إشارة :
احتفاء بتراث الفيلسوف العراقي الراحل الدكتور “مدني صالح” ، وبمساهماته الفذّة في الثقافة العراقية والعربية ، تبدأ اسرة موقع الناقد العراقي بنشر هذا الملف الخاص عنه ، والذي تدعو الأخوة الكتّاب الأحبّة إلى المساهمة فيه . وسيكون الملف مفتوحاً من الناحية الزمنية على عادة أسرة الموقع حيث لا يتحدّد الإحتفاء بالفكر بمساحة زمنية معينة .
المقالة :
كأنما الموت يفكّك نسيج حياته الفلسفية ويعيد نسجها من جديد، بهذه الطريقة اختطف الموت الكاتب العراقي الطاعن في الفلسفة مدني صالح.
لا شك أن الفلسفة واقع يومي له وجود حقيقي وفعال وتعبيرات صارخة تتجلى في جميع مستويات الحياة وإن الفلسفة في حد ذاتها تكمن في صيرورة الإنتاج المعرفي، وبصورة خاصة في التصوّر الفلسفي للحياة الذي هو مصدر الجدل الفكري في صيرورته وتحولاته وبناه المعرفية المتنامية،
وضمن هذه الرؤية تجاوز الراحل مدني صالح الكثير من المعوقات الفكرية التي تخلق هوة بين الجدل الفكري وبين الوعي المعاصر فمعظم الفلاسفة، أو ممن كتب بالفلسفة، يعترفون دون تردد بانتمائهم الفلسفي ويقصدون من وراء هذا الإعلان إنهم يرون إن ثمة قاسماً مشتركاً يجمعهم مع غيرهم من الفلاسفة في وحدة الفكر وذلك بالرغم من التمايزات التي تفرق بينهم وتقسمهم إلى مجموعات اجتماعية متميزة بقدر ما تتضح الصورة عن الأديب والمفكر والإنسان الكبير مدني صالح تبقى غامضة ومشوشة، وبقدر ما تكتسب أعماله الفكرية قيمة ذاتية كأسلوب ومضمون يبقى نتاجه الفكري أسير هاجس التعبير عن الفكرة على حساب الشكل لأنه ينظر إليه مرتبطاً بنظرته الخاصة فيكفيه من الفلسفة ما يسهم في التعبير عن أفكاره دون اكتراث أو عائق إذ ليست قضية الفلسفة عنده قضية غموض أو وضوح وليست قضية قدرتها على التوصيل أو عدم قدرتها على ذلك، فهاتان مسألتان ثانويتان وتابعتان، إنما القضية الأساسية هي مدى ارتباط الفلسفة بحياة الواقع التي بدونها لا يكون للفلسفة حياة في الواقع ولا يكون لواقع الفلسفة حياة متجددة حقاً من الجلي والواضح أن مدني صالح بقي حتى أيامه الأخيرة متحصناً داخل الفكر الذي نشأ في كنفه معرفياً وآمن به وكتب من اجله ومن خلاله ولا تزال الفلسفة عنده هي ذلك المشروع المعرفي الذي لا بديل له ولا غنى عنه، إنها مسألة اعتقاد راسخ تدعمه المعرفة وهو، في الوقت عينه، مفكر مسكون بهموم الحياة كما هو مسكون بالمعرفة وبقناعاته الفكرية الراسخة بأن الفلسفة هي المنقذ، من هنا يريد أن يؤصّل البحث الفلسفي فكرياً ليخلق له المجال المناسب أو المكان الواسع كي يغدو مشروعاً حياتياً تغييرياً مجدداً وهو يقترح لنا في كتاباته المتنوعة الدخول في البحث في تجديد وتطوير المعرفة كمشروع مستقبلي لحياتنا الثقافية والإسهام في تجديد الثقافة التي تؤسس لهذا المشروع كمدخل حقيقي إلى الفلسفة بقيّ مدني صالح يكتب ويحلم ويخطط ويوجه فكره باتجاه مشروعه الفلسفي الذي يعتبر شرط تحقق الذات عنده هو وأمثاله (حسام الدين الآلوسي) ممن انغمسوا فكراً وممارسة في الفلسفة التي أعطوها عمراً وجهداً ولم يضنّوا عليها وستكون الكارثة كبيرة عندما لا يبقى للفلسفة موضع أو للمعرفة دور أو للكتابة فائدة وسيكون التراجع الثقافي مثيراً للأسئلة، فيما يتعلق بمصائر مشاريعنا الثقافية المستقبلية بكل أنواعها إن المعالجة الفلسفية التي يسوقها مدني صالح في طرح أفكاره تحمل الكثير من الملاحظات على منطق تجاوز البحث الفلسفي، بصورة عامة، وعلى فهم طبيعة التحولات الفكرية الجديدة التي أصبحت تتحكم بمصائر العالم وبالمفتاح الأساسي لحركية المعرفة، ذاتها، التي تحمل موقفاً ما من هذه التحولات وعليه يخلص، في أغلب كتاباته، للتعبير عن أن المهمة الملقاة على عاتق الكاتب صعبة وهي مهمة بناء الحاضر والمستقبل مثلما هي مهمة بناء ثقافة صارمة متطورة، والحديث هنا عن إرهاصات الكتابة التي تعتبر من مهمات الفكر الفاعل فدائماً نجد في كتاباته ما نطمح لانجازه مستقبلاً وكم تمنينا ذلك لكن الأماني لا تعفي من الانتظار باعتبار أن المستقبل المسدود الآفاق حالياً والقابع في منطقة الحلم قد يُدخلنا حيز المتاهة أو حيز الضبابية وعدم الوضوح قد يبدو للوهلة الأولى أن منطق الفكر الفلسفي لديه وعلى مجرى فعلي له يختلف اختلافاً كبيراً عن مجراه النظري، فهو منطق فكري فلسفي يقيس الواقع الحياتي الملموس على الواقع النظري ويحكم على الأول في ضوء الثاني، كأن هذا مقياس لذاك، بدلاً من أن يكون الواقع الحياتي في حضوره التجريبي نفسه وبكل توجهاته مقياس الواقع النظري ومقياس كل معرفة باستثناء حالات نادرة جداً تتعلق بنظرته للشعر وربما في وجه من الوجوه قد أخذت نظرته الشعرية تلك في واقعها النقدي مجرى ليس الذي نفترضه أنه مجراها الحقيقي النظري بوصفها مشروعاً نقدياً خاصاً به يستمد مصداقيته من نظرته الخاصة وقراءته الفاحصة للشعر التي تفتح النافذة الشعرية على مصراعيها في ضوء ما تقدم، يمكن أن نتبين كيف سار الراحل مدني صالح في منهج الكتابة الفلسفية وأسلوبها، بشكل يسهل الوصول إلى النتيجة المعرفية وهو منهج أثار ويثير التباسات متعددة المستويات ويضع الفرق بين المعرفة الحقيقية ونقيضها في سياق عملية النقد الفلسفي.