انا محمود الماس، راوي هذه القصة..
اثر وفات صهيب الماس بعدة اشهر، وفي ليلة صيف مكفهرة، تابعت لاول مرة في حياتي مباراة بكرة القدم. لم اكن احب مشاهدة هذه اللعبة. بيد انني في تلك الليلة رغبت بشدة مشاهدة تلك المباراة. ثلاثة ارباع سكان هذه المدينة كانوا واجمين امام مشاهدة مباراة لريال مدريد و برشلونة، انا ايضا في تلك الليلة كنت اراقب بشغف الكرة بين اقدام اثنين وعشرين لاعباً. كانت المباراة بين فريقي ريال مدريد و برشلونة على ملعب (كابنو). وفي الدقيقة 35 من المباراة كانت الكرة بين قدمي لاعب من ريال مدريد، وعندما هاجمه احد لاعبي برشلونة؛ قذف بالكرة بكل قوته من شدة الارتباك نحو الجمهور فتحول زوم الكاميرا وراء الكرة من داخل الملعب نحو المشجعين، توقفت الكرة وعدسة الكاميرا امام احد المشجعين، كان هذا المشجع يشبه الى حد كبير (صهيب الماس): وجه مدور ابيض، له صلعة خفيفة على ناصيته، يضع نظارة ذات اطار ذهبي. افزعني هذا المنظر بشكل لم ادرِ باي اتجاه قذفت بكونترول التلفاز. هذه اللحضة خلقت لدي شك في موت صهيب، لم احرك جفني امام التلفاز حتى نهاية المباراة، كنت اركز بدقة، عسى ولعل المح هذه السحنة مرة اخرى، سحنة تشبه صهيباً تماماً. بعد تلك الليلة ازداد شكي اكثر في موت صهيب، كنت احسب انه لم يمت، بل سافر الى برشلونة. اذاً من كان ذلك الرجل الذي دفناه قبل عدة اشهر في مراسم مهيبة!؟
رؤية هذه الملامح اصابتني بحالة من الجذب، سحبتني نحو دائرة الجنون. حتى موت صهيب كان حادثة غريبة، في احدى الاماسي انقطعت انفاسه ومات. وعندما فحصه الاطباء، اصيبوا بدهشة. كان رجلا في كامل لياقته وصحته، لم يكن على جسده اي علامة تدل على مرض ولم يصب بجلطة. موت محير جداً كأن الاوكسجين انقطع من هذا الكون الشاسع. في لحظة ما انقطع نفسه ومات. قال عنه الاطباء ان موت صهيب الماس من اغرب حوادث الموت. منذ ذلك الحين والشك دخل يقيني، حاولت كثيراً الا يدفنوه وطلبت من الاطباء محاولة اعادته الى الحياة، لانني كنت اعتقد بانه لم يمت، وانما دخل في غيبوبة، كنت اقترب منه واضع اذني على قلبه واضع اصابعي على فمه وانفه لاعرف هل يتنفس ام لا. ابعدني ابي واخواني عنه وحقنني الاطباء بابرة مهدئة.
لم اصب باي حالة نفسية، ومازلت على ذلك اليقين، بانني اشك في موت صهيب. بعد رؤية ذلك المشجع البرشلوني ازداد هاجس الشك لدي اكثر. الشك في ان صهيباً مات ام ذهب الى برشلونة؟ بت افكر حتى الصباح في ذلك الشخص الذي يشبه صهيباً، انجرفت نحو شكوك عميقة، الشك في ماحل بصهيب؟ هل الذي مات هو صهيب، ام الذي رأيته في التلفاز هو صهيب؟ ام ان صهيباً لم يمت واختفى بهذه الحيلة ليذهب الى برشلونة؟ ام الذي مات هو شبيه له؟ بعض المرات كنت اتحدث مع نفسي بكامل يقيني: ربما لم يذهب صهيب بعد موته الى الدنيا الاخرة، وانما ذهب الى برشلونة! على اية حال؛ حلَّ الصباح وطلعت الشمس، فهرعت الى مكتب التلفزيون وطلبت منهم شريط التسجيل لمباراة ريال مدريد و برشلونة. بعد محاولات جمة استطعت اخذ التسجيل منهم. كنت سعيداً لدرجة انني احسست بانني وجدت صهيباً! اعدت مشاهدة المباراة لاكثر من مائة مرة. وفي المكان الذي يظهر فيه شبيه صهيب كنت اوقف الشريط وادقق فيه، لمدة ساعة وساعتين، بعض المرات كنت ادقق فيه لدرجة انني كنت اصرخ من شدة الحيرة، مشاهدة صورة ذلك الشخص ايقنتني بان صهيباً حيٌ يرزق، ومنذ ذلك الحين كان ابي واخوتي ينظرون اليّ كمريض، ولو انهم ايضاً اندهشوا لرؤية شبيه صهيب، الا انهم آمنوا سريعاً بانه ليس اكثر من شبيه لصهيب لا اكثر. فكروا بان ياخذوني الى طبيب نفسي. ولكنني كنت على يقين بانَّ صهيباً موجود في برشلونة. بيد انَّ الذي كنت استغرب منه هو انَّ صهيباً كان يكره كرة القدم، وكان يسخر من الذين يتابعونها، اذا كان الامر هكذا فلماذا اذاً ذهب هو الى مشاهدة هذه المباراة؟! انا متأكد بانني لم اجن و انَّ صهيباً في برشلونة. الا ان ابي كان في حال كئيب. كان يبكي لجناني وموت صهيب. اما اخوتي فقد كانوا يبحثون مدينة بمدينة ليجدوا لي طبيباً نفسياً جيداً. واخيراً وجدوا في شارع الاطباء بالعاصمة طبيباً نفسياً اسمه “حكيم الراوي” وفي صباح احد الايام اخذوني الى العاصمة لزيارته.
ليس فقط لم يستطع الدكتور حكيم معالجة حالتي النفسية؛ بل هو ايضاً اصيب بنوبة من الحيرة وحالة نفسية. خاصة بعد ان رآى صورة اخي صهيب وقارنه بصورة ذاك المشجع. خلال عدة اشهر راجعوني الى الدكتور حكيم ست مرات وبتُّ في المشفى هناك ثلاثة ايام بلياليها، لم يقدر اي من اطباء العاصمة اقناعي ولم يستطيعوا ابعاد هذا الظن من مخيلتي ولو للحظة واحدة. في النهاية شدة حزن والدي واخوتي حثتني على عدم ذكر هذا الحديث مرة اخرى. كنت اظهر نفسي امامهم بانني لا اشك في موت صهيب وان الذي رايته ليس سوى شبيه له، هذا فقط من اجل تهدئة ابي واخوتي. منذ ذلك الحين وانا ابحث عن هذا الشبيه بشكل سري، بداية حاولت البحث عنه عن طريق الانترنت، فبعثت ايميلات لمعارفي واصدقائي وبعثت لهم بصورة صهيب وشبيهه، ونشرت في (فيس بوك) الصور و كنت اكتب يومياً تعابير بصددهما باللغتين الانكليزية و الكوردية، عسى ولعل اعرف خبراً عن صهيب. انتظرت لعدة اشهر دون جدوى، لم يستطع احدهم من ايجاد هذا الشخص، حتى صديقي (قباد طاهر بك) الذي يعيش في برشلونة واحد مشجعي هذا النادي لم يستطع ايجاده.. اخذت الشكوك مني ماخذاً وتجعلني يائساً واخذت حالتي النفسية تدهور. كانت كل احلامي وخيالاتي وتفكيري منصباً على شبيه صهيب. اغلب الليالي كان صهيباً يترآءى امام عيناي مثل الظل، كان خيالي وهذياناتي يعيدان بصهيب الميت الى فوق الارض، في ليالٍ عديدة يريني صهيب نفسه من خلال الظلام ويقول لي: تعال الى برشلونة فانا هناك. واحياناً كنت اشعر بان سحراً سمائياً اعاد صهيب الماس من الموت الى دنيا الارض. وللخروج من هذا المأزق؛ فكرت بالسفر الى برشلونة.
لملمت كل مدخراتي، وطلبت المساعدة من اصدقائي في اوروبا. وخلال عدة اشهر استطعت الوصول الى برشلونة، الشخص الوحيد الذي كنت آمل ان يفعل لي شيئاً هو قباد، كان قباد طاهر بك صديقاً قديماً، فأغاثني سريعا و استضافني في شقته وهو الذي بعث لي بطلب دعوة الى هناك. بعد ان وصلت الى هناك اخذنا استراحة لمدة يومين، وفي اليوم التالي خرجنا باكرين انا وقباد طاهر بك مستصحبين معنا صورة شبيه صهيب وبدأنا بالبحث بين مشجعي نادي برشلونة و النوادي الاخرى، شعرت بعدم الجدوى منذ اليوم الاول، ياله من عمل جنوني. البحث عن شخص عادي مشجع غير معروف لكرة القدم، ولا اعرف من اين هو ومن اين اتى لرؤية تلك المباراة، منذ ذلك الحين تبين لي انني اجري وراء خيال. اصطاد خيالاً.. البحث عن شخص يشبه احداً ميتاً.. بعد ايام من البحث شعرت بضجر قباد طاهر بك، في الحقيقة هو وقع وراء رجل مجنون وليس عاقل؛ لذا كان يحاول التملص باي طريقة. قرأتُ من ملامحه انه وضع عقله بين يدي مجنون.
ولكي لا اتعب قباد معي اكثر من ذلك؛ تركته في احدى الليالي دون توديع. انسحبت خلسة من بيته، وانزلقت وسط مجتمع لا يرحم، تائه وراء شخص لا اعرف عنه شيئاً. بعض المرات كنت ادخل في دائرة الشك، كنت اشك في عيني بانها سحرتني، كنت اتعمق في اليأس لحظة تلو اللحظة وتطغى علي فكرة البحث عن صهيب اكثر فاكثر. البحث عن هذا الشخص جعلني انساناً بلا ماوى ولا وطن، انساناً كونياً لاينتمي الى اي شىء.
وهكذا؛ مثل تائه في اوروبا الرأسمالية ومثل رجل مجنون يجري وراء خيال.. خيالٍ اظن انه حقيقة معقدة، ولحد الان وانا اسرد هذه القصة مازلت باحثاً بين الازقة والاسواق والبارات والاندية الرياضة وراء صهيب.
قبل ثلاثة ايام، كنت اتمشى في سوق مزدحم، في هذه الاثناء سمعت صوت احدهم يناديني: محمود الماس، الماس… كان الصوت يشبه صوت صهيب، فتسمرت في مكاني مفزعا، ونظرت الى حوالي، فلم ارَ صهيباً وكان الصوت يرن في اذني باستمرار: الماس..اخي الماس ها أنا ذا هنا، أنا هنا…
صهيب الماس في برشلونة
قصة: محمود نجم الدين
ترجمة: جمعة جباري
تعليقات الفيسبوك