عبر سلسلة من نتاج السرد العراقي يتميز النتاج الروائي للأديب علاء مشذوب باللا مألوف حيث وطَّـنَ قراطيسه للخوض بالمناطق ذات الخطوط الحمراء والحافات المدببة التي تحتاج الى جهد ومثابرة ونفس واثقة لاتخشى مايقال آنياً عن منتجه السردي لأنه في أغلب الأحيان يخرج من دائرة الواقع ويعيش مخيال السرد بكل تفاصيله منقطعاً عن زمنه ولربما حتى مكانه لأنه يعيش في عالم خارج دائرة الضوء والعمل على إستحضاره يتطلب شجاعة وصبر وتحدي القائم المألوف وقراءة التأريخ عبر حقبه الزمنية بتأني الباحث الذي يبغي إعادة التأريخ الى مضـانه الأولى دون تحريف أوتجريفٍ لبقاياه والأهم من ذلك الإستدلال عليه من خلال ذاته بغية سحب الماضي الى الحاضر بإمتداداتٍ إفقية لإكتشاف المجهول من خلال الإستخدام الأمثل والشرعي لثيمات الإستدلال عليه والتي إشتغل عليها (المشذوب) في تدوين روايته ( آدم سامي مور ) ولا أدري لماذا ذهبت الى مقارنتها وأنا أتصفح الفصل الثاني منها مع رواية ( شرق المتوسط) لـ عبدالرحمن منيف في حين إن التباين فيما بينهما واسعٌ وكبيرٌ ولكني وجدت أن هناك مشتركاً أوحداً بينهما وهو الشجاعة في طرح موضوعة الروايتين .. وكلا السردين (شرق المتوسط ) و(آدم سامي مور) إجتماعيان بيد إن مُنيف إستنطق الحاضر بينما المشذوب إستنطق الماضي بلسان الحاضر حيث الإشتغالات في آدم كانت ذات أبعاد فلسفية وسياسية بيئية إجتماعية رسمت لنا أفقاً آخر عن نظرية تكوين الخلق التي درسناها والعادات والعبادات التي عهدناها وألفناها معتمداً في مجادلته ومعاكسته للذات على الوثائق الرقمية التي تمكن الروائي المشذوب من قراءتها وتوظيفها في سرد أحداث روايته التي وفرت علينا متابعة قراءتها إذ لم يترك لنا خياراً آخر فالرقُم التي توالت علينا من ( الرقم ـ1ـ فضاء مفتوح ….. الى الرقم 15 الموت السعيد ) نصوص سومرية كانت نواقيس دالة على أهمية منجزه الجديد الذي أبحر فينا من خلاله ضارباً أعماق التأريخ دون عناء ولكنها كانت رحلة كل ما فيها قابلٌ للبحث والتأويــل وتلك ميزة لصالح السرد لاعليه فالنص الأدبي غالباً لايحقق غايته إلا من خلال تأويله فيصبح التأويل من سماة تأصيله ، وهذا ماكان شاخصاً في رواية (آدم سامي مور) حيث كثرة المجسات الهيروغليفية فيها عاملة على تخصيب ذاكرة الآن وتحفيز الإرث فيها عبر مخيال السرد الذي دونه الراوي مرة والمتحدث تارة أخرى .. رأينا كيف إن الراوي مضى منقباً باحثاً في الأرض عن ذاته كإنسان وعن صحة معتقداته ككائن متحرك عليها .. متسائلاً عن ماهيته وجذره ولماذا تماهى في الأخر .. كيف بنى مجده ومدينته الحاضرة ، تساؤولات كلنا نبحث عنها ولكنه تمكن من فتح مغاليقها وفك طلاسمها عبر فلسفته التي آمن بها مسلكاً للوصول الى جوهر
الأشياء (وبدوري كراوٍ سأحاول أن أعقب ماأستطعت على تلك النصوص أو أجري بعض الحوارات مع منتجها لأن ماطرحته تلك النصوص فيما يخص بداية الخلق والتكوين ، مثلما طرحت بعض الأحداث كنت أعتقدها لأنبياء وقد تبين إنها لشخصياتٍ تأريخية ضاربة في جذر الحضارة) ….علاء المشذوب ………………………….. آدم سامي مور ………………………….. ص12
لست هنا بصدد تفكيك النص أوتشريحه بقدرماأنا مستعرضٌ له بإستقراءٍ قد لاأكون فيه قد لامست الصواب ولكني لم أجانب الحقائق التي وجدتها في السرد الذي أحسب إني قد أدركت بعضاً منه وعشت تفاصيله لذلك إستخلصتُ إن هكذا روايات هي عابرة لمحيطها نحو العالمية ، والآخر لو وصل إليه إشعار عنها لم يتوان في ترجمتها الى لغته تعميماً للفائدة لأنها فتحٌ جديد في السرد العلمي ذو تماس مباشر مع علماء الأثار والبحث والتنقيب , وإننا لعلى علم بأن مثل هذه الروايات لايكتبها إلا ذو حظ موفور توفرت له عوامل مكنته من إنجاز مشروعه السردي وفي مقدمة تلك العوامل :
1ـ توفر المصادر التأريخية المعتمدة .
2ـ اللقاءآت المباشرة مع ذوي المعرفة من رجال آثار ودين ومجتمع .
3ـ المعرفة الدقيقة بآلية التنقيب عن الأثار .
4ـ القدرة على تقمص شخوص الرواية من خلال معايشة الواقع المفترض .
5ـ إحالة المقروء الى ملموس ومنطوق آني ، وحبكة عالية في صياغة النص السردي .
6ـ القدرة على محاكاة المندثر بإزالة العوالق عنه وركام القرون الجاثم عليه من خلال الإطلاع على بحوث علماء الآثار واللغات القديمة كـ ( طه باقر ، فؤآد سفر ، دوني جورج ، فوزي رشيد ، بهنام أبو الصوف ، عبدالإله أحمد ، برهان شاكر ، فاضل عبد الواحد ) هؤلاء الذين عاشوا بيننا من الحضارات العراقية القديمة ( سومريون ، بابليون ، أكديون ) دون أن يهتم بهم أحد ورحلوا عنا بصمت ولكنهم سجلوا خلودهم بما قدموه من ثروات معرفية عن حضارة وادي الرافدين
7ـ المعرفة الدقيقة بجغرافيا المكان ودراسة الواقع المجتمعي ( عادات وتقاليد وطقوس) لتلك الكتل البشرية التي كانت تشغل ذلك الحيز من المكان .
8ـ إيقاظ الذاكرة السابة من خلال تحفيز الدالات عليها .
9ـ دراسة نظام الحكم وعلاقته بالمعية وطبقات الشعب والشرائح الإجتماعية الأخرى .
10ـ الغور في المكتبة الرقمية والشفاهية (الصوتية ) لتلك القرون الخوالي من التاريخ والإطلاع على النصوص الرسمية والشعبية لتحديد ثقافة وهوية ذلك المجتمع .
إن كتابة رواية عن عالم مندرس يغور فينا السارد فيها أعماق التاريخ باحثا عن الجذور الأولى للحضارة العراقية القديمة التي ورد ذكرها في (العهد القديم ) والتي حدثت بسببها حفريات منظمة لرحالة عرب وأجانب بحثاً عن الكنوز الأثرية فيها وإثباتاً للدقة التأريخية التي وردت في الكتاب المقدس .. فكان أول من إنبرى لمهمة التنقيب الآثاري في العراق هما (بول أميل بوتا ) الفرنسي و( هنري أوستن ) الإنكليزي عام 1840م ولاغرابة بعدئذ أن نرى إن متحف اللوفر الفرنسي والمتحف البريطاني فيهما أهم المعالم الأثرية لبلاد مابين النهرين ( الميزوبوتاميا) وقد إتفق العلماء على ان العراق هو أول من وضع أسس المدنية والإكتشافات الأولى كـ ( الكتابة والعجلة والمكاييل وقواميس الزراعة وطرق الصناعة وآليات التجارة وأسس الإقتصاد وفيه صيغت القوانين ووجد البرلمان وإبتدع الشعر وعزف لحن الحياة على قيثارته في سومر .. ( أتعلم إن بيئتكم بأغلب تفاصيلها لم تتغير كثيراً عن بيئة أجدادكم بأستثناء رجوع الماء الى مسافات بعيدة وكان يتكلم معي باللغة الإنكليزية ) .. آدم سامي مور ……………………………… ص59
إن رواية ( آدم سامي مور ) صرخة الحضارة من جوف صمتٍ مطبق لتكوِّنَ تياراً حركياً متمرداً على التيار الساكن المألوف فقد كان علماء الأثار الأجانب ينظرون الى أهل مناطق حفرياتهم نظرة دونية وكأنهم ليسوا هم الإمتداد لتلك الحضارة وورثة كنوزها العلمية والمادية (طلب مني ـ المستر وولي ـ أن لاأختلط بالعمال ، وإنما أبقى على مسافة منهم ، حتى لايأخذوا عليَّ ، مثلما طلب مني أن لاأزيد بالكلام معهم ، حتى بعد إنتهاء العمل وكذلك في القرية) ….علاء المشذوب ……………………….. آدم سامي مور ………………………….. ص17
وكذلك قول المستر لرئيس العمال بعد أن رفض طلبه مشاركة العمال لهم في تناول طعام الوليمة : ( أ تعرف إننا لو كنا أطعمنا العمال اليوم شواء اللحم ماذا كان سيحصل ، رئيس العمال : وماذا سيحصل … المستر : كان العمال في اليوم التالي سيطلبون نفس الغذاء وربما سيطلبون أجراً إضافيـاً ) .. آدم سامي مور ……………………… ص25
ومن اللابد من ذكره إن رواية (آدم سامي مور) ليست في السهولة التي يفهم مقاصدها كل قاريء في زمن السذاجة والجهل واللاقراءة بيد إنها في أدنى مساراتها تكون مقرؤءة كأية رواية أخرى لواقعية البناء وإختلاف السرد فيها في حين إن قوتها تكمن في التضادات الذهنية لمخيلة القاريء بإحالتها الى حقول التأويل عند ذاك يكون قد بلغ منها بعض مقاصد السرد الذي جاء فيها والمتكيء على الجهد الفلسفي لمؤلف الرواية فلقد عاش مؤلف الرواية ذلك الزمن بكل تفاصيله حتى تماهى فيه وأصبح جزءاً منه حيث لاتميز نصه الأدبي عن أي نص مدونٍ مسماري ( حينما تضعف الظروف الملائمة لإستمراري / عندما لاأستطيع المشي وتضعف شهيتي ويتلاشى سمعي … عندما يصيبني النسيان وتموت ذكورتي / عندما لاينتفع بي أحدٌ / فإن الموت السعيد مطلبي / عندما يغزو الأعداء دويلتي / ويبيحون المساكن والبيوت ويهرب الكاهن والملك من مدينتي / فإن الموت السعيد مطلبي / عندما تزني زوجتي ، ولا أستطيع قتلها أوبيعها في سوق الإماء / حينما يبلوني المرض وأنا شابٌ قوي ولا أستطيع شفاء نفسي / فإن الموت السعيد مطلبي / عندما يعم الفقر والجهل والوباء / ولا أستطيع أن أنقذ عائلتي / عندما يستحوذ الكاهن على المال / عندما يستحوذ الملك على القرار / حينما تبخل الغيوم بالمطر / حينما يقطن الغرباء مدينتي / حينما نعيش دون قوانين تحفظ حقوق العيش الكريم / فإن الموت السعيد مطلبي) ….علاء المشذوب ……………………….. آدم سامي مور / الموت السعيد ، نص سومري 15………………………….. ص152
ولإحتواء الرواية على كم مهم من النصوص السومرية يمكن للقاريء أن يستخلص من الرواية مجموعة شعرية من ذلك الزمان كـ (صوت من أعماق سومر) بأسم كاتب الرواية ذاته الذي عاش عبر ثلاثة فصول متنقلاً بين الماضي (6000ق م ) والحاضر متحدثاً عن خوالي الأيام ، فرواية (آدم سامي مور) هي بمثابة أهمية وثيقة تأريخية إبتدعها الروائي الدكتور علاء مشذوب لتكون إضافة نوعية لأدب الضاد عن مهد الكتابة (سومر) وحضارتها الغاربة وإننا لعلى يقين من إن المهتمين بتلك الحضارة وآثارها سينقلون روايته هذه الى لغاتهم الحية ، فكما تنبأتُ للمشذوب وأنا أطالع بواكير أعماله حين قلت له إنك تحفر إسمك بالصخر الصلد فسيكون الغد الآتي لك ونتاجك دالاً عليك في ذات يوم وأراه قريبا .. أرى اليوم لزاماً عليَّ بأن أبوح إن أدب علاء المشذوب من سرد روائي سيأخذ طريقه نحو العالمية لأنه يكتب بلغة واسعة الإنتشار .
البحث عن الذات في رواية آدم ســـامي مـــور للدكتور علاء مشذوب
إستقراء / عبدالحسين خلف الدعمي
تعليقات الفيسبوك
الشاعر عبد الحسين الدعمي المحترم
أنها لشهادة كبيرة، أعتز بها من قارئ مغاير ومختلف، مسك أزميله وطفق، يحفر في نص أخذ من الزمن الكتابي ما يقارب السنتين، شكرا جزيلا لكلماتك النبيلة التي وشحت بها روايتي، وأتمنى على النقاد الكرام أن يقرأوا النص، ليجدوا فيه المتعة والجمال، الفلسفة والسؤال… لك فائق التقدير والإحترام.
د . علاء مشذوب