حامد سرمك حسن : الضرورة المعرفية للفن

hamed sarmak 2إن الفن، بوصفه التجسيد المحسوس للفكرة، يبقى الأقوى من ناحية قدرته، من الدين والفلسفة، في تمثيل الأفكار الرفيعة حسياَ وتجسيدها أمام الآخرين ليصبحوا على وعي بها. وأسمى مقصد للفن، حسب “هيجل”، هو ذاك المشترك بينه وبين الدين والفلسفة؛ فهو، كهذين الأخيرين نمط تعبير عن الإلهي، عن ارفع حاجات الروح وأسمى مطالبه، فالفكر تارة يعارض الواقع الحسي حين يحلق فوق العالم المتناهي، الحسي، بحثاً عن المعرفة، لكن الروح يعود بعد تلك القطيعة، إلى التصالح مع هذا العالم المتناهي عن طريق حلقة وسيطة هي من نتاجه تتمثل فيما يخلقه من ذاته من روائع الفنون الجميلة التي ترمي إلى ربط الخارجي والحسي والفاني بالفكر المحض، والى التوفيق والمصالحة بين الطبيعة والواقع المتناهي وبين الحرية اللامتناهية للفكر المتفهم( 1). يتوجب الإشارة إلى العلاقة الوثيقة بين النشاط الديني ونشاط الجمال للتماثل الحاصل بينهما ، فطالما أدى التصوف والجمال احدهما إلى الآخر. وما يدلل على هذه العلاقة الوثيقة بين الدين والجمال اقتران الطقوس الدينية بأشكال مختلفة من الفن ،حتى ان الشعوب قد وضعت في الفن أسمى أفكارها،وكثيرا ما أضحى الوسيلة الوحيدة لفهم ديانة شعب من الشعوب ،حتى ذهب الفيلسوف الألماني “هيغل” إلى أن الفن عموماً يمثل مرحلة من المراحل التي توصل إلى الفكرة المطلقة، والعقل الشامل، ولكن بملائمة اكبر من هذه الناحية بما تؤهلها لها طبيعة الفن لان هذه الوسيلة تكشف عن الفكرة بتأمل مباشر، في شكل صورة فنية، وبشكل حسي هي أكثر مما في تطور منطقي أو في ديالكتيك المفاهيم والقياسات المنطقية( 2).
إن ثمة روابط راسخة قدم الإنسان تربط بين الدين والفلسفة والفن بوصفها مناهج معرفية يتوسل بها الإنسان لوعي ذاته ووجوده. ولان الفن تتحقق فيه أعلى حالات التوحد أو التقارب بين الذات والموضوع وبسبب من اعتماده الحدس في الكشف عن جوهر الأشياء وحقيقتها فلطالما فضله كثير من الفلاسفة والفنانين ووضعوه في منزلة تضاهي الفلسفة ذاتها. فقد ذهب “شلينج” إلى ان الفن هو الذي يدخلنا إلى معبد تحوم حوله بقية فروع المعرفة، أما الفلسفة فإنها تقف بنا في ساحة ذلك الحرم . وهكذا ارتفع الشعر عند الرومانطيقيين إلى درجة رفيعة في ميدان المعرفة والفكر، وأصبح كالفلسفة أو هو الفلسفة ذاتها، حتى عدّت التفرقة بين الفن والفلسفة عملاً سطحياً؛ ورأى الرومانطيقيون أن أعلـى مهمة للشاعر الحديث هي أن يوجد شكلاً جديداً من الشعر سماه “فردريك شليجل” ((الشعر الإعلائي)) Transcendental أي ان غاية الغايات عندهم هي جعل الفلسفة شعراً والشعر فلسفة.
لا يمكن إنكار أهمية العلم والفن في البناء الحضاري، فلكل ميدانه الخاص به، العلم يسعى لإثبات حقائق الطبيعة الخارجية، وهو مشاع تشترك في نتاجه كل الشعوب. والفن ميدانه حقائق الطبيعة الداخلية، وهـو متنوع بتنوع الأفراد والأمم. فالإنسان بحاجة إلى الموضوعي والى الذاتي كي تتكامل شخصيته الحضارية. وما يؤديه الفن من دور في الحياة البشرية لا يقل في أهميته عن دور العلم في تحقيق خير الإنسان وتكامله إذ يمثلان حالة إبداعية متقدمة تسهم في تحقيق طموحات الإنسان وزيادة بصيرته بنفسه ومحيطه مما يساعد وبشكل فعال في ارتقائه. من الواجب التنبه أن الحقائق التي يستطيع العقل كشف كنهها تختلف عما يستطيع الفن، أو الإدراك الحدسي، إدراكه من حقائق، فلكل ميدانه الخاص به. ولا يجوز الاقتصاد في مجال المعرفة على مـا يتم إدراكه بوساطة العقل فقط، وإنكار كل ما يقع خارج نطاقه الإشعاعي، فالإنسان قادر بوساطة الحدس، أو فعل الإدراك الشعوري، ان يستكشف من الحقائق ما لا يقدر عليه العقل. فهذا “هنري برجسون” يعتمد الحدس في اكتناه البواطن و ما خلف السطوح و يستنكر هـذا التشبث بالعقل وحده دون غيره من وسائل الإدراك، لأنه يصلح للتبصر بظواهر الأمور فقط ولا يصلح لأشياء أخرى.
إن الإنسان بفعل قصر عمره وتعين مكان عيشه لا يستطيع الإحاطة بالخبرة الشاملة عن الحياة بالاستعانة،فقط، بتجاربه الخاصة لما تتسم به من محدودية وضيق. لذا كان بحاجة إلى كتب التاريخ والحكمة للإطلاع على تجـارب الآخرين، وتجارب أجداده مذ وجدوا على ظهر البسيطة. لكن هذا الأسلوب لا يضمن التأثير القوي في سلوك الناس الذي لا يمكن تحققه إلا بالاكتشاف الذاتي للخبرة،كي تكون مؤثرة وفاعلة، أن تكتسب عن طريق التجربة المتأصلة على المعايشة والممارسة ولا يكتفي بالتعلم المجرد فقط .
فالممارسة الفردية للخبرة ومعاناتها شخصيا،ً تجعلها جزءاً من شخصية الإنسان. وبسبب محدودية تجربـة الكائن، كان الفن بحكم طبيعته الحية، الأقدر على ترسيخ المعرفة والخبرة بالحياة عند الإنسان، لان الفن يختلف عن الأدوات الاجتماعية الأخرى للتأثير الثقافي والعملي فهو لا يطرح وصفات جاهزة أو تقييمات غير مشروطة أو معايير مطلقة، لانه إذ يحاكي الحياة فانه يبدع نماذجه الحياتية الفاعلة، القادرة على تغيير الإنسان مثلما تغيره الحياة.
هكذا نجد أن الفن الأصيل قادر على الوصول إلى أعلى المراتب ضمن وسائل الإدراك المعرفي، وكثيراً ما قرن بالدين والفلسفة من قبل جهابذة الفلسفة والفن. فالكشف عن علاقة العلية هي باكورة ما تسعى إليه كل نشاطات الإنسان سواء في ميدان العلم أو الفلسفة أو الدين، إن الفن الحق باعتماده على عنصر الحدس والخيال ومحاكـاة الحقيقة يمتلك من الوسائل ما يؤهله لذلك الكشف، الوقوف في أساس العلة، ما يجب أن يكون الوظيفة الأساسية للفنون .
إن لكل فعل يقوم به الإنسان أهميته ومغزاه وثقله في ساحة الحياة سواء أكان للإنسان ذاته أم للآخرين. فالأفعال تتنوع في أشكالها فضلاً عن اختلافها من ناحية قيمتها، وعليه فان للأثر الفني قيمته العالية لكونه، زيادة على انه نتاج العقل والوجدان، فانه من صميم القلب والروح. فهو مما يبقى و لايمكن مقارنته بقيمة مالية أو مادية زائلة. وحتى في الميدان الاقتصادي فانه لا توجد مقارنة بين العمل الفني وما ينفقه الآخرون من هواة الفن وأنصاره . ففي حين يبقى العمل الذي يبدعه الفنان خالدا على مر الزمان بما فيه من فن وفكر يستعصيان على الفناء، يكون الزوال مصير الأموال التي يدفعها مقتنو الأعمال الفنية إذ سينفقها الفنان عاجلا أم آجلا(*1).
يرفع مالك بن نبي الجمال إلى درجة رفيعة من خلال جعله مقياساً لكل محتويات الإطار الحضاري، بل اكثر من ذلك بجعله الإطار الذي تتكون وتتحدد فيه معالم أية حضارة . فيؤكد على ضرورة ملاحظة الجمال ((في أنفسنا، كما ينبغي ان نتمثل في شوارعنا، وبيوتنا ومقاهينا، مسحة الجمال التي يرسمها مخرج رواية في منظر سينمائي أو مسرحي)) ( 3).
والإنسان في توقه إلى الخلود والكمال نراه يميل إلى الفن والى الأعمال الفنية العظيمة ـ فالفن باق زيادة على تمثله لما يمكن أن يكون، أي للكمال ـ لذلك فانه يفرق نفسه في آثار الفن، فيتمثل حيوات غير حيواته ويتوحد معها، ويستجيب لها . فهو يستجيب للأعمال الفنية متذوقاً ومشاركاً للفنان المبدع، لأنه يجد في الفن المتعة والإثارة الجمالية والتي تتمثل فيما تعكسه الأعمال الفنية من قهر للطبيعة الصامتة واستنطاقها، وما يخلق من عالم أنساني يعلو عالم المادة الغليظة. كما أن الإنسان في تذوقه للفن بشكل جدي يمثل نزوعاً نحو الكمال والأفضل ما دام الفن تجسيداً لما يجب أن يكون أو للمثال كوجود اكثر ثراء ينزع إليه الإنسان من وجوده بما فيه من نقص وقصور. ثم إن الإنسان يسعى إلى اكتساب المعرفة والخبرة من الحياة ومن خلال الفن بوصفه تجربة بلا مخاطرة، وفي كل ذلك فان الإنسان يحاول تجاوز ذاته، محاولاً أن يصبح الكل Wholman الذي يجمع سائر تجارب البشر وفاعليتهم، فهو يبحث عن الامتلاء والاكتمال ويتمرد على كل ما يختزله فرداً مطويا على نفسه مقصوراً عليها( 4). ويؤكد “فرانسيس بيكون” ضرورة الفن، والشعر خاصة( 5)، من خلال إثباته إن الشعر بوصفه واحداً من أهم أشكال الفن مزروع أصلا في الخصائص الذهنية عند الإنسان، لان العقل له ثلاث خصائص: الذاكرة، التخيل، الإدراك، فالخاصية الأولـى هي أساس التاريخ، والثانية هي الشعر، والثالثة هي الفلسفة، ونتيجة لذلك فان الشعر له جذوره في طبيعة العقل البشري. ويرتفع “بيكون” بالشعر إلى مرتبة عالية حين يوجب علينا ان نقدر الشعراء اكثر مـن تقديرنا للفلاسفة لان الشعراء في إنتاجهم يستطيعون ان يعبروا عن الطموح وعن المشاعر الإنسانية الدقيقة وتصوير عادات الناس وعيوبهم…

هوامش : 
(1 )ينظر: المدخل إلى علم الجمال: ص-ص 31-32.
( 2)ينظر: المصدر نفسه: ص 31.
(*1) تتطرق الكتب التي تؤرخ للنقد العربي القديم في معرض ذكرها للنقد في فترة الخلفاء الراشدين، لمسالة ثناء الخليفة الثاني “عمر بن الخطاب” على الشاعر “زهير بن أبي سلمى” في مدحه “لهرم بن سنان”؛ “فزهير” لا يقول الا بما يعرف، ولا يمدح الرجل إلا بما فيه. وقد ذكروا ان الخليفة “عمر” قال لابن زهير:
ـ ما فعلت الحلل التي كساها هرم أباك؟.
قال ـ أبلاها الدهر.
قال ـ لكن الحلل التي كساها أبوكم هرما لم يبلها الدهر.
وقال يوما لبعض ولد هرم:
ـ انشدني بعض مدح زهير اباك، فانشده، فقال عمر:
قد ذهب ما اعطيتموه وبقي ما اعطاكم.
وفي هذا بيان: ان كفة الشعر(الفن) هي الباقية، والمال هو الفاني.
( 3) مشكلة الثقافة- مالك بن بني – ترجمة: عبد الصبور شاهين – دار الفكر – د.ط، د.ت.: ص 121.
(4 )ينظر: نظرية القيم في الفكر المعاصر ـ د. صلاح قنصوة – دار التنوير للطباعة والنشر، بيروت، لبنان – ط2، 1984. : ص-ص 220-221.
(5 )ينظر: موجز تاريخ النظريات الجمالية: ص 122.

تعليقات الفيسبوك

شاهد أيضاً

| طلال حسن : رواية للفتيان – خزامى الصحراء

إشارة: بعد أن أنهينا نشر فصول مخطوطة كتاب “حوارات” لأديب الأطفال المبدع العراقي الكبير “طلال …

هشام القيسي: أكثر من نهر (6) محطات تشهد الآن

ينفتح له ، وما يزال يرفرف في أفيائه مرة وفي حريق انتظاره مرة أخرى ومنذ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *