خضر عواد الخزاعي : جماليات الموت .. في سردية “عين الغروب” للقاص والروائي وارد بدر السالم

khudr alkhozaeiكما في باقي نصوصه السردية في مجموعة “المعدان” يعتني القاص والروائي وارد بدر السالم، في مفتتاحات نصوصه القصصية، ويمنحها، طاقة من الإدهاش هيَّ توليفة، من الفعل والسكون، ليُحِيلها إلى لوحة فنية تعبيرية ناطقة، كما في قصته القصيرة”عين الغروب” التي يضمها، الفصل الذي آثر أن يسميه ب”السداسية”، كعنوان منفصل لست قصص قصيرة، يجمعها ظرف زماني، هو البدايات التي يتكون منها أجزاء اليوم الواحد، “عندما غسل وجهه وأزال الطين العالق على ساعديه وهو على جرف النهر، كان الغروب قد حلّ على المزارع والحقول والعراء الأخضر الشاسع. وبدى قرص الشمس أحمر فاقع وهو يتوارى بالتدريج في أفقٍ بعيد”، وراء هذه المقدمة من الإنثيالات الجمالية التي تحيل النص، من متن السرد إلى أفق الخيال، تبدو وكأنها استشعار لحالة متقدمة في فصول جمالية أخرى، بل وفي جانب منها، تبدو وكأن هذه الصورة لم تكن غير قناع، مستعار من احدى شخصيات “مسرح الكابوكي” الياباني الخيَّرة، لكن القاص هنا يخبيء للقاريء فعل آخر مغاير تماماً، لهذه اللوحة الأخاذة، إنه الموت في أبشع صوره الملحمية، حين يكون الإنسان منفرداً، بمواجهة مخلوق هجين لايستطيع أن يحدد هويته، في المقابل يرافق هذه الصورة، استعداد فطري للدفاع عن النفس، وهيَّ غريزة لاتجدها إلا عند اولئك البشر، الذين التصقت حياتهم اليومية بحيثيات الموت، وكأنه فعل مرادف للحياة “وحين استدار ليحمل عدَّته- بندقية موروثة ومنجل محزّز وفأس باشط-“، إذاً وراء هذا الجمال المفرط في التصوير، هنالك دلالات رمزية أدواتية، هيَّ أجزاء متممة لضرورات الواقع البيئي، وهيَّ بمثابة مفاتيح أراد منها القاص لتكون الشفرات، التي يبثها لتكون بيانات معرفية، لثيمة النص، فهو في نفس اللحظة، التي كان المفترض بها، أن تكون نهاية لذلك الغروب الجمالي، يجعل منها بداية النهاية لحياة بطله القصيرة، لكن شكل هذه النهاية يظل حبيس المسافة التي تفصل بينه وبين عدته، والتي يختزلها بظل ذلك المخلوق الخرافي الذي لانعرف كنهه بالتحديد، ولتعميق تلك اللحظة وتكثيفها ومنحها، بؤرة التركيز في هذه اللوحة التي تحوّلت، من فضاء جمالي منفتح بلا حدود، الى لحظة مواجهة لن يكون فيها غير طرفين يحاول كلاهما الاستحواذ على عين “الرائي-القاريء” وذلك باستخدام أفعال مباشرة وتوكيدية،”التقت/أدرك/ وأجواء ساكنة،”وعندما التقت عيناه بعيني الكائن الرمادي المتحفز أدرك إن اللحظة قاسية ومحرجة”، وكان يمكن للقاص أن يستثمر تلك اللحظة المشوبة بالحذر والترقب، بانتظار المنازلة الكبرى بين البطل وهذا الكائن الخرافي، لكن القاص وبأسلوبية تراجيدية، آثر أن يتوقف عند تلك اللحظة ويشبعها إثارةً، وإن لايشتت ذهن المتلقي، بإضافات جانبية قد تُضعف من ثيمة النص المركزية”الموت wared badr 2المُلَغَز”،”حبذ أن يترك الأمر يجري كما يجب بتلقائية يدرك معانيها في لحظة غير متكافئة أمام هذا الوحش الرمادي الذي بدا متحفزاً وعدوانياً منذ الوهلة الأولى”، ومن هنا نلمس القناعة المبكرة التي توصل إليها البطل، وهو يشعر بحراجة الموقف الذي وجد نفسه فيه بمواجهة مصيره وحيداً، ولتعميق هذه الإحساس الغرائزي بالنهاية، التي باتت وشيكة، يستعين القاص بالمنظومات الصوتية، ويجعل منها أدوات مساعدة، ليس في تحفيز الفعلن بل في توكيده،”عندما تقدم الحيوان ببطء خطوة واحدة فقط تكسر الحطب تحت أضلافة العريضة وأحدث فرقعة مخيفة في الصمت الذي يحيط بالرجل المعزول عن عدته، فجعله ذلك أكثر حذراً وهو ينتبه لفرقعة الخطوة الثانية المدوية” وفي ثنائية بليغة في التصوير، التقني اللغوي، يقدم لنا القاص هذه المقاربة الروحية بين كائنين لايربط بينهما غير “الموت” حيث فعل “إزاحة” المسافات المصاحبة بصوت التكسر والتهشيم، التي يقوم بها الحيوان المتحفز للإنقضاض على الرجل، يقابلها في نفس الوقت لدى البطل، فعل “اختزال” للحياة، التي لم تعد في متناول اليد، بل أصبحت تطويها أقدام هذا الحيوان الثقيل وأظلافه”عندما أخذ الوحش الغريب يخطو خطوات قصيرة أخرى بثبات وتصميم، كان كل شيء يتكسر في زمن الغروب النازل، فأدرك الرجل إن بينه وبين الحياة مسافة أمست بعيدة وطويلة غير ممكنة وأحسَّ إنه غير قادر على استدراك ما مضى من حياته” وفي خضم هذا المشهد العدائي، تبرز مكنونات الروح الإنسانية المعذبة المستوحدة، وهيَّ تواجه مصيرها منفردة، فلقد تضائلت المسافة الفاصلة بينه وبين ساعة الصفر المتوقعة، في أي وقت يقرره هذا الوحش، حين انتزع منه المبادرة منذ لحظة المواجهة الأولى، حين عزله عن عدَّته، التي كان حتماً سيحاول الاستعانة بها كحل أخير لمواجة عدوه، “وأمام احتداماته المتزاحمة قرر المواجهة لآخر لحظة ما إن تخيل الأنياب المبرمة ستمزق جسده العجوز، وما إن رأى المسافة التي اختصرها وحش الغروب ليضع حداً أخيراً في الإنقضاض الأكيد والإنتفاض المطلوب في أقل الخسائر المتاحة له.وقرر الغاء الفاصلة الحاسمة بينهما بأية طريقة سريعة.فاستحضر في دخيلته وعلى نحو مفاجيء؛لحظات أكثر خطورة، بل أكثر موتاً من هذا الموت الذي يحاصره ببطء ممض، لكنه، لثانيةٍ وجيزة، تخاذل أمام أي قرار فيه وهو يرى عُدّته تنأى عنه لمسافات صارت طويلة فعلاً أمام الأظلاف التي بدأت تسحق القصب فتنطحن عظامه” لقد أصبحت حياته، رهينة المسافة التي تفصله عن الوحش، والطريقة التي سيتم بها القضاء عليه، كانت تلك نهاية وشيكة، لابد منها، ولم يعد هناك من خيارات، فلقد كان الوحش، الذي هو ثيمة “الموت” المفاجيء، بارعاً في استنزاف قوى الرجل، وتجريده من كل اسلحته المادية والنفسية، ليسقطه في فخ الاستسلام”ماعادت القوة التي بمثل هذا الموقف العصيب كافية لأن تزخ فيه نفحة من الشجاعة والاحتمال والمواجهة، فعاد الضعف يدبُ فيه من جديد، وأخذت المسافة المتكسرة تحت الأظلاف العريضة تنحسر، فأيقن إن الحياة أضيق من ثقب الأبرة وأحس إنه تحول إلى خشبة في جفاف الغروب وغياب الهواء البارد النقي المألوف الذي اعتاده بين هذه الحقول”، إنه الموت حين يتجلى بأبشع صوره، لكن ليست صوره الدموية المفزعة المقرفة والمباشرة، بل انتزاعات مجتزئة لأجزاء من صور ضبابية، تقترب وتبتعد لتمنح الحواس لذة التخيّل والابتكار، هو “الوجود الإنساني المتوتر” كما يصفه باشلار، لكنه لن يكون هذه المرة منجذباً نحو الأعلى حيث الحياة، بل يتدانى مترنحاً، نحو الهاوية العميقة، حيث يتحوّل الموت إلى وجه آخر من وجوه العدم، “غابت في عينيه كل الرؤى واختفت الحقول كإنما حل ليلٌ دامس قبل أوانه وكان لابد أن يغمض عينيه متفادياً اللطمة الأولى لجسد الوحش الهائج”.
في “عين الغروب”، يحقق القاص والروائي وارد بدر السالم مستوى متقدم في رسم جماليات السرد الصوري، وإنجازاً فائقاً، يكاد يقترب بحرفيته من ريشة الفنان أكثر منه أديباً سردياً، وتلك من الخصائص النادرة، في من يحمل صنعتي الأدب والفن.

تعليقات الفيسبوك

شاهد أيضاً

| جمعة الجباري : قراءة الدلالات الشعرية عند الشاعر صلاح حمه امين في ديوانه “عقارب الساعة التاسعة”.

* صلاح الدين محمد أمين علي البرزنجي المعروف بالاسم الحركي صلاح حمه أمين،  شاعر وفنان …

| اسماعيل ابراهيم عبد : على هامش ذاكرة جمال جاسم امين في الحرب والثقافة – تحايثاً بموازاة عرضه .

الكاتب جمال جاسم أمين معروف بين المثقفين العراقيين باتساع نتاجه وتنوعه كمّاً وجودة , فضلاً …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *