محراب الطيور
في الصوب الاخر للمعسكر، وسطَ الخنادق المتهدمة، حيث المطر المهطول لعدة ليالٍ قد كسى الارض المالحة بالبياض الشديد، وشيئا فشيئا امتزج مع المستنقع الموشوح بالطحالب والاسماك الطافحة الى السطح.. في ذلك الصوب، يقع محراب احدى المتورعات التي صاحبت الرسول في جميع المعارك والحروب والنهوب، هذا المحراب كما يروي الجنود عنه، هو المكان الذي لا تطاله نيران المدافع بعيدة المدى ولا تصله آهات و صراخات الجنود الجرحى.
في المساء، حين كان قرص الشمس يغيب بين القصب والمستنقع الاخضر؛ كانت الطيور تضرب بأجنحتها وتملأها بالالوان صوب المحراب، في هذه الاثناء وعلى قمة صخرة عالية حيث كانت مكاناً للتضرع والعبادة، كان هناك طفل، وكأن الضوء واشعة الشمس لم يلامسانه قط، يتوشح برداء ناصع البياض، وبعيون ناعسة وقنديل يده يفتح الباب لتلك الطيور، التي كانت اهدافاً للصيد.
في الصباحات ايضاً، حين كان الجنود باسلحتهم الملطخة بالطين واحلامهم الباطلة يغسلون ملامحهم الباكية بمياه الامطار المتكدرة ويتغوطون في تلك الخنادق المتهدمة، كانت نافذة المحراب تطالها اشعة باردة من الشمس، وكنت ارى تلك الطيور وهي تطير فرادى نحو مكان مجهول حيث لا يد تطولها، كنت ارى بين ذلك السرب، اشعة ضوء بيضاء لدرجة انها تأخذ ماء العين، اشعة كأول لمعان للدنيا، مخيف، مليئة بالالام والحسرات.. اشعة تشبه لمعان نارٍ وسط الفردوس. بكيت امام هذا المنظر. يا الهي ما اقسى البكاء في ذلك الصباح الباكر. صباحٌ كان حميد البصراوي مازال يغطُ في نوم عميق ويضحك في نومه على الايام التي اخذ الاجازة العسكرية بسببها لحضور جنازة امه. لم احبذ ايقاظه من ذلك الحلم الجميل، لانني كنت متيقناً بانه يعلم مسبقاً بالذي اراه واعلمه، ولكن لم يصدقه احد، لدرجة انه في احدى المرات وعن طريق الوحدة الطبية للمعسكر والكشف الطبي عليه، ارسل الى المستشفى العسكري وادخل في قسم الامراض النفسية لعدة ايام. كان حميد البصراوي من الجنود الذين يحتاج اليه القادة والمراتب، لذا فان الضباط وادراة المعسكر كانوا يخبئون عليه كلما ياتي امر نقله الى موقع اخر، استمر هذا التلاعب معه لمدة ثلاث سنوات، ومثلما روى لي بنفسه فان تغييرات كثيرة حصلت خلال تلك الفترة..
بقي جاثماً عشرات الليالي بالقرب من الجثث التي كانت الكلاب تنهشها، وتلتم الفئران والافاعي والديدان البيضاء على قطع اللحوم والدماء السائلة على الارض الرطبة والمالحة. لم يكن ينسى تلك الليلة التي عاد فيها لوحده من المخبز بحفنة من الخبز البارد، حيث لم يجد في الخنادق احد ولم يسمع سوى صراخ جندي بين افكاك الكلاب. ثم قال لي: كان الخبز هو منقذي الوحيد، فالى ان وصلت المحراب كانت الكلاب قد التهمت الخبز وهو داخل الجنفاص الموحل، المحتها بعد ان شبعت عادت بادراجها الى الجندي لتلحس دمه السائل..
يبكي حميد الان وهو نائم.. ارى دموعه البيضاء تذرف فوق مياه المطر، مازال يفزع من النوم منذ ثلاث سنوات، ارى قلبه الابيض مليئاً بالبكاء حتى وهو في غمرة الضحك، وفي بعد المسافات اشتم رائحة ذلك الخبز البارد الذي يفوح من جسده مثل البخار الصاعد من البحر، ارى اصابعه التي تمد نحو النار منذ ثلاث سنوات، اعرف تلك العيون التي تشبه النار تماماً، وتلك الانفاس التي تنسكب من صدره وهو نائم، ذلك الصدر الذي لم يبق فيه سوى الانفاس الاخيرة للجنود وذكريات الايام التي كان يغني فيها وهو يجدف بالقارب الضغير وسط القصب. حتى في صغره كانت جيوبه مليئة بفتات الخبز التي ترمى في الزبالة، ومثلما كان يرويه بنفسه: في ذلك المستنقع المغطى بالقصب، وجد قطعة ارض سماها هو بـ (الوطن الصغير) صنع فيها تنوراً من علب الدبس وصفائح دهن “الراعي”، في ذلك المكان الذي لم يكن احداً يشعر برائحة احتراق لحايا الاشجار ورائحة الخبز المحمص، كان يعيد تحويل تلك الفتات الى العجين مرة اخرى ويصيرها خبزا من جديد، ثم يخرج حبات التمر التي كان يخبؤها في يده ويصنع منها في علبة صفيح مكسور تمراً ودهناً، في هذا العالم الصغير لم يكن يلمح سوى بضعة عصافير وطيور مائية. هكذا كان يروي لي الاحاديث، كمن يجلس امام سلة تمر حلو لدرجة انه ياخذ ماء الروح، والان بعد مرور الثلاث سنوات تلك؛ مازال لايشتري خبز السوق ولا يجلبه ولا ياكله غيره، ذلك الجندي الذي قتل ليلة امس في كمين، كان يقول لي: ان خبز حميد البصراوي له طعم عصارة التمر. جندي اخر هرب بعد ان اصيب بالجنون، كان يقول: لو وضعت ارغفة خبز حميد البصراوي على عيني ميت تعيد اليه الحياة. وكان احد الضباط قد اصيب بالشك من زوجته، ياخذ معه في الاجازات حفنة من ارغفة الخبز، لانه كان يعتقد بان ارغفة خبز حميد البصراوي تطرد الارواح الشيطانية من المنزل، وكان على يقين ا ناي امرأة باتت وحيدة ينام الشيطان تحت مخدتها. عندما كان حميد يتمدد وحيداً في الخندق ويسمع هذه الاقاويل، ينظر الى ابعد نقطة يراها ويشعل سيجارة جديدة، وينظر الى المحراب، كمن يقول لنا ان الطفل المتروك هناك هو انا، طفل ليس سوى بطن جائع.
النار البيضاء
منذ اليوم الاول لوصول حميد الى المعسكر وتسجيل اسمه وسؤاله عما يجيد من عمل، قال لهم بلسان بارد، كتنور خمدت ناره منذ سنين: (خباز). ثم قال: (انا خباز ولا احترف عملا اخر غيره) كان يظن ان عمله هذا سينقذه الان ويبعده عن الخنادق الدامية والجزم المليئة بالماء، ما لم يفكر به؛ هو عمله هذا الذي سيصبح جحيماً مصغراً سيظل فيه الى الابد، منذ تلك اللحظة، حيث كانت ملابسه العسكرية تفوح منها رائحة المدينة؛ تغيرت الى ملابس اخرى. صنع تنوراً في مكان المحراب من التراب والحجارة التي مردتها آثار اقدام الجنود واصبحت مثل الطحين الابيض، في الليالي التي كان الجنود ينامون من شدة الارهاق واطلاق الرصاص؛ كان يتوجه هو الى المحراب ويجمع العصي والعشب وصناديق الرصاص الفارغة ويضرم النار فيها كعقاب، ثم يعجن العجين مع همهمات الاغنية التي علقت في ذاكرة طفولته، ويضرب باقراص العجين في جوف التنور الحار والنار الملتهبة.
في صباح باكر، وقبل ان يعود بالخبز، ظهر دخان ازرق من نافذة المحراب، وانسحب نحو الاراضي المنخفضة وغطى على السهول المالحة، كان من الادخنة الثقيلة التي يغير المطر لونها الى ازرقٍ فاتح، بعد لحظات من انقشاعه، ظهر ظلال ابيض يشبه طائر حمام يأخذ العشب الى عشه، ولكن كحمام اضرم النار في عشه.
قلت له:
– هل رايت شيئاً يا حميد..؟!
– كلا..!!
شعرت بان عيناه تقولان شيئاً آخر، لكنه ارتآى ابقاءه في قلبه، بعد برهة من الصمت ناولني رغيف خبز وقال لي: (سأذهب للنوم). وقبل ان يصل الى ساتره قال لي: (الرغيف يكفيكم جميعاً) التفت اليه.. ونظرت الى حولي، فلم ارَ سوى نفسي وعدة مداليات مضرجة بالدماء لبعض الجنود، الان عرفت انها بداية اصابة حميد البصراوي بالجنون، وآخر رغيف للمعسكر، وقد جثوت وحيداً في المكان الذي اسماه بالوطن الصغير بين تلك الصفائح المطعجة وفتات الخبز وسلة التمر مشعلاً ناراً ابيضاً، ولا اعرف متى ساجن انا ايضا في ساتر مليءٍ بجثث القتلى ومتى تاتي الكلاب لتلعق دماء جروحي.
مع عبور الجروح البيضاء
كان المحراب تفوح منه رائحة الدخان والخبز الحار، وقبل ليالٍ من انذارنا باقتراب هجوم شاسع وكبير، لم يدع حميد البصراوي ان تخمد نار تنوره، بشكل كانت رائحة الخبز تغطي على سماء المعسكر، في تلك اللحظات التي كانت حاسمة بالنسبة اليه؛ لم يكن يسمح بانسكاب تلك الدموع التي كانت حبيسة عينيه، لانه كان يعرف ان انسكاب دمعة واحدة كافية باطفاء نار تنوره، كان يفكر لمن يخبز كل تلك الارغفة، بينما يعلم جيداً ان لا احد سواه يلحق بتناول كسرة منها. كان قد حلم بذلك ويعرف، لكنه خشى ان يسرد حلمه لاحد، لانه عوقب على ذلك من قبل، كان يتلوى ليلاً من شدة وجع جروحة، بعد ذلك العقاب علم ان سرد الاحلام عن الملابس العسكرية له عقاب كبير، احد تلك العقوبات هو رمي بالرصاص، بيد انهم اعفوا عنه تلك المرة، لانه الوحيد الذي يخبز للمعسكر ولايوجد غيره يقوم بهذا العمل..
من جهة اخرى، كان يرى من قمة ذاك المرتفع جميع الخنادق ويرى مدى شدة تعب الجنود وقلقهم وانكسارهم، وعدم النوم انقض هدوءهم، وغالباً في الليالي التي كان الظلام يغطي كل شىء؛ او المعسكر مازال يغط في نوم الصبح العميق؛ كان يرى جنودا بملابس داخلية يعبرون بجروحهم العميقة عبر القصب و المستنقع المالح الى ذاك الصوب الاخر، الى مكان ينقذون فيه ارواحهم باي ثمن، بقدر ما كان هذا المنظر مضحكاً لدى حميد البصراوي، ايضاً كان مؤلماً، لانه كان يعلم ان انقاص عدد الجنود يعني تقليل عدد الارغفة، يعني شيئاً فشيئاً نحو الوحدة وانعدام وجود اصدقائه، باي حال لم يكن يرتاح لهذا، لذا مالم يكن متوقعاً قد حدث قبل ليلة من وقوع الهجوم.
وهو امام نار تنوره التي كانت تدفىء جفناه وتعدهما لنوم عميق وطويل؛ سمع صراخ احد الجنود كان يعاني من جروحه ويؤشر بسبطانة سلاحه الى داخل الخنادق (هاهم وصلوا.. اترك الارغفة واهرب) نظر حميد البصراوي من نافذة المحراب الى الخارج فرآى ان النار تحيطه من الجهات الاربعة، فعلم ان الهجوم اصبح بشكل معاكس، فهاهو لم يبق احد حوله سوى تنوره الذي مازال احد الارغفة ملتصقاً به، تنبعث بخار الدم من السهل الابيض، سهل محمر مثل معدن اضرمت النار فيه. بعد ايام استطاع بضع جنود ان يصلوا الى الخطوط الخلفية وينقذوا انفسهم من ذلك الهجوم المباغث، وبدأوا بالسؤال والبحث عن حميد البصراوي فيما بينهم، قال البعض انه وقع في كمين لجنة الاعدامات، اللجان التي اعدت لاعدام الجنود الذين ينهزمون من ساحة المعركة، وقد القي عارياً على قارعة الطريق بين البصرة والعمارة، حفر جسده من كثرة ضربه بالرصاص مما يوسع لمئات اعشاش العصافير. وقال جندي آخر كان يحمل على صدره دائماً قرآناً صغيراً: (لتحل علي لعنة هذا القرآن لو كنت اكذب، رايت حميد البصراوي يركض بمعية جروح ارغفته نحو القصب وقد التف حوله دخان ابيض، اعوذ بالله كان الدخان يشبه الهالة التي يصنعها الرسامون حول رسومات الانبياء).
قبل ليالٍ كنت منهمكاً بقراءة رواية “بةفر – الثلج” رن جرس هاتفي، شككت في معرفة الرقم وصاحبه الذي يتصل بي في هذا الوقت المتأخر، قلت له:
– (نعم، من يتكلم؟) اجابني من بعيد صوت حزين:
– الو، انا محمد خضير من البصرة، اخابر من مدينة السياب.
– نعم استاذ انا اسمعك.
– اقول، منذ ايام رايت فتى قال انه يعرفك.
فقلت له:
– ما اسمه؟
– اسمه حميد البصراوي. فقلت:
– نعم اعرفه. كنا في العسكرية معاً مدة طويلة ثم انقطعنا عن بعض ولا اعرف ماذا حصل له..
– انه الان جيراني وقد تزوج وله ابنتان و ولد، ولكنه شحيح الحال، لقد بنى بجانب البيت الذي اجَّره دكاناً صغيراً من الصفائح المهترءة والقصب ويعمل خبازاً ليعيش عائلته، حتى انَّه علم بنتيه و ولده الصنعة وهم يعملون ليل نهار في صنع العجين.
– قلت له وانا اجهش بالبكاء: يا استاذ ماذا استطيع ان افعله له؟ فرد علي والغصة في حلقه:
– اريد ان اكتب قصة عن حياة هذا الشاب، قصة لا تشبه اي قصة من قصصي الاخرى، اريد ان اقول لك انه يجب ان اسرد حياته، فقلت له:
– حسناً استاذ، اصبر علي وسارد عليك في رسالة بعد ليالٍ قادمة..
– حسناً سانتظر، مع السلامة.
– مع السلامة استاذ.
اغلقت الهاتف، وعدت الى رواية الثلج وتقليب صفحاته. طار النوم من عيني ولم ياتني النوم حتى اكملت الرسالة.
(ما قرأتموه كانت تلك الرسالة التي اكملتها باكياً).
*محمد خضير: القاص والروائي العراقي المعروف من اهالي البصرة.
*رواية “الثلج” لاورهان باموك. الروائي التركي المعروف.