ليس وارداً الحديث عن مجتمعات تخلو تماما من تنوع ثقافي،وفيما لو وجدت مثل هذه المجتمعات فهي ليست سوى ضربا من الخيال،أو انهامجتمعات تنتمي تاريخيا لمراحل متقدمة جدا من عمر البشرية .
التنوع المكوِّناتي يعني ثراء في مساحة الروافد الثقافية للمجتمعات،يمنحها قوة وخصوصية وحيوية،ولن ينتقص من أهميتها ومكانتها فيما لو قورنت مع مجتمعات اخرى تبدو للوهلة الأولى وكأن التنوع لايشكل فيها سمة اساسية .
التنوع الثقافي رافق الحضارات البشرية الأولى،منها حضارة وادي الرافدين التي جمعت في محطات تاريخية من عمرها،عديد الشعوب التي تنتمي الى اجناس مختلفة،كما في الامبراطوية الاشورية نتيجة انتصاراتها العسكرية التي امتدت على مساحات واسعةحتى وصلت حدود الفراعنة غربا والخليج العربي جنوبا،فتتداخلت فيها شعوب وثقافات مختلفة ضمن الامبراطوية الكبيرة .
حضارتنا المعاصرة
اليوم تبدو لنا صورة المجتمعات عبارة عن خليط من الاجناس تنتمي لثقافات وبيئات متنوعة،وينبغي أنْ نشير بهذا الصدد إلى أنَّ التنوع الثقافي يبدو اكثر فاعلية وحضورا في مجتمعات تتسم بالانفتاح،حيث تبرز قيمة التأثير المتبادل عبر حوار حيوي نجده شاخصا في تفاصيل صغيرة من حياة البشر،وليس الأمر مقتصرا على مؤتمرات تلتقي فيها نخب ذات تنوع ثقافي،وهذا يعود الى طبيعة النظام السياسي القائم على احترام وتقديس التعددية،كما هو الحال في عدد من الدول الاوربية مثل السويد والنرويج والدانمارك وغيرها من البلدان .
بينما على العكس من ذلك نجد نقيض هذه الصورة في مجتمعات تكاد ان تكون سمتها الرئيسة الانغلاق على ذاتها وشيوع مشاعر الريبة والشك والكراهية بين مواطنيها تجاه الشعوب والمجتمعات الأخرى خارج دائرة الحدود الجغرافية لبلدانها،وذلك نتيجة خضوعها لأنظمة سياسية تتسم عادة بالقمع والشمولية والتعصب القومي،وهذا ماجعل مواطنوها أن يكونوا على هذه الصورة من التقوقع على ذواتهم،والامثلة هنا كثيرة سواء في منطقة الشرق الاوسط او في مناطق اخرى من اسيا وافريقيا .
وبناء على ذلك يجد التنوع الثقافي فرصته في الظهور والحضور المؤثركلما وجد بيئة مُنفتحة تتيح له التعبير والتواجد والتفاعل.
ولكي تصبح هذه البيئة سياقا عاما للحياة ينبغي ان تتوفر لها جملة من الاحكام والقوانين تنظِّم عملية التعايش والتفاعل الانساني بين المكونات،بدونها يصبح مستقبل التنوع محفوفا بجملة من المخاطر،قد يتعرض بموجبها الى القمع والضمور.
ونظرا لما يتمتع به المجتمع العراقي من تنوع كبير في مكوناته،تبرز قضية التنوع الثقافي على انها في مقدمة القضايا من حيث الأهمية التي تفرض تحديات حقيقية أمام المجتمع بفعالياته الثقافية،اضافة الى الدولة بكل مؤسساتها الرسمية وغير الرسمية،وحتى هذه اللحظة لايبدو لنا ان هنالك رؤية واضحة حول هذا الموضوع طالما لم نجد على الارض فعاليات وممارسات جدية تضطلع بها الدولة ومنظمات المجتمع المدني في تكريس هذه الرؤية هذا فيما لو سلمنا جدلا انها حاضرة .
الانظمة السياسية
تاريخيا نجد أن التنوع الثقافي في المجتمع العراقي شابه كثير من الضرر والاذى بسبب السياسات التي كانت تنتهجها انظمة الحكم التي تعاقبت على ادارة الدولة العراقية منذ تأسيها عام 1921 وإن كان ضررها بدرجات متفاوتة بين نظام وآخر.
وهنا بهذا الصدد لابد أن نشيرإلى أن الثقافة العربية كانت هي المهيمنة والسائدة خاصة في الاطار الرسمي(في المدراس والمؤسسات الحكومية والمطبوعات،الى غير ذلك من اليات التعبير والافصاح الثقافي)مقابل شبه غياب لبقية الثقافات الاخرى مثل:الكوردية والسريانيةاضافة الى بقية الثقافات الاخرى التي تعكس ذاكرة اقليات ومكونات اصيلة في بنية المجتمع العراقي كالايزيدية والصابئة والشبك. واسباب ذلك لاتعود إلى أن العرب يشكلون اغلبية سكانية،إنما يعود أُسْ المشكلة الى شيوع الافكار الايدلوجية السياسية القومية التي تُعلي من شأن كل ماهو عربي، مقابل إهمال كل ماله صلة ببقية المكونات الاخرى.
هذا النمط من الفكر القومي المنغلق،كان سمة عامة وغالبة لعقائد الاحزاب العاملة أو الحاكمة في المنطقة العربية ومنها العراق،والتي كانت تعيش ــ انذاك ــ عصرها الذهبي،ابتدأ من مطلع القرن العشرين وحتى نهايته التي شهدت افول نجمها لتحل بدلا عنها احزاب دينية يشكل التخندق الطائفي المذهبي سمتها الجوهرية،وهذه الاحزاب ــ هي الاخرى ــ زادت من خطورة الأمر على التنوع الثقافي وشلل الحوار بين الثقافات المتنوعة في مجتمعاتها،ذلك لأنَّ ايدلوجية هذه الاحزاب لاتعترف في مبادئها ومنطلقاتها الفلسفية بالخصوصيات والثقافات المتنوعة للمجموعات البشرية، مقابل اعترافها بالهوية الدينية المذهبية فقط.
من هنا يمكننا القول بأن الفكر بشكله القومي والديني،عندما يتحول الى ايدلوجيات حزبية وسياسية يتحول بالنتيجة الى وقود للصراع وليس للحوار ويحيل الحياة الى ساحة حساسة جدا قابلة لاشعال الحرائق تحت اقدام الجميع،فأيدولوجية الاحزاب القومية والدينية تعجِّل في امكانيات الاحتدام مع الآخر بأعتباره كيانا آخر منفصل عن الآخرفي بنيته الثقافية التي تشكل ابرز علاماتها :القومية والدين والمذهب .
الخطورة لاتكمن في الانفصال بين(الأنا والآخر)بناءً على اعتبارات:القومية والدين والمذهب،بقدر ما تكمن في الانفصال الوجداني،الذي تكرِّسهُ وتنظِّمهُ وتؤطِّرهُ وتخندِقهُ المنظومة الايدلوجية،بوجهيها القومي والديني في نسيج الممارسات والسلوكيات والمواقف داخل البيئة الأجتماعية،لتكون نتيجتها الحاق الضرر الأكبر في المساحات التي يمكن أن يتحرك فيها التنوع والحوار الثقافي داخل مفاصل واوجه الحياة الانسانية .
وفيما لو افترضنا حسن النيّة كانت متوفرة لدى بعض الانظمة التي سبق أن حكمت العراق خلال القرن الماضي في أن تسلك ماهو اقرب الى الانصاف ــ كما يبدو ذلك نظريا ــ في سياساتها تجاه الثقافات الاخرى التي تشكل هوية الاقليات والمكونات للمجتمع،إلا أننا نستطيع بهذا الصدد أن نجزم بالغياب شبه التام لستراتيجيةٍ واضحةٍ بهذا الصدد،مع غياب المنظومة الفكرية،والآليات التي تستند إليها في التعامل مع هذه الموضوعة بالشكل الذي يحافظ على التنوع والحوار الثقافي المتبادل،ويزيح من امام المكونات الثقافية كل عوامل الخوف والقمع،مثلما هو الحال مع تلك القرارات التي كانت قد صدرت بقصد انصاف بعض المكونات الثقافية المختلفة التي يتشكل منها المجتمع العراقي،مثل قانون منح الحقوق الثقافية للناطقين باللغة السريانية،الذي صدر في مطلع سبعينات القرن الماضي،والذي لم يكن سوى حبر على ورق،طالما غابت عنه الخطوات العملية التي تؤكد حضوره على ارض الواقع بشكل جاد،وهذا يعود إلى أن الهدف من اصدار مثل تلك القرارات كان بقصد تحقيق اغراض سياسية مرتبطة بأزمات واختناقات يعانيها النظام القائم انذاك،فكانت تلك القرارات بمثابة سبيلا ــ لا مفر منه ــ للخروج من دائرتها،اكثر مما كان تهدف الى فتح الابواب امام الثقافة السريانية لكي تتحرك آليات عملها الثقافي .
هذا المبدأ لم يقتصر بطبيعة الحال على الناطقين باللغة السريانية بل تعدى ذلك ليشمل كافة المكونات التي يتشكل منها المجتمع العراقي وفي مقدمتها الثقافة الكوردية التي بقيت معزولة تماما عن محيطها العراقي،على الرغم من أن الكورد يشكلون النسبة الثانية من حيث العدد بعد العرب في إطار الدولة العراقية.
ويمكننا ايضا أن نشير إلى قضية مهمة جدا،ليس صعبا تلمسها مجتمعيا،وذلك بانعدام الحوار والتفاهم والتواصل مابين الثقافتين العربية والكوردية ـــ عبر اللغة الكوردية ـــ مابين العرب والكورد،واقتصار التفاهم عبر اللغة العربية فقط،وهذا مايمنحنا ابلغ صورة على التعالي والتجاهل والقمع الذي تسببت به سياسات الانظمة التي حكمت الدولة العراقية جميعها دون استثناء.
مابعد العام 2003
هنا يطرح سؤال جوهري:هل حصل ماكنّا نرجوهُ من تغيّر في الرؤى والمناهج والسياسات ازاء قضية التنوع الثقافي بعد العام 2003 ؟
للوهلة الأولى يبدو وكأن هنالك تصالحا مع الذات قد بدأ يفرض حضوره،خاصة وان اصوات المكونات باتت تعلوا وتكشف عن نفسها وخصوصيتها الثقافية في التعبير واللفظ .
هذا التحول لايمكن تجاوزه أو انكاره،فهنالك مطبوعات وكتب واصدارات اضافة الى القنوات الاعلامية الاخرى،كما هو الحال مع البث الفضائي الذي يعكس هذه الحقيقة،فقد امست أدوات الاتصال والتعبير مفتوحة امام التنوع الثقافي لكي يكشف عن مكنوناته .
لكن مازال هنالك طريق طويل لكي تتحقق الاماني الكبيرة على طريق التنوع الثقافي كما ينبغي،طالما اصبحنا نواجه اشتداداً في نبرة التطرف الديني،اخذت تعلن عن نفسها،هنا وهناك،وهذه علامة بلاشك تؤكد على صعوبة المسار الذي تواجهه قضية التنوع والحوار الثقافي .
تصحيح المفاهيم
ولكي يكون المسار صحيحا ينبغي اولا تصحيح الفهم الخاطىء حول قضية التنوع الثقافي،فقد شابت الرؤية الجمعية بعد العام 2003 المتعلقة بهذا المفهوم كثير من الفوضى،بالشكل الذي اصبح هنالك خلط كبير بين ماهو ثقافي وماهو سياسي،الى الحد الذي تسببَ في الحاق ضرر كبير للمفهوم ذاته مِن قبل المكونات والاقليات ذاتها التي كانت متضررة طيلة العقود الماضية،حتى بدت الصورة بسبب هذا الخلط وكأن البلاد ماضية الى التمزق .
الخطأ هنا يكمن في سَحب ماهو سياسي ــ من حيث المفهوم ــ الى ماهو ثقافي وبالعكس،حتى بدا وكأن المسألة ليست سوى قضية صراع على المناصب والحصص السياسية بأسم المكونات،وليس تأكيدا على الهوية الثقافية وحضورها وفاعليتها في تشكيل الوجدان الفردي والمجتمعي ضمن اطار الدولة والمجتمع بهويته الوطنية.بالشكل الذي اصبحت فيه قضية المكونات بتنوعها الثقافي لا تُطرَح باعتبارها قضية هوية ثقافية،بقدر ما اصبحت تطرح على انها جزءا من معركة سياسية بين المكونات ــ كل واحدة منها ضد الأخرى ــ سعيا للحصول النفوذ والمكاسب والمناصب السياسية،في محاولة حثيثة لكل منها التعويض عن سنوات القمع والحرمان التي مرَّت بها.وهنا تكمن الاشكالية التي تقف وراء المأزق الأجتماعي/الثقافي الذي يبدو وكأنه قد وصل الى مرحلة الانسداد،نتيجة هذا الخلط في المفاهيم.
الخلاصة
إن التنوع الثقافي،لكي يبقى فاعلا ومؤثراً ينبغي العمل على تأطيره في اطار عمل مؤسساتي مُشرْعَن بقوانين يقرها الدستور،وأن لاتبقى الجهود في اطار العمل الفردي الذي يخضع للظروف والأمزجة الشخصية،وأن يكون محكوما باليات تجعله جزءا من بنية المجتمع ومؤسساته .
مروان ياسين الدليمي : التنوع الثقافي وسلطة الأيدولوجيا
تعليقات الفيسبوك