ليث الصندوق : ألموازنة الشعرية ما بين طرفي ثنائية (الحب / الموت) في (عرس الروح ) (*)

laith alsandook 4إذا كان محمود البريكان صاحب أطول عزلة ما بين الشعراء ، فثمة مبدع آخر ، في مجال آخر هو السرد ينافسه على طول أمد عزلته وصمته هو حسني الناشيء . والفرق ما بين الرجلين أن الأول اختار عزلته اختياراً المحب لحبيبته عن وعي وإصرار ، بينما الثاني فرضت عليه العزلة فرضاً بحكم انتمائه إلى اليسار السياسي الذي عانى التضييق والمطاردة في ظل الظروف الشاذة التي سادت العراق خلال نصف القرن الأخير من القرن العشرين . ومثلما كانت هناك مجايلة للأول ساهمت في إنضاج موهبته ووضعتها في الموقع الذي تستحقه ، كانت هناك مجايلة للثاني ، لكننا لا نعرف كامل أبعادها باستثناء علاقته مع صاحب مقدمة مجموعته ( عرس الروح ) التي نحن الآن بصددها الروائي حنون مجيد . وبذلك ظلت الأبعاد الخفية لعلاقات الكاتب بالوسط الثقافي تشكل جزءاً من حزمة الأسئلة التي تحاشتها المقدمة ، والتي ينبغي التصدي لها من قبل أقوانه ومجايليه المحتملين . ولعل أهمية الإجابة تكمن في إنها ستضيء ليس المنطقة المظلمة من حياة الرجل ، بل أيضاً في الكشف عن نتاجه المنشور والذي لم يُتوصل إليه بعد ، وكذلك نتاجه المستتر والضائع ثمّ المضيّع سواء في مجال السرد ، أو في مجالات فكرية أخرى لمحت المقدمة إلى أنها شكلت جزءاً أساسياً من بنيته الثقافية .
صدرت للناشيء في حياته ( 1941 – 2002 ) أو بعد وفاته ثلاث مجاميع قصصية ، الأولى ( قوة الأشياء في شيبا ) عام 2002 ، و( المعطف ) عام 2005 ، والمجموعة التي نحن بصددها ( عرس الروح ) عام 2013 ، ورواية واحدة هي ( النفق ) عام 2014 ، وله سوى ذلك مشاريع قصصية وروائية مكتملة حرص تحت ضغط أسباب شتى أن يحجبها عن النشر .
هذه القراءة تبدأ من ثريا العنونة ، وتتجاوز المعطيات المرجعية في نص المقدمة الموازي ، لتدخل بعد ذلك في حوار مباشر مع النصوص ، وبمعنى آخر إنها لا تطمح أكثر من أن تبدأ بالنص السردي وتنتهي به ، ليس إيماناً بمبدأ المحايثة ، أو العزل البنيوي ما بين النص وما يحيط به ، ولكن لمحدودية المرجع الخارجي وعدم كفايته على ملء الفراغات التي تعترض القراءة .
ألماضي المقبول / ألماضي المرفوض :
تتكون مجموعة ( عرس الروح ) من سبعة وثلاثين نصاً قصصياً ، يتوزع ما بين القصة القصيرة ، والقصة القصيرة جداً ، وتمتاز بلغة طرية ومتدفقة بتيارات الوعي في استدعائها الماضي الذي يظل في عيون الشخصيات هو الأجمل من الحاضر ، وصدى المقارنة ما بين الزمنين لا يردده العقل الباطن في مونولوجاتهم الداخلية فحسب ، بل يتردد في حوارات الأصدقاء مهما كانت طبيعتها ودوافعها حتى وإن استثارتها دعوة بريئة للحب كما في قصة ( الطريق ) وقد جوبهت بردة فعل واعية ( يا صديقي ، لم نكن بالأمس طلاب ضياع ، كانت لنا آمال ، وكان لنا طريق ، وكانت لنا أفكار ، والآن أقفرت النفس ، صارت أرضاً جرداء بحاجة لمن يرويها ) وبالرغم من الغلبة النسبية لإحدى الكفتين في المقارنة ، إلا أنها لا تستقر دائماً على ذلك دوماً ، فثمة حالات تطلع وتمرّد لم تعد فيها الحياة مجرد صورة على جدار الماضي كما في قصة ( الإختيار ) حيث ترفض البطلة الاقتران برجل يريد أن يعوض بها ذكرى زوجته الميتة متعللة بأن ( الماضي ليس هو كل الحياة ) ومن الواضح أن مفردة ( الحياة ) لدى البطلة هي بديلها الشخصي المقابل للمفردة العامة ( الزمن ) ، وبذلك فهي تضيّق – في بادرة تمرد – من حدود الماضي التي ما زال الرجل يعيش داخلها ويخضع لشروطها ، تضيّقها ، وتستهين بسطوة شروطها من أجل أن تجد حريتها خارجها . إن رفض المرأة هو في حقيقته رفض واعٍ لمنظومة مفهومية مركبة :
– رفض الماضوية كفكرة وكمبدأ .
– رفض تشبيهها بامرأة أخرى ، والتعامل معها على أنها النسخة البديل منها ، وليس على أنها هي النسخة الأصل .
– رفض فكرة الحياة الأخروية وسطوتها السلبية على الحياة والأحياء .
– رفض خطاب الرجل .
– رفض الرجل بالتبعية ، لأنه في حالة تماهٍ مع خطابه .
أما التداعيات ، فتتسلل عبر بطل وحيد قد يكون هو السارد ، أو ربما تتسلل عبر سارد مفارق وعليم يتحدث بضمير الغائب عن البطل الوحيد راصداً الدفين من مشاعره وخفاياه ، فكأنه الضمير الثاني الناطق لذلك البطل الصامت . عدا هذين المظهرين من الساردين هناك أيضاً السارد المشارك ، ولكن في كل الأحوال لا يتعدى عدد الشخصيات الفاعلة في القصة اكثر من أثنين ، وإن تعدى العدد ذلك تبقى الشخصيات مجرد أسماء بلا أفعال ولا أدوار .
تأثيث الواجهة الزمنية :
من الملامح الأسلوبية اللافتة في قصص المجموعة هي استهلالاتها الزمانية التي بها يتم تأثيث الفضاء السردي تمهيداً لبسط الأحداث وتوزيع الأدوار ، وهذه التقنية ليست مجرد مظهر شكليّ ، لأن الصورة المتشكلة من الضوء والعتمة التي يضفيها الزمن على المشهد سينسحب أثرها على أفعال الشخصيات ، وبالتالي ستكتسب منها الأحداث طابعي السكونية أو الحركية ، فهناك دوماً إنعكاس للصورة الزمانية على الصورة الحركية ، وهناك أيضاً تكامل ما بين الصورتين . إضافة لذلك فإن رسم أبعاد الفضاء الزمني خصوصاً في مرحلة الاستهلال يبدو كأنه أحد الملامح المبطنة الممهدة للاستقبال ، أو التوقع ، أو التنبؤ بما سيأتي . ومع ذلك فالصورة لا تستقيم دائماً على هذه الشاكلة إذ لا نعدم أن نجد أحياناً ابعاد الفضاء الزمني وملامحه الصورية غير متوافقين مع ما يعقبهما من الأحداث ، للتتشكل بذلك ثمة مفارقة ما بين المنبيء والنبأ ، كما في قصة ( عرس الروح ) إذ انتهت الصورة الزمانية المشرقة إلى نهاية كارثية غير متوقعة . وفيما يلي أبرز صور الاستهلال الزمني في قصص المجموعة :
– أيام آذار الأخيرة غاية في الجمال ، والصباح مترع بالشمس والهواء العذب – القسم ( 2 ) من قصة ( عرس الروح )
– ألساعة الحادية عشرة والنصف ، أليوم لا يريد أن ينتهي – ألقسم ( 3 ) من قصة ( عرس الروح ) .
– بدأ شعاع الشمس ينتشر ثانية – القسم ( 4 ) من ( عرس الروح )
– شباط أيها الشهر الكريه والمعتم الذي لم أعد أحبّك – قصة ( ألقاع )
– ألنهار لم ينتصف بعد ، وجو تموز جحيم – قصة ( تداعيات ساخنة )
– ألنهار لا يريد أن ينتهي ، والشمس تسلط جحيمها على الأشياء فتحيلها ناراً لا تطاق – قصة ( الجحيم )
– إنحدرت الشمس ببطء نحو مستقرها – قصة ( حمدان ، والليل ، والخطر )
– عقارب ساعته تشير إلى الثانية عشرة تقريباً قبل منتصف الليل – قصة ( فضاءات فسيحة )
– في ذلك المساء البعيد ، المقطب الجبين ، المدلهم الأجواء – قصة ( ذكرى )
– ألصباح رمادي اللون ، وثمة نسيمات باردة ممتزجة بنثيث المطر الشفاف تلسع جانبي وجهه المتغضن – قصة ( صباح جديد ) .
ثنائية الحب / الموت :
وفي مقابل ذلك الملمح الأسلوبي فأن أهم عنصرين في البنية الموضوعية للمجموعة هما ( الحب والموت ) ويشكلان ثنائية تقوم في مقابل ثنائيتي ( ألحياة / الموت ) و ( ألحب / الكراهية ) . ولعل البداية الأولى لتشكّل أفق الثنائية كان قد جاء من العنونة ، فهي قد قدمت القصص تحت معطيين ، الأول يحيل إليه المضاف عبر المفردة الأولى ( عرس ) والثاني يُحيل إليه المضاف إليه عبر المفردة الثانية ( الروح ) ، ومما لا شك فيه أن الدائرة الدلالية للمفردتين تتسعان لمعاني المقولتين الأساسيتين ( الحب والموت ) . وقد تنوعت صور ومظاهر طرفي الثنائية ، وفي ذلك التنوع ارتكان إلى مضامين ومعاني فلسفية وفكرية عميقة تنحل وتذوب بعفوية وبدون قسر داخل المنظومة السردية . وسواء بالنسبة إلى الثنائية الأصلية ، أو الثنائيتين الأخريين المتحققتين تقابلياً بالتداعي فإن المعاني لا تتطابق دائماً مع الملفوظ ، بل تتعداه إلى ضده في القصة الواحدة بحسب مواقع الشخصيات ورؤاها ، فالحب قد يتحقق لدى أحد المحِبَين ، لكنه لدى الآخر قد يتحول إلى كره ، وفي الحالتين فالشخصيات لا تعبر من تلقاء ذاتها ، بل من تصادمها وتفاعلها مع الآخر ، أو مع المحيط . وقد تكون مسببات هذا التناقض بينة كما في ( الهاتف ) و ( لا شيء غير الصمت ) و ( إجراءات أصولية ) ولكنها أحياناً تبدو من دون اسباب واضحة ، كما في ( فضاءات فسيحة ) .
ولكن ليس التناقض هو الصورة الوحيدة التي تنجلي عنها مقولة الحب ، فهناك صور عاطفية أخرى بعضها اكتمل جسدياً وجنسياً بتوافق الطرفين ، كما في ( القبلة ) بينما انتهى الآخر إلى خراب ، كما في ( الرماد ) . وظلت هناك صور متأرحجة تتلاعب بها ظروف خارجية ، كما في ( اليمامات قادمة ) . وقد تعكس مقولة الحب صورة من صور الحوار الفكري كما في ( الطريق ) ولكنه حوار أحادي مكرور لافتقاده إلى التباين ما بين اللغتين والصوتين المتحاورين مما جعلهما أشبه بصوت واحد يصدر عن شخصين مستقلين . ولأن الحب ليس مجرد مواقف سردية ، بل هو مقولة سيالة تذوب ، وتنحلّ في طيف واسع من المواقف والأحداث مما يجعل حصر شواهد منه في مقبوسات متعسراً ، لذلك من المناسب الاستشهاد بشروحات لغوية من خارج النص اعتماداً على ما يسمى باللغة ما وراء اللغة ، أو اللغة الواصفة للتعويض عن المقبوسات النصية :
– في ( عرس الروح ) قصة حب تنتهي باستشهاد الحبيب ، ولكن ليس الحب في ذاته هو السبب في ذلك ، بل هو نقيضه ، أي الحرب / الكراهية .
– في ( ألقاع ) يتذكر البطل في لحظات عمره الأخيرة قصة حب غابرة .
– في ( ألشارع ومصباح النيون ) قصة حب مهددة بزواج الحبيبة
– في ( لا شيء غير الصمت ) حب بالإكره لإجبار المرأة على الزواج ممن لا تحبه
– في ( الهاتف ) علاقة حب بين زوجين مهددة بالانفضاض ، لكنها تعود إلى دفئها في السطور الأخيرة من القصة بعد تلقيها جرعة علاجية مباغتة من الطرفين
– في ( خيبة ) لقاء بين حبيبين بعد فراق طويل ينتهي بصدمة غير متوقعة تُعيد دورة السرد إلى بدايتها / الفراق .
– في ( فضاءات فسيحة ) علاقة حب بين زوجين تنفض لصالح حب الزوج لطيور الحمام . ومن الواضح أن علاقة الحب الباردة بين الزوجين من جهة ، وحبه لاقتناء طيور الحمام من جهة أخرى يبدوان مثل طرفين غير متكافئين في معادلة ترميزية تحيل إلى حب من نوع ثالث يًعبر عنه بالتوق للحرية .
– في ( الشارع ) صورة من صور الحب المدنس
– في ( هل ثمة ما يُنسى ) ذكريات حب غابر بين الشاعر صباح / روميو ، ومياسة / جوليت ، وسنأتي على تفكيكها لاحقاً .
– في ( القبلة ) حب بريء مكتوم بين خطيبين تفجره قبلة دون أن تُطيح ببراءته .
– في ( الطريق ) رؤيتان فلسفيتان للحب ، متقاربتان إلى درجة الاستنساخ ينجلي عنهما حوار ما بين صديقين .
– في ( صورة من الماضي / فوضى ) مواجهة بين عاشقين منفصلين
– في ( ألعودة إلى الدائرة الأولى ) حب وزواج فاشل تسبب في إفلاس التاجر / البطل
– في ( إجراءات أصولية ) مسؤول يبتز موظفة من أجل إقامة علاقة حب عابرة
– في ( ألفجر ثانية ) تبدل صورة العالم الخارجي تبعاً لمشاعر الحب أو الغيرة التي تنتاب إمرأة غيور
– في ( الإختيار ) قصة حب تعويضية بين رجل فقد زوجته وامرأة تشبهها
– في ( رماد ) فشل مشروع علاقة قبل ابتدائها
– في ( أليمامات قادمة ) إستشراف تطور علاقة حب في ضوء التغيرات الطارئة على عناصر المحيط ( تشابك الأشجار / شروق أو غروب الشمس / قدوم اليمامات ) .
– في ( وئام ) إرتباط بين موجودات الكون الصماء ممثلة بشجرتين متعانقتين بحب فُسرت من قبل الشخصية الوحيدة على أنه الخلود يعانق الحياة .
– في ( لوحة ) علاقة حب بين رجل ولوحة هي في الحقيقة علاقة بينه وبين المدلول المرجعي الذي تجسده
– في ( صمت ) إنفضاض غامض لعلاقة حب غامضة وسريعة
– في ( تحد ) حب بعد خصام
– في ( بشاعة ) شذوذ عن قاعدة الحب ، حيث لا تتبقى من ذكرياته غير صور القبح
– في ( صداقة ) عرض بتغيير شكل علاقة الحب إلى صداقة مقدم من قبل أحد طرفي العلاقة / المرأة ، ومرفوض من قبل الطرف الآخر / الرجل .
أما بالنسبة لموضوعة ( الموت ) ، فالموت قد يعني :
– النهاية القدرية المحتومة كما في قصة ( الموت ) .
– أو يعني العبث ، كما في ( الجحيم )
– أو قد يكون مجرد هاجس يكشف طبقات الحب الدفينة ، كما في ( الفريسة ) .
– أو ربما هو يعني رفض الحياة ، وذلك لاقترانها بمعاناة لا خلاص منها ، كما في ( القاع ) .
– او يعني رفض الحياة لهوانها واقترانها بالفضيحة ، كما في ( الشارع ) .
– او ربما يتضمن الموت معنى النقيض ما بين الغريب الذي يتلقى خبره ببرود ، وبين القريب الذي يتلقاه بألم حتى وإن كان الميت حيواناً ، كما في ( جبسي ) .
– وقد يصبح الموت القريب والمنتظر فرصة لتسوية حسابات الماضي ، كما في قصة ( الموضوع ) .
– وحين يغيّب الموت قريباً فعندئذ ربما هو يعني مرحلة روحية متقدمة تفصل ما بين عمرين ، العمر الذي سبق الموت ، وقد أصبح – بحكم افتقاده إلى تجربة الحزن – عمر طفولة ، والعمر الذي يعقب الموت ، وقد أصبح – بحكم توفره على تجربة الحزن – عمر النضوج ، مع أن الفاصل الزمني معدوم ما بين العمرين ، كما في قصة ( أبعاد ) .
– وقد يعني الموت بحثاً عن شكل آخر أسمى للحياة ، كما في ( هتاف ) .
اما جمع طرفي الثنائية ( ألحب / الموت ) في قصة واحدة فيتحقق في قصة ( عرس الروح ) ، و ( ألعودة إلى الدائرة الأولى ) و ( الإختيار ) ، ولكنه باستثناء القصة الأولى تحقق نمطي لا تتفجر فيه دلالات طرفي الثنائية عن معان جديدة ومبتكرة .
فيما يأتي قراءة لأربع قصص من المجموعة هي ( عرس الروح ) و ( ألقاع ) و ( لا شيء غير الصمت ) و ( خيبة ) مع توقفات سريعة عند بعض القصص الأخرى . ولربما يوجب الوقوف عند القصص الأربع التسويغ ، فهي – وهذا رأي شخصيّ – أنضج قصص المجموعة من الناحيتين الحكائية والبنائية ، وهي تمثل نماذج نوعية لتمركز الملامح الأسلوبية والبنى الموضوعية المشار إليها أنفاً .
عرس الروح :
ألقصة مكونة من أربعة أقسام مرقمة من ( 1 – 4 ) ، كل قسم يحيل إلى فترة زمنية محددة من نهار آذاريّ واحد قضته عروس في انتظار عودة عريسها المقاتل من الجبهة ، وبينما حُددت الساعتان العاشرة والحادية عشرة كإطارين زمنيين للمقطعين الثاني والثالث ، تُرك الإطاران الزمنيان للقسمين الأول والرابع دون تحديد ، ومن الطبيعي أن تعمل ذاكرة القراءة تأويلاتها لتحديد ساعتي الإطارين منطلقة من المعطيات السردية في كل قسم ، وبذلك ليس من العسير الاستهداء إلى ان الإطار الزمني للقسم الأول هو ساعات النهار التي سبقت الساعة العاشرة منه ، بينما الإطار الزمني للقسم الرابع هو الساعات التي أعقبت الحادية عشرة من النهار الاذاري نفسه . أما من الناحية البنائية فقد جاء القسم الأول بصيغة حوارية ما بين صوتي العروس وأمها ، ومن اليسير تمييز لغة كل منهما عن الأخرى ، فبينما جاءت لغة الأم تبريرية وتوفيقية في محاولة مصطنعة بدافع الحب الأمومي لتبديد هواجس القلق التي انتابت الإبنة العروس على مصير خطيبها المقاتل في الجبهة ، جاءت في المقابل لغة العروس قلقة ومضطربة ، بل غير مقتنعة بما تسوقه لها الأم من تطمينات . أما القسم الرابع فقد تقاسمه اسلوبان ، الأول نثري من بدايته حتى منتصفه ، والثاني شعري ، أو ما يشابهه من منتصفه حتى نهايته . ومن الواضح أن الركون إلى لغة الشعر الضبابية والمواربة في ختم القصة هو محاولة للتهرب من الوضوح الذي لا بدّ منه لتحديد مصير الشخص المحتجب / العريس . وبالعموم يبدو أن هناك إشكالاً بنيوياً في صياغة الخواتم إنجلت عنه قصص أخرى في المجموعة ، وكانت الآلية الشعرية واحدة من عدة آليات لتمييع الأحداث وبناء خواتم مرتبكة . ومع ذلك فإن إضاءة خاتمة قصة ( عرس الروح ) ممكنة عبر ثريا العنونة التي تلمح إلى العرس المرتقب ، وهو عرس للروح وليس للجسد كما يفترض ان يكون ، والتخصيص الغيري هنا يعني ان الطرف المنتَظَر / العريس لن يعود حياً من الجبهة ، وعادت روحه لتكمل ذلك العرس ، وثمة تلميحات في النص الشعري / النثري إلى تلك العودة الروحية .
على حافة الشعر :
واللجوء إلى اللغة الشعرية ليس قصراً على هذه القصة ، بل يتكرر في قصص أخرى ، ولكل حالة مسبباتها التي تختلف عن سواها ، فهذا حميد عذاب في قصة ( هتاف ) يلجأ في حالة تسام روحيّ ، وانفعال وجداني طاغ إلى التعبير شعراً عن شغفه بالحياة وتمجيده لها ، ولكن نصه الشعري يتداخل مع نص السارد المشارك / البطل ليشكّلا معاً نصاً شعرياً واحداً بالرغم من جملة التقديم النثرية ( مرّة سمعته ) ، ولكن نثريتها تُسقطها تتمتها التشبيهية ( وكأنه يُحادث طيفاً ) التي تجمع ما بين ملموسية النثر / الحضور ، وإيحائية الشعر / الغياب ( كانت كلماته موشاة بألم شفيف ، وكان ينهنه في أحيان أخرى ، مرة سمعته وكأنه يحادث طيفاً ، أوراقك لم تذبل بعد ، أبحث عبر موتي عنك ، ألتقيك في زاوية النهر ، ألثم هدوءك الطائش ، أكتب في تاريخك المزدان بالورد خلودي ) وإن كان لهذا النص ظروفه ومسبباته ، فإن ظروفاً ومسببات أخرى مؤلمة كانت تهيج مشاعر حميد عذاب وتزيح خطابه باتجاه منطقة الشعر ، ولذلك لم يكن مستغرباً ان يعبر عن وحدة الوجود من خلال شكل من أشكال التعاطف الكوني مع حقول النخيل المحروقة وال ( مدماة ) في أقصى الجنوب ( فاجأني حبك ، قاسمني الألم ، عسكر في أعماقي بعد أن استباح براءتي ، أنأى عنك فأجدك من العيون والوجوه إبتسامة أو دمعة او حياة ، ما الذي أعادك إليّ … الوهم … الانتظار ؟ ) ومن الواضح أن هناك ثمة حالة إسقاط تمارس على اللغة ، فالأفعال الماضية ذات الصبغة الحربية التي يفترض أنها ترد في مقام الحب مجازاً ( فاجأ ، عسكر ، إستباح ) تعكس طبيعة القوة التي مورست لإحراق الحقول الخضر .
ويبدو أن هاجس الشعر ليس عابراً ، ولا طارئاً لدى الكاتب فكثيراً ما تأتي الصياغات الوصفية أو التشبيهات مثقلة بحساسية شعرية ، وقد يتسرب هذا الهم إلى الشخصيات والأبطال ، وينعكس تأثيره على سلوكهم رهافة وليناً ، فبطل قصة ( فضاءات فسيحة ) يقر بتأثير الشعر عليه صراحة ، وعلى انفعالاته الوجدانية ( كنت أردد شطراً من قصيدة مترجمة ، كلما افترسني الغضب ، ونضب معين الحلم من الأعماق ) وهو لا يكتفي بترديد الشطر المترجم لامتصاص شحنة الغضب والتعويض عن نضوب الأحلام فحسب ، بل يصبح مضمون ذلك الشطر هدفاً يطمح البطل في توجيه بوصلة حياته إليه وبلوغه ( ثمة أمل عظيم ، ثمة ضوء كثير ) .
وفي قصة ( هل ثمة ما يُنسى ؟ ) يظهر شاعر من بين أصدقاء المقهى الذين يتذكرهم البطل ( الأستاذ حامد ) وهو ( صباح ) . والتذكر هنا لا يعني أن الشخصيات المستدعاة قد تم تغييبها لوحدها في الماضي ، إنما غيبت معها أدوارها ، وكل ما رشح عن تلك الأدوار من علامات مائزة ، مثل علاقاتها الشخصية وملامحها الصوتية والشكلية ومواهبها ، ومن تلك المواهب ظلت من ذاكرة الماضي ثنتين : الأولى ، هواية لعب الطاولي ، وقد اقترنت ب ( حسام ) ، ولم يشغل حسام هذا ولا موهبته حيزاً يتعدى السطرين ، بينما اقترنت الموهبة الثانية ( الشعر ) ب ( صباح ) وشغلت حيزاً واسعاً من ذاكرة البطل ، وانتهت بها القصة تأكيداً على اهمية الشعر سردياً ، ولكن تلك الأهمية كانت لغير صالح دوام الموهبة بالشكل الذي أراده لها صاحبها ، بل لصالح ما أراد لها البطل الذي يمكن أن يُصنف – من دون إعلان نصّي – على أنه بطل بمواصفات أيدلوجية تقليدية . وبمعنى أشمل ، فأهمية الشعر سردياً كانت في كونه يمثل خطاباً عاطفياً فردياً مهزوماً أمام الخطاب الأيدلوجي الشعبوي الوعظي للبطل . إن هذا الظهور من تحت السطح يقدم الشعر أيضاً من تحت السطح دون أن يُمنح الشاعر فرصة التمرد على هذا الموقع والخروج إلى النور فانتهى دور الشعر في حياة الشاعر المغمور إلى النسيان في مرحلة نضوجه . فصباح هذا كان يتمثل ويًمثل في حياته قصة الحب الشكسبيرية روميو وجوليت واضعاً نفسه وحبيبته في مقاميهما ، مما جعله على الضدّ من رؤية البطل الجماهيرية التقليدية التي ترى في شعر الحب لغواً وهروباً من قضايا الجماهير ( صباح ، لماذا لا تحاول أن تقترب من هموم الناس وأمالهم ، إجعل حبك لجوليت جزءاً من حبك للناس وابعد ما استطعت عن هذا اللغو ) .
مونولوج الذات المتوجعة :
على خلاف قصة ( عرس الروح ) التي جاءت على لسان سارد مفارق ، وبخطاب طغى عليه ضمير الغائب ، فإن قصة ( القاع ) هي بمجملها مونولوج داخلي لشخص مريض في غرفة معزولة ، ينتظر أن يُنهي خطابه لنفسه من اجل أن يُنهي معه حياته . وبالرغم من محدودية الفضاء المكاني ( غرفة مغلقة ) ، ومحدودية الفعل الذي لا يتجاوز بعض الحركات النمطية ، واقتصار القصة على شخصية واحدة هي البطل المريض ، بيد أن تلك المحددات تنفتح بممكنات الذاكرة المتعافية والخصبة والمتمردة متنقلة خارج سجن الجسد المشلول ، كما أن عناية الكاتب بالأساليب الحوارية لم تعدم أن تجد للبطل حتى في عزلته الخانقة من يُخاطبه ، حتى وإن كان رفيق الخطاب كياناً غير مرئيّ وغير ملموس مثل الزمن ، وفي هذه الحالة يكتسب خطابه مع مخاطبه طابع الندية ( هذه المرة سأتعامل معك أيها الظالم بطريقة تمكنني من مراقبتك ، وأتمكن من التعامل معك بندية واعية ) أو مثل الخالق الذي يكتسب خطابه إليه طابع المناجاة الممتزجة بالعتاب ( رباه ، أي مرض هذا ؟ لم أسمع به من قبل ) أو ( رباه أيمضي كل شيء إلى عدم ) أو يستحضر أحاديث وحوارات من أشخاص غائبين ليفعّلها ، جاعلاً منها أصداءاً يبدد بها وحشة ساعات عمره الأخيرة ( قال لي الطبيب : إنه – المرض – لا يصيب إلا واحداً من كل مئة ألف شخص ، واختارني القدر بلا تردد لأكون الضحية ) وبالرغم من جهامة وتلبّد الموقف ، لا ينسى اجمل لحظات العمر مع حبيبته التي يحضر صوتها فقط ، بينما يغيب كل ما يؤكد حقيقة شخصيتها ، لا الأسم ، ولا الأوصاف ( أيها المجنون ، أنك تنحني من جديد ، تعيد تشكيلي ثانية ، من علمك أسرار الحب ) . ومع دنو ساعات عمر الرجل من النهاية تتغير لغة الخطاب في دلالة على قرب انفصال الروح عن الجسد المتهالك ، فبعد أن كان الخطاب بضمير المتكلم ، ينتقل مونولوجه الداخلي وهو يتحاور مع نفسه إلى ضمير المخاطب ( يُخيل إليك أن قارعة رهيبة تفغر فاها الواسع لتبتلعك ) أو ( لم تبق أمامك سوى النهاية ، ستضع تفاصيلها بيديك المرتعشتين ) ثم يعود الخطاب إلى نسقه السابق تجسيداً لحالة تشبث الجسد بالروح .
ولكون القصة بكاملها مونولوجاَ داخلياً فأنه من البدهي ان يكون صاحب المونولوج / البطل هو السارد ، ومع ذلك ففي القصة صوت موارب لسارد آخر ظل محتجباً وصامتاً طوال القصة على غير عادة الساردين ، ولم يكسر صمته ويُنهي احتجابه إلا في موقعين ، الأول يبدو عارضاً ولم يشكل تغييراً لافتاً في مسار القصة ، فالسارد الثاني في هذا الموقع لم يلفت الانتباه إليه جراء انتقالة السرد المباغتة والمحدودة إليه من البطل / السارد اللأول ، إذ أن ظهوره هو من أجل تقديم فعل كان سيقع سواء بظهوره أم بغيابه وذلك عندما كان الرجل المريض يستعيد ذكرياته بالتزامن مع تقليب صفحات الألبوم ، والتعقيب على صوره ، عندئذ جاء صوت السارد المحتجب يقدم لفعل التقليب الذي سيباشره البطل / السارد الأول ( قَلَبَ الصفحة الثانية ) ، وليكشف بهذه العبارة المبتسرة موقعه .
اما الموقع الثاني لظهور السارد المحتجب فقد جاء من اجل هدف لا يختلف عن سابقه ، وهو التقديم لفعل لاحق ، ولكن الفرق بين الحالتين أن التقديم هذه المرة فاعل ومؤثر لأنه يقدم لفعل الختام أو افعال الختام فالقصة تنتهي بثلاثة أفعال ختام :
– ختام تقليب ألبوم الصور
– ختام حياة البطل
– ختام القصة
وبانتحار السارد الأول / البطل لم يبق من يسرد مشاهد ما بعد لحظة الموت ، لذلك كان لزاماً أن يأتي صوت السارد المحتجب ليختم القصة في سطرها الأخير ، مقدماً لفعل انطلاق الرصاصة التي سددها البطل لنفسه ، وما أحدثته تلك الرصاصة من تغيير على صورة القلب التي كان قد رسمها بعناء على الصفحة الأخيرة من الألبوم ( مزقه طلق قذف ناري قريب ، فتطايرت دماءه إلى كل الجهات ) .
لا شيء غير الصمت :
في قصة ( لا شيء غير الصمت ) يتحول السرد إلى مناجاة بضمير المخاطب الحاضر ، والصوت الذي يطلق المناجاة هو صوت السارد المفارق ، بينما المخاطب إمرأة مكرهة على الزواج من رجل لا تحبه . ويتبين من لغة الحوار ما بين المرأة والرجل ، والذي ينقله السارد دون أن يدّعي الحياد ، لأنه سيكون ادّعاءاً غير صادق ولا أمين ، يتبيّن الفارق الكبير في موقف كل منهما تجاه الآخر ، فبينما كان موقف المرأة يتطور باتجاه الكُره كرد فعل على إكراهها الاقتران به – في ضوء عدم وجود علاقة ود مسبقة بينهما – وهو بالتالي يمثل كراهية الطريدة لصيادها ، كان موقف الرجل يتطور باتجاه اللين المفرط والحب الغامر وهما لين ومحبة الصياد لطريدته .
في القصة يمكن تبين أربعة أصوات :
– صوت السارد المفارق وقد سبقت الإشارة إليه
– صوت جماعي سُمع لمرة واحدة في جملة مجتزأة من حوار مبتور وموجه للمرأة ، ومن الواضح أنه الصوت الممثل لأهلها دون أن يضطر للكشف صراحة عن هويته وموقعه ، ومع ذلك فالمرّة الوحيدة التي سُمع بها هذا الصوت كشفت عن هيمنته وسطوته على المرأة ، فهو يأتي حاداً وآمراً ( لن تتزوجي إلا الذي نريده نحن ) . ولكن صدى تأثير هذا الصوت يتجاوز قلة ترديده لأنه يشكل في مرحلة ما بعد سماعه القاعدة الدلالية التي ستُبنى عليها كل أحداث القصة ، فهو سيأتي داعماً لصوت الرجل ، وسيحدد الخطوط الرئيسية لمصير المرأة ويوشك أن يقلب حياتها إلى مأساة .
– الصوتان الثالث والرابع هما على عكس الصوتين السابقين اللذين يمثلان شخصيتين مفترضتين ومحتجبتين . فالصوتان الأخيران هما صوتان جليان لشخصين حاضرين هما المرأة والرجل وقد مُنحا فرصة للحوار المباشر فيما بينهما ، عبرا من خلاله عن رؤيتهما الخاصة من قضية الحب ومن بعضهما .
وما بين مجموعة الأصوات الأربعة هناك موقع شاغر لمشروع صوت خامس لم يزل في غيابة الصمت لرجل ذي شخصية مضببة ، لم يتضح وجوده جلياً إلا من خلال مونولوج المرأة في السطور الأخيرة من القصّة وهي تدعوه لقطع حالة غيابه والحضور في حياتها ، وبلا ريب أن مشروع الصوت الخامس يمثل الحب المنتظر ( أيها البعيد الذي ألمح وجهك ، أيها الضياء الذي أغمر نفسي فيك ، متى تاتي … متى تأتي ) . ولعل هذا الصوت يمثل القوة المنقذة ، ولكنها لم تزل إلى زمن القص غائبة ، وتعول المرأة على حضورها لدحر الصوتين الغاشمين المتحالفين : صوت العائلة وصوت الرجل .
خيبة الحاضر الدميم :
يتداخل في هذه القصة الحواران الداخلي بالخارجي ويعمق أحدهما تأثير الآخر نبشاً في مناطق خافية من حياة البطلين ، الرجل ( فؤاد ) والمرأة ( زبيدة ) اللذين التقيا مصادفة بعد فراق طويل . ولكن ثمة فارق في طبيعة الحوارين ، فبينما يعمد الحوار الخارجي إلى تقريب الفواصل التي أحدثها البعد ما بين الإثنين ، أو هكذا كان ينشد الرجل في حصته من الحوار على الأقل ، في مقابل المرأة التي بدت مُحرجة ومترددة تحاول قطع الحوار ، وإنهاء اللقاء . كان الحوار الداخلي – وهو حوار مقتصر على الرجل – مخصصاً لمقارنات ما بين زمنين ، ألماضي الجميل / ماضي المرأة ، وحاضرها المتعب والذابل ( تبدو الآن كسفينة هدتها الأمواج ) . ولكن لا الحوار الداخلي افلح في إعادة رسم صورة الحاضر عاكساً صورة الماضي الجميل عليه ، ولا الحوار الخارجي أفلح في إزالة الفواصل التي أحدثها زمن الفراق ما بين الإثنين ، لأن ثمة مفاجأة كانت تنتظر الفرصة المناسبة لتطفو على سطح اللقاء المفاجيء بين الإثنين ، ملقية بكل أحلام الرجل إلى مستنقع الخيبة غير المتوقعة .
( * ) عرس الروح – حسني الناشيء – قصص قصيرة – دار الجواهري – 2013

تعليقات الفيسبوك

شاهد أيضاً

| عبدالمجيب رحمون : كيف نتواصل بالحكي؟ أو الرواية والحياة عن رواية “عقد المانوليا”

لماذا نقرأ؟ وكيف نقرأ؟ هذان السؤالان الإشكاليان اللذان طرحهما الناقد الأمريكي “هارولد بلوم” لم يكن …

| د. شعبان عبد الحكيم محمد : النص الطازج والقصة القصيرة الشعر قراءة فى مجموعة ” حواس زهرة نائمة ” لسامية غشير.

صدر للدكتورة سامية غشير أول مجموعاتها القصصية ” حواس زهرة نائمة ” عن دار النشر …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *