديدة التي وفرها له الاختباء في السرداب،”الكتاب، سلاح ثالث بعد الراديو والفانوس. اكتملت به ترسانتي الدفاعية في حرب السرداب. انتقلت به من مرحلة الدفاع إلى هجوم واسع النطاق لانتشالي من المجهول وتشكيلي سطراً سطر وصفحةً صفحة. ص79 “. فكما شاركت هذه الوحدات الظاهراتية المستحدثة في تشكيل المرتكزات الناشئة في حياة بطل الرواية ثائر، فإنها أيضاً ساهمت في التطور الروحي والمعرفي للشخصية، من خلال سلسلة بيلوغرافيا سياسية واجتماعية وتأريخية كان يفتقد إليها ثائر خلال سني حياته الماضية، خلقت منه في النهاية شخصيته الجديدة إزاء أمه والبيت والأحداث، وكانت أولى حلقات تلك السلسلة، ما واجهه وحيداً ليلة إعلان الحرب،”في الساعة الثالثة واثنين وعشرين دقيقة من فجر يوم السابع عشر من كانون الثاني 1991 ،أيقضني دوي انفجار قوي هزني مع السرداب بعنف. ص30″، وكما كان متوقعاً له فلقد شارفت الشخصية على الإنهيار مع المواجهة الأولى مع الحياة في شكلها النشاز والمرعب “الحرب”، رغم كل التدابير الإحترازية التي حرصت عليها أمه، في الأسابيع kh nawzatالتي سبقت دخوله السرداب “ركضت كالمخبول مرتطماً بالجدارين الاسمنتي والخشبي بين بابي السرداب والحمام موقعا الأشياء في طريقي وأنا أردد مخرجا الصوت من بطني”ماما ..ماما” متوقعاً ظهورها في أي لحظة لإنقاذي. ص30″ثم تتوالى أحداث الحرب متلاحقة، منها مقتل المئات من المدنيين العزل في حادثة ملجأ العامرية الشهيرة، وكذلك القرار الحاسم وغير المعلن رسمياً في بدايته، بانسحاب القوات العراقية من الكويت بعد سبعة شهور من احتلالها، وماتكبده العراق في تلك المقامرة العسكرية غير المدروسة من أرواح بلغت أكثر مائة ألف قتيل وأضعاف أعدادهم من الجرحى والمفقودين، كان من افرزات تلك الحرب هو صدور قرار العفو العام عن الهاربين، الذي أفرح قلب الأم كثيراً وجعلها مستبشرة وهي تنقل الخبر السار لولدها، لكنها فوجئت برد فعله غير المتوقعة، وكان ذلك أيضاً البداية لعلاقة ما بدأ يرتبط بها ثائر مع السرداب وما أخذت توفره له العزلة في ذلك المكان،”- وينك ثائر اطلع صدر عفو عنك……أوضحت لها بأنني علمت بهذا من الراديو صباحاً، وإنني أعتقد بأنه كمين للقبض على العسكرين الهاربين من الحرب وتحميلهم مسؤولية الهزيمة. ص65 ” وكانت تلك المرة الأولى التي يتخذ فيها الشاب قراراً حاسما يخص حياته لوحده ودون الاستعانة بجدته وأمه، وهذا بحد ذاته يدل على أولى المنعطفات التي أخذت بالظهور في حياته، بعيدا عن سلطة الأم، أحداث اخرى مهمة ساعدت في صقل شخصية البطل ضمن سلسلة البيلوغرافيا السياسية والإجتماعية “في الأول من اذار كان جنوب العراق قد اشتعل بانتفاضة شيعية انطلقت شرارتها الأولى من البصرة واستمرت 14 يوماً سقط خلالها الاف من القتلى، بين المنتفضين وعناصر الأجهزة الامنية، وفي غضون ذلك كانت انتفاضة أخرى تجري أحداثها في محافظات الشمال الكوردية. ص66″ ومع التحولات الخطيرة التي كانت تشهدها الساحة العراقية تحت ضربات الانسحاب العسكري من الكويت ومانتج عنها من كوارث، كانت هناك أيضاً تحولات أخرى خطيرة مشابهة بدأت تتشكل في حياة البطل حينما يتعرف لأول مرة على عالم الكتب ويبدأ قراءاته الأولى في رواية”شرق المتوسط” لعبدالرحمن منيف، لتقوده هذه القراءة إلى قراءات أخرى متعددة لنفس الكاتب وكتاب آخرين، كحنا مينا ونجيب محفوظ ويوسف أدريس ثم لينتقل إلى الأدب العالمي ليكمل ذائقته القرائية بروايات ماركيز، وتولستوي وتورجنيف وتشيخوف، وأجاثا كريستي، وهمنغواي وفوكنر، حينذاك يتملكه الشعور بالتغيير الذي لم يكن يشعر به من قبل خلال مطالعته لدروسه وكتبه المنهجية”كنت أشعر بنضج داخلي كتاباً بعد آخر، وأدركت بمرور الأيام أن الكتب المنهجية في المدارس والجامعات لاتصنع العقول وإنما تصنع الأسس لها. تفتح الأبوب والطرق لكنها لاتملىء الجمامجم ولاتؤثثها بالمعرفة كما تفعل الكتب الحرة مثل أحصنة جامحة. ص84 “، في السنة الرابعة لدخوله السرداب تتعمق عزلته أكثر ويشعر بالخطر يقترب منه مع صدور القانون 115 لمجلس القيادة في آب1994والقاضي بقطع صيوان الأذن للمتخلفين عن الخدمة العسكرية مع وشم الجبهة بخطوط نارية بالإضافة إلى عقوبات أشد للهاربين لأكثر من مرة، ثم تقوده الصدفة ليكتشف انه في سنته الخامسة في السرداب”لا أذكر عبر أي إذاعة سمعت المذيع يقرأ أحداثا وقعت في مثل ذلك اليوم فتذكرت انها سنة غيبتي الخامسة تَمرّ. ص 95 ” خلال ذلك يحصل ما يشبه النكوص والتقهقر في حياة البطل جراء حياة العزلة واليأس من سقوط النظام أو تغييره، يواجه أمه بصوت الحقيقة الذي ينطلق دون إرادة منه “السرداب انتصر، قلت وأنا محشور في زاويتي خارج الحجرات وفي حضني كتاب أربعة قرون من تاريخ العراق الحديث. ص 103 “، ليصل في النهاية إلى الحقيقة المؤلمة، وهي الفشل الذريع لسنوات انتظاره التي اعتبراها معاً هو وأمه، مرتبطة بسقوط صدام، فإذا به يكشف لأمه إن نجاته ومصيره لم يعد يعد معلقا بشخص الرئيس، بل أصبح السرداب أيضا عامل آخر ارتهن به مصيره”أنا عالق هنا ياأمي، وإن كان خروجي في السابق مرتبطاً بسقوط صدام، فأنه الان يستلزم سقوط السرداب أيضاً. ص103″، ليتحول قرار الخروج من السرداب وفقا لهذه المتغيرات من قرار منوط بالأم الى البطل نفسه، بعد ما يقارب العشر سنوات من مكوثه في السرداب، يقرر الابن الخروج منه وتسليم نفسه ودفع بدل الخدمة ويقترن ذلك بأكثر من حادثة منها موت الجدة التي كانت متعلقة به كثيراً، وصدور عفو ودفع بدل نقدي للمتخلفين عن أداء الخدمة العسكرية، أما السبب الثالث فهو ماتذكره له أمه من مصادفتها لحبيبته ياسمين في إحدى المحاكم، فيقرر تبعا لذلك الخروج من السرداب ويبدأ التحضيرات له، لكنه خلال تلك التحضيرات يكتشف رسالة سرية كان والده قد تركها له بين سجلاته المخبأة في صناديق الكتب والسجلات الشخصية، ويقوده ذلك الاكتشاف إلى معرفة حقيقة مصير أبيه وكذلك إلى قبره الحقيقي في السرداب،” تناولت مطرقة وذهبت مسرعاً نحو الجدار، ضربته مرة واثنين وثلاثاً وأنا أصرخ وأبكي مثل مجنون. تهشمت مساحة دائرية من اللبخ وتناثرت أجزاءه الهشة على الأرض لينكشف وجه الجدار الطابوقي الأبيض. طرقته عند الوسط تماما فتكسرت طابوقة وسقط نصفها في فراغ الجدار. سحبت نصفها المتبقي وفعلت ذلك بسهولة مع طابوقات أخر فقد كانت طيعة تماما أمام اندفاعي وغضبي. جلبت الفانوس ومجرفة من الحجرة الأولى وأخذت أحفر رافضاً الإصغاء إلى نصائح الصوت الذي يشبه صوتي. وعند مستوى ارتفاع الطابوقة الثانية رفع المعول عظمة من رفات أبي. ص144″، ذلك الاكتشاف المذهل يقوده الى أن يفرض على نفسه صمت مطبق هو أشبه بالعقوبة على أمه أيضاً لانها خبأت عنه حقيقة مقتل أبيه ودفنه، “فرضت عقابي الخاص على أمي، مارست معها دور الميت الذي لايسمعها أو يكلمها. ص152″، في تشرين الاول 2002 يصدر العفو العام وتخلى السجون وتوقف كل الملاحقات القانونية باستثناء التجسس لصالح اسرائيل، لكن ذلك القرار لم يحرك به ساكن “كنت خارج مديات أتاثير أمي، عالقا في دهاليز هرمان هيسة الفكري في رواية ذئب البوادي ص157 ” خارج السرداب تتابع الأحداث ويقترب النظام الذي ارتهن مصير البطل به من نهايته، مع إحساس عميق بالوحدة والإنفصال التام عن الواقع يلف شخصية ثائر، لتصل الأحداث الخارجية المتعلقة بمصيره الى نهايتها “في الرابعة عصرا من يوم الأربعاء التاسع من نيسان، كانت رافعة مدرعة أمريكية تجر تمثالا كبيرا لصدام في ساحة الفردوس وسط العاصمة بغداد لتسقطه وسط جمع من المواطنيين العراقيين الفرحين معلنة بنحو رمزي سقوط النظام العراقي. ص159″، كانت تلك بالنسبة للبطل فرصة تأريخية انتظرها لأكثر من اثنتي عشر سنة، كذلك كانت تلك اللحظة بالنسبة للأم، التي فعلت ما لاتفعله إلا النادر من الأمهات في اتخاذ خطوة إقصائية هي أشبه بالمقامرة بحق ولدها الوحيد، في ذلك الوقت كان هو يقف على درجات السلم محاولاً إضفاء نوعاً من الإنسجام مع الذات، “فلترة” ما تشوش وما اضطرب من عقله وافكاره، حيث بدأ العد للألف، كان حينها قد وصل الى منتصف الألف في الرقم 571 حين وقف بمواجهة أمه،” أحمر وجه أمي واهتز صدرها العريض وهي تتلفت في الاتجاهين للتنفيس عن غضبها، رفعت المفتاح بوجهي وصاحت:”- انتظرت هذه اللحظة سنوات طويلة.كل يوم منها كان يعادل سنة وأنا أتعذب من أجلك، وضميري يحاسبني لأنني كنت سببا لحبسك في السرداب. وجاء اليوم الذي سينتهي به عذابي وعذابك. ص160″، وفي خضم هذه اللحظة المكهربة التي جمعت الأم والابن وغائية الظرف الذي عاشا لأجله كل هذه المحن والسنوات، يبقى الذهول يغلف مشاعر الابن فيما الأم تعلن النهاية المأساوية التي وصلا إليها معاً”- كنت تنتظر سقوط صدام والسرداب، فسقطت معهما. ص161″ لقد وضعت الأم إصبعها الحكيم على الجرح، في لحظة حقيقة نادرة ومؤلمة، يؤكدها الابن فيما بعد” سقط السدراب. سقط صدام.وسقطت أنا أيضاً معهما كما قالت أمي. ص163″، ويبدو إنها النهاية المثالية لكل ماجرى خلال تلك الفصول المفجعة من الرواية – الحدث، فلقد قادت الخطوات التائهة، الابن الى وسط صالة البيت ليقف وجها لوجه أمام شقيقاته المستغربات والمذهولات من هول المفاجاة،”توقفت وسط الصالة متأملاً عقارب الساعة الدائرية القديمة ذات الرقاص. كانت تشير الى 11:25 . رحت أجري عمليات حسابية في رأسي فوجدت أنني مكثت في السرداب أثنتي عشرسنة وشهرين وثمانية وعشرين يوما، واثنين وعشرين ساعة، وسبعة دقائق. ص165″ ثم يقرر مغادرة البيت ليكتشف العالم الحقيقي عيانياً وكما هو وليس كما تنقله له وكالات الأنباء، كان العالم يبدو أمامه في مدينته التي غادرها قسراً قبل سنوات، فوضوياً وغرائبياً، وللدلالة أكثر على غرائبية الواقع فأنه يجعل البطل يصادف في طريقه المتعثر نماذج كثيرة تشبهه،” صادفت كثيرين يشبهونني مظهرياً في الشوارع التي مررت بها ذلك اليوم. وكأنهم خرجوا للتو من سجون سرية كالذي كنت فيه.ص169″ وكنهاية متوقعة للإنفصام التام مع الواقع الذي لم يعد كما كان، يقف في طريق عودته متأملاً صورة الرئيس في أوسمته ونياشينه، وفي رأسه الكثير من الأسئلة، إذا كان كل ماحدث له ولبلده يستحق أن يكون ثمناً لتلك الرموز السلطوية الفانية، ثم يفجر سؤاله العبثي الأخير”إن كان هو يستحق أن تضيع بسببه أكثر من أثنتي عشر سنة من عمري.ص170″.ليقرر العودة مرة أخرى إلى السرداب، كقرار نهائي.
في رواية “سقوط سرداب”كان هناك رهان مثالي على أن حياة الناس ممكن أن تكون محتملة وهي مرتبطة/”برمز سلطوي”، لكن هذا المستوى من التعقل الأيدلوجي، يتطور في خضم الأحداث الخارجة عن إرادة الناس وحتى السلطة، ليتحول في مرحلة لاحقة، إلا أن سقوط السلطة لايكفي وحده كي تتحرر الأنفس، بل يحتاج الناس إلى ما هو أكثر، وهو التخلص من عبء السلطة نفسها بما تحمله من دلالات لصيقة، وهو “السجن”، الذي اختار له الروائي هنا/”السرداب” كدلالة مرجعية، الإبتعاد عن عين السلطة، لكن في النهاية يتحول السرداب نفسه إلى حلقة ثقيلة في سلسلة الانعتاق، حين يُسقط معه الرئيس والبطل معاً، “سقوط سرداب”واحدة من التجريبات السردية الروائية التي نجح فيها الروائي نوزت شمدين في كل سياقات النص الأسلوبية والتقنية والدلالية، ليقدم لنا نصاً قريباً في روحه من أدب الحرب، ومحايثا في تجربته في الغوص في أعماق النفس البشرية وهي تواجه مصيرها منفردة، في ظل عالم يغلفه رعب السلطة واستبداداها.

تعليقات الفيسبوك

شاهد أيضاً

| مهند النابلسي : سينما ارتجالية وشهرة مجانية وشخصيات سطحية:وصف دقيق لتحفة ترفو”الليلة الأمريكية”-1973/الفيلم الفائز باوسكار أفضل فيلم أجنبي لعام:1974 .

*يلعب Truffaut نفسه دور مخرج سينمائي يُدعى Ferrand ، الذي يكافح ضد كل الصعاب لمحاولة …

| عبدالمجيب رحمون : كيف نتواصل بالحكي؟ أو الرواية والحياة عن رواية “عقد المانوليا”

لماذا نقرأ؟ وكيف نقرأ؟ هذان السؤالان الإشكاليان اللذان طرحهما الناقد الأمريكي “هارولد بلوم” لم يكن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *