إشارة :
يهم أسرة موقع الناقد العراقي أن تقدّم هذا الملف عن الشاعر المبدع والإعلامي الكبير الدكتور زكي الجابر بمناسبة الذكرى الثالثة لرحيله حيث غادر عالمنا في الغربة يوم 29/كانون الثاني/2201 . وتهيب أسرة الموقع بجميع الأحبة الكتّاب والقرّاء المساهمة في هذا الملف بما يملكونه من مقالات أو دراسات ووثائق وصور ومعلومات وذكريات عن الراحل . وسيكون الملف – على عادة الموقع – مفتوحاً من الناحية الزمنيّة .هذه المادة المهمة التي تكشف ثراء ثقافة الراحل وتعمّقه في حقل مضاف هو المسرح وصلت من الناقدة الدكتورة حياة جاسم محمد فشكرا لها .
المقالة :
في ثنيات معطفي القديم هذا وجيوبه المتآكلة وريقات توشك أن تتآكل، تتحدث عن بدر شاكر السياب شاعراً وإنساناً. تشير الوريقة الأولى إلى لقائنا الأول، وهو لقاء يعيد عليّ السياب وقائعه أينما شاهدته وأيان التقيته. كان يقول إنه تعرف عليّ وأنا لم أضع خطواتي بعد في المدرسة الابتدائية، أما هو فقد كان تلميذاً في المدرسة المحمودية الابتدائية، إحدى مدارس أبي الخصيب، القضاء القابع في عمق جنوب البصرة. ليس في خاطري من ذلك اللقاء إلا بعض الظلال الواهنة. لقد كان أخي المعلم المرحوم عبد الجبار الجابر يصطحبني بعض الأحايين إلى تلك المدرسة حاملاً معي صرة فيها بعض البيض المسلوق والخيار والبطاطا. وفي حين من تلك الأحايين شاركني بدر هذا الغذاء، وأذكر أنه فتح صرته ولم يكن فيها شيء يختلف عما جئت به. وخلال تناولنا تلك الوجبة المشتركة كنا محاطين بنفر من طلاب تلك المدرسة، ومعظمهم بائسون بنعال مهترئة، أشبه بالحفاة، تعلو وجوههم صفرة فقر الدم، ويطحن أحشاءهم الزحار. ولم يكن صاحبنا ليختلف عن أولئك التلاميذ في شيء. وفي الوريقة الثانية إشارات إلى مطالع الأربعينات ونهايات الخمسينات. صار السياب ثورياً ملتزماً بخط اليسار، وكان يتصدر المظاهرات مندفعاً بحماس بالغ، وطالما حمل المتظاهرون جسده النحيل ليردد عليهم شعره الثوري. ولا تكاد تجد شاباً في ذلك الحين معنياً بالفعل السياسي إلا ويحفظ بيتاً من هنا وآخر من هناك من قصيدته في تحية إضراب عمال الميناء في البصرة، أو يردد بيتيه الشهيرين:
جوعان يسلب ألف طاغٍ قوته
من مدعين به ومن أغراب
إن همّ بالإفصاح قالوا: ’’مجرم
خطر العقيدة، أحمر الجلباب‘‘
تقول الوريقة الثالثة إن السياب ابتعد عن التزامه بخط اليسار متجهاً إلى الخط العروبي، ولا تكاد تلتقيه إلا وتجده ساخطاً على اليسار والحزب والمعسكر الاشتراكي، وفي سخطه ذاك كان مرتجف الصوت مهتز الجسد! وفي هذا الأوان تماسك شعره أسلوباً ومعنى وهدفاً، متبنياً حركات الثورة في الوطن العربي، حاملاً هموم الإنسان أينما كان. في هذا الأوان كتب السياب عن جميلة بو حيرد، وأشار إلى ’’وهران‘‘ التي لا تثور، وتدفق شعره إعجاباً وتحية لبطولات ’’بور سعيد‘‘، وتظل بغداد في قلبه وإن كان يصفها بالمبغى الكبير! وفي منطلق تحولاته الجديدة نشر قصيدته الشهيرة ’’المومس العمياء‘‘، تلك التي قال فيها:
كالقمح لونك يا ابنة العرب
كالفجر بين عرائش العنب
أو كالفرات على ملامحه
دعة الثرى وضراوة الذهب
لا تتركوني فالضحى نسبي
وإذا ما كان من شيء يُحمد لليسار في ذلك الأوان فهو الاكتفاء بالبرود ’’العجيب‘‘، ولم تبدر حتى من المتطرفين بوادر الشتم والاتهامات بالانشقاق والعمالة.
تقدم الوريقة الرابعة للسياب صورة حزينة يبدو فيها شاحب اللون، منهك الجسد، هش العصب! شاهدته في الممر العلوي من مديرية الموانئ العامة في البصرة التي كانت تتصدر بمهابة مدخل ’’المعقل‘‘. كان يدب واهناً معتمداً على عصاه، قدماه حافيتان ملتفتان بالضمادات، ومع ذلك فقد كان مبتسماً، يبدو عليه الانشراح. فهو موظف في الميناء مشمول برعاية المدير العام العسكري مزهر الشاوي. لقد كان يحنو عليه، منحه بيتاً ليستقر فيه مع أسرته، كما كان يدعوه لإلقاء بعض القصائد في المناسبات، وإن كان السياب يلقي قصائد لا علاقة لها بمناسبة الاحتفال، ويقال إنه فتح ديوانه وألقى قصيدته ’’أنشودة المطر‘‘ بمناسبة اكتمال بيوت جديدة في الميناء.
ويتحكم المرض بالسياب فيشل جسده ويحطم عصبه، فينقل إلى لندن للعلاج، ثم إلى الكويت لينتقل فيها إلى جوار ربه في كانون الأول 1964. ويحمل أصدقاؤه القلة جثمانه ليوارى الثرى في مقبرة الحسن البصري في ’’الزبير‘‘.
أما الوريقة الخامسة فتتحدث عن زيارتي دار الفنان نداء كاظم شقيق المسرحي عادل كاظم. كان نداء مضطلعاً بنحت تمثال للسياب بتكليف من وزارة الثقافة والإعلام، وللتمثال هذا قصته:
اعتكف نداء كاظم على نحت التمثال في فسحة من أرض مكشوفة لصق داره. في ذلك ’’المشغل‘‘ المكشوف أنجز الفنان عمله ببراعة. كان يحيط جوانب التمثال وأعلاه بالحصران والبواري ليقيه المطر وقسوة البرد. ومن خشيته عليه من التشقق كان يوقد الجرائد ليشيع الدفء في النصب. وحين استوى التمثال مكتملاً حمله الفنان وأصدقاؤه على سيارة ’’لوري‘‘ إلى مصب أمانة العاصمة، وكان المصب هذا بدائياً، إذ لم يكن سوى مغسل الموتى من المعدمين والفقراء. وبعد انتهاء عملية الصب حمل التمثال بصورته النهائية على متن ’’لوري‘‘ آخر إلى البصرة ليستقيم على قاعدته المشيدة عند مدخل ’’كورنيش‘‘ شط العرب. وقد اختارت الأستاذة حياة جاسم محمد مقطعاً من شعر السياب ليخط على القاعدة، وفي هذا المقطع يقول الشاعر:
الشمس أجمل في بلادي والظلام
-حتى الظلام- هناك أجمل فهو يحتضن العراق
واحسرتاه، متى أنام
فأحس أن على الوسادة
من ليلك الصيفي طلاًّ فيه عطرك يا عراق؟
وأزيح الستار عن التمثال في احتفال حضرته جمهرة من المعجبين وبعض المعجبات ممن كتب السياب فيهن غزله. أما المشكلة التي استعصت على الحل فهي من يتولى غسله وتنظيفه من الغبار؟!! وأذكر أن بلدية البصرة تبنت هذا العمل ولكن كثيراً ما يتقاعس المنظفون فتأتي زوجة الشاعر إقبال أم غيلان بسطل ماء لتزيح الأتربة العالقة!
وفي الوريقة السادسة حديث عما قمتُ به من أجل ما لم ينشر من شعر السياب. من ذلك الاتصال بالأديب عبد الجبار العاشور للحصول على ما تجمع لديه من شعر السياب الثوري. وكان ذلك، ونشرت وزارة الثقافة والإعلام ما تمكن العاشور من جمعه. ومن ذلك أيضاً حصولي على مخطوطة قصيدته المطولة ’’اللعنات‘‘ ومجموعة من بواكير شعره تحمل اسم ’’قيثارة الريح‘‘.** لقد كتبت قصائد المجموعة الأخيرة، كما تشير تواريخها، خلال النصف الأول من عقد الأربعينات. وإذا علمنا أن الشاعر ولد عام 1926 فلا غرابة أن نجد الطابع الغالب على تلك القصائد وصف الطبيعة والغزل، ولعل أهم قصيدة في المجموعة هي تلك التي تحمل عنوان ’’ديوان شعر‘‘، وقد نالت ما تستحقه من إعجاب حين نشرها في ديوانه الأول ’’أزاهير ذابلة‘‘. كتب السياب بالقلم الرصاص: ’’هنا وضعت ربة شعري خنصرها‘‘ عند البيت الذي يقول:
’’قربتُ من حسد أقولُ له
يا ليت من تَهواكَ تَهواني..!
وكتب بالقلم الرصاص أيضاً عند بيتين من أبيات قصيدته ’’إلى صائدة‘‘:
’’قالت ربة شعري عن هذين البيتين عظيمان‘‘.. والبيتان هما:
تصيدين الفراش كفاك صيداً
قلوب بات أسلمها مصاباً
سلي عينيك إن حاولتِ علماً
أما دَعَتا فؤاديَ فاستجابا
وقد زين السياب مجموعته تلك بمناظر طبيعية بنفسه!
أما مطولته ’’اللعنات ‘‘ فهي محاولة تحديث لرحلة ’’المعري‘‘ ومن بعده ’’دانتي‘‘ إلى الجحيم، ويبدو السياب فيها منصرفاً إلى معاناة الفقراء تحت سطوة الطغاة. يقول مطلع المطولة:
لا ترجفي يا بنان القارئ الآنا
ما انشقّ باب ولا صافحتِ شيطانا
إن المخطوطتين ’’اللعنات‘‘ و ’’قيثارة الريح‘‘ معي الآن، في مدينة ’’كوربس كريستي‘‘ من أعماق تكساس. ولعلك تجد ما يريح نفسك المتعطشة للجمال والتراث الرفيع حين تتطلع إلى الصفحتين المرفقتين بهذه الحلقة من الذكريات. لقد حملت معي المخطوطتين باعتزاز في رحلتي عبر المنافي من بغداد إلى تونس، ومنها إلى الجزيرة العربية، ثم إلى المغرب وأخيراً إلى أمريكا! لقد تقدم بي العمر، وإني لأخشى عليهما أن تضيعا في مهب الريح، ومن الخير لهما أن تستقرا في مكتبة إحدى الجامعات المعنية بالتراث العربي. وسأحاول ذلك، وربما أجد منك أخي القارئ عوناً. ولعلك تتساءل مثلما أتساءل: ترى ماذا يكون مصير هاتين المخطوطتين لو مكثتا في بغداد؟!
وتدور الأيام حتى كان ذلك اليوم الذي وقفت فيه أمام جمع من الأدباء والمتأدبين عند قبر السياب في الزبير. وما إن أوشكتُ على البدء بإلقاء كلمتي حتى هطل المطر، وانثالت في خاطري، وربما خواطر المجتمعين، أبيات السياب في رائعة ’’أنشودة المطر‘‘:
ويهطل المطر،
وكل عام، حين يعشب الثرى نجوع
ما مرّ عام والعراق ليس فيه جوع
مطر …
مطر …
مطر …
وقبل مغادرتي العراق محملاً بذكرياته من منفى إلى منفى اصطحبت أخي المرحوم عبد الجبار في زيارة لأبي الخصيب، ووقفنا عند قرية ’’جيكور‘‘، قرية الشاعر وملحمة بواكير شعره. وعرّجنا إلى بيت جده، واستدرنا إلى المدرسة المحمودية، وعن بعد لمحنا شناشيل ابنة الجلبي، وترقبنا لعل عينيها تلتمعان خلف المقرنصات والزجاج الملّون، ولكن حظنا خاب كما خاب حظّ السياب من قبل.
’’ثلاثون انقضت، وكبرتُ، كم حب، وكم وجدِ
توهج في فؤادي
غير أني كلما صفقت يدا الرعد
مددت الطرف أرقب ربما ائتلق الشناشيل
فأبصرت ابنة الجلبي مقبلة إلى وعدي
ولم أرها. هواء، كل أشواقي أباطيل
ونبت دونما ثمر ولا ورد!
* نشرت في مجلة ’’القيثارة‘‘، ديترويت، الولايات المتحدة، العدد 2، 2006.
** شارك زكي في تحقيق مجموعة ’’قيثارة الريح‘‘ المنشورة في سلسة المطبوعات الفنية، ديوان الشعر الحديث (9)، بمناسبة الذكرى السادسة لرحيل السياب. وهذه المجموعة مضمنة في ’’ديوان بدر شاكر السياب‘‘، المجلد الثاني (بيروت: دار العودة، 1974). وكتب مقدمة الديوان ناجي علوش.