مازال سعدي يوسف وهو يقف عند اعتاب العقد التاسع من عمره في طليعة شعراء عرب يمارسون دورهم في تجديد فضاء النص الشعري منذ نهايةخمسينات القرن الماضي،اضافة الى وضوح موقفه الانساني ازاء بلده العراق في سياقٍ ثابت،لم يخرج عنه متمثلاً في رفضه التام لقهر الحرية الانسانية،بغض النظر عن اشكال الانظمة التي تعاقبت على حكم العراق،وقد دفع ثمن موقفه هذا غُربةً طويلة لم يدفعها إلاّ قلة من اقرانه ورفاقه وزملائه .
وبعيدا عن تجربته الشعرية بكل غناها وتحولاتها وتأثيرهاعلى جوهر المشهد الشعري العربي،كان سعدي واضحا وصريحا في موقفه الوطني،ولم يخذله وعيه في قراءة الواقع ـــ على مافيه من ضبابية والتباس في غالب الاحيان ــ مثلما هو حال كثير من المثقفين العراقيين الذين اختلطت الوقائع في اذهانهم،واصابتهم حالة هي اشبه بانعدام في الوزن،فاختلّت القيم والمعايير لديهم في فرز وتقييم الاحداث الجسام التي عصفت ببلدهم وشعبهم ـــ كما هو الحال في قضية الغزو الاميركي للعراق عام 2003 ـــ فخرجوا علينا بموقف هو اقرب الى موقف القطيع المغيَّب عن الوعي منه الى موقف المثقف الرائي،وذلك عندما اصطف كثير منهم خلف الاحزاب العراقيةالمعارضة للسلطة انذاك وصفقوا لها ودعموها في موقفها وهي تحث الاميركان على غزو بلدهم من اجل اسقاط نظام صدام حسين والوصول بدلا عنه الى كرسي السلطة،مقابل أي ثمن قد يطلب منها حتى لو كان ذلك على حساب أن يكون العراق ارضا وشعبا ووجودا ومستقبلا مرهونا بقرار اميركي، وهذا ما بدأت تتكشف خفاياه وحقيقته يوما بعد آخر خلال الاعوام العشرة الماضية.
بينما سعدي على النقيض من هذا المسار إختار أن يقف على الضفة الأخرى،رافضا ان يكون خيار الاستعانة بجيوش الغزاة بديلا عن الكفاح الوطني لإستعادة الحرية الانسانية مهما كان الصراع مع النظام متَّسما بالصعوبة التي تبعث على الاحساس باليأس والعجز في كثير من الاحيان.
خياره هذا وضعه في موقف لايحسد عليه من قبل رفاقه وزملائه من المثقفين العراقيين المعارضين للسلطة،فبدا لهم ــ موقفه هذا ــ اقرب للدفاع عن نظام صدام منه إلى ألحرص على عدم سقوط العراق تحت رحمة المحتل الاجنبي،فكانت النتيجة أن يوضع اسمه في مقدمة قائمة تضم أسماء لمثقفين عراقيين تم منعهم من قبل سلطات الاحتلال الاميركي من دخول العراق في الايام الاولى التي اعقبت سقوط النظام السابق.
ومع ماترتب على قرار المنع من قسوة وإساءة في التعامل مع حرية الرأي ومصادرة له،إضافة إلى حرمانه ـــ مع بقية من كانوا على مثل موقفه ـــ من العودة الى الوطن بعد غياب قسري دام عقودا طويلة،إلاّ أنه لم يتراجع عن قناعته ولم ينسحب من ساحة الصراع الفكري ضد جوقة المدافعين عن ماجرى ويجري من تخريب للبلاد بأسم الديموقراطية والاغلبية الطائفية.
اصوات الجوقة هذه باتت تزداد يوما بعد آخر بعد أن نجح الوضع الجديد في العراق في أن يهيّء مناخا طائفيا مناسبا لسحب اكبر عدد ممكن من الاصوات إلى خندقه،خاصة وان النظام الجديد بقواه السياسية الحاكمة ــ الاحزاب الاسلاموية الشيعية ــ قد اتخذ كل مامن شأنه في أن يستبعد الهوية الوطنية للمجتمع ويشطبها من الوجدان الفردي والجمعي مقابل اللعب بورقةالهوية الطائفية وتكريسها.
نتيجة هذا المنهج الايدولوجي في تحويل وتحوير وتحريف هوية وبنية الوجدان الانساني للفرد باتجاه تقديم ماهو فرعي على ماهو جوهري،وماهو طائفي على ماهو وطني،اتسعت جوقة العازفين على وتر خطاب النظام السياسي الجديد انطلاقا من دوافع طائفية وإن كانت قد تستَّرت بتخريجات مُزيِّفة بات يسوقها خطاب القوى السياسية الحاكمة تحت عنوان الديموقراطية التي بات يشهدها العراق الجديد.
في ظل صورة موبوءة مثل هذه تتسيدها تُهَمٌ جاهزة لاتخرج عن مفردات التسقيط والتخوين والتشكيك لكل من يأتي بافكار وقناعات حول الشأن العام من قبل مثقفين ومفكرين ومحللين وصحفيين لاتلتقي في جوهرها مع خطاب من يمسك بعصا السلطة،بات واضحا أن مساحة الحرية أمام الرؤية الفردية صارت ضيقة جدا الى الحد الذي اصبح فيه المسدس الكاتم للصوت هو العلاج لكل من يغرد خارج الجوقة.
ولو كان سعدي في العراق لكان مصيره ليس بأحسن من مصير آخرين ــ مثقفين وصحفيين وإعلاميين وسياسين ـــ غيَّبهم الخطف أو القتل أو الملاحقة بمذكرات قضائية بتهمة التطاول على رموز السلطة .
إلاّ أن وجوده خارج وطنه قد منحه فرصة أن يرى المشهد العراقي بهدوء ووضوح لاتتوفر لمن يعيش في الداخل مطوقاً بجعجعة الاصوات النشازالمدفوعة الثمن، وكثير من هذه الاصوات وجدناها تلعب نفس الدور في التزييف والتظليل الذي كانت تلعبه لخدمة النظام السابق قبل العام 2003 وبنفس الآليات،مع أضافة مفردات جديدة إلى قائمة ما تردده على السنتها تشير إلى منظومة الخطاب الثقافي للنظام الطائفي الحاكم .
مايُحسب لسعدي أن تفاعله مع الاحداث لم يصبه الفتور رغم تقدمه في السن،ولم تنل منه امراض الشيخوخة لتصيبه بالخَرَف كما تدَّعي وتروِّج عديد الاصوات التي باتت تجرحها جرأته في القول والموقف،خاصة من كانوا رفاق دربه ويعرفهم جيدا.
بقيت بوصلته الوطنية تعمل بدقة،وتسمي الاشياء بأسمائها الحقيقية فالمحتل هو المحتل والانتهازي هو الانتهازي والحرية هي الحرية،لذا ليس غريبا أن يتلقى هجوما كاسحا بين فترة وأخرى ــ من شعراء ومثقفين وكتاب ــ بقصد تجريده من تاريخه الشعري والوطني والانساني،كلما عبّر عن رأيه في قضية تخص العراق بالشكل الذي لايتطابق مع خطاب المجموع او خطاب السلطة.
الهجوم المتكرر على سعدي تجاهل بشكل تام خصوصيته كشاعر ومثقف ومناضل يحق له أن يقول مايؤمن به حتى لو كان صادما للآخرين.
هنا يطرح سؤال جوهري :هل ينبغي التعامل مع مايطرحه المبدع والمفكر والمثقف من افكار وتأملات ــ حتى لو كانت مخالفة للرأي العام ــ مثلما يتم التعامل مع من يزرع العبوات الناسفة في الاماكن العامة أو يضبط بالجرم المشهود متلبساً بتهمة التخابر مع دولة اجنبية ! ؟ مع أن قضية التخابر مع دولة اجنبية في العراق ــ وهذه واحدة من العلامات الفارقة للديموقراطية الاميركية في العراق ــ أنها لم تعد خيانة ولاجريمة ولاتهمة يُحاسِب عليها القانون،بقدر ما اصبحت مصدر فخر وتبجح لمُدَّعِيها امام شاشات الفضائيات ــ وهناك شواهد كثيرة على ذلك موثقة بالصورة والصوت شاهدها العالم ــ وبفضلها الكثيرون يعدونه بطلاً وطنيا !
الغريب في قضية سعدي يوسف،أن كثير من تلك الكتابات التي تتعرض له بالشتم والاساءة بأوسخ المفردات،وبعضها تأتي على لسان مثقفين،أنها لاتتوقف مُتأملة أمام مايكتبه من اراء يكشف فيها عن هواجسه ومخاوفه ازاء مصير ومستقبل العراق ،إنما نجدها تنساق بوتيرة انفعالية مع منظومة الخطاب السلطوي الذي اعتاد اللجوء ـــ مسبَّقاً ــ إلى تفريغ اراء الآخرين من نواياها الحسنة قبل مناقشتها.
في طرحنا لهذا الموضوع الذي بات يتكرر كلما نشر سعدي يوسف نصا أو رأيا ذي صلة بمستقبل العراق،لانهدف من ورائه أن نضع انفسنا في موضع التأييد التام لأفكاره،فنحن مثل غيرنا قد نتفق أو نختلف معه في بعضها أونرفضها أونتحفظ عليها،لكننا من حيث المبدأ نقف معه في أن يقول مايشاء،بنفس الوقت نقف مع من يختلف معه في أن يرُد عليه.ذلك لاننا ندرك تماما بأن حرية التفكير يجب أن تبقى مصانة الى درجة التقديس،طالما تنساق في تطلعاتها ضمن اطار البحث عن افق ثقافي يحتفي بعقل الانسان، لا أنْ يذلّهُ ويحتقرهُ ويستعبدهُ .
مروان ياسين الدليمي : كَيف نَقرأ سَعدي يوسف
تعليقات الفيسبوك