أمجد الطيار : ثورة محمود صبري ؛ حظور شعب وحظور فنّان ثورة الجزائر (ملف/6)

amjad altayarإشارة :
بمناسبة الذكرى الثالثة لرحيل المبدع الكبير “محمود صبري” ، تبدأ اسرة موقع الناقد العراقي بنشر ملفٍ عنه في حلقات ، وتتمنى على جميع الأخوة الكتاب والقرّاء المساهمة في هذا الموقع بما يتوفر لديهم من دراسات ومقالات وصور ووثائق ولوحات عن المبدع الراحل إسهاماً في هذا الملف الذي سيكون – على عادة أسرة الموقع – مفتوحا انطلاقا من أن ملف الإبداع ليست له نهاية .

المقالة :
أندلعت ثورة التحريرالجزائرية في 1 نوفمبر 1954 ضد الأستعمار الفرنسي الذي أحتل البلاد منذ سنة 1830 ، ودامت طيلة 7 سنوات ونصف من الكفاح المسلح والعمل السياسي وأنتهت بأعلان إستقلال الجزائر يوم 5 جويلية (يوليو) 1962 ، بعد أن أُستشهد فيها أكثر من مليون ونصف مليون جزائري ، مسطرةً واحدةً من أعظم ما شهد التاريخ من ثورات”(1). هذه كانت أولى السطور التي تطالعنا عند البحث في شبكة الأنترنت عن عبارة (الثورة الجزائرية) ، وهي بذلك توثق بالتواريخ لمرحلة صعبة من مراحل حياة الشعب الجزائري . ولذا فأن حالة الثورة دامت لعدة سنوات ، وجاءت بشكل تراكمي ومتنامي لتُكلل بالنصر كنتيجةٍ حتميةٍ لنضال شعب ومعاناة توجت بعدها بأحراز الأستقلال وأعلان الدولة الحـرة .

ولم يكن الشعب العراقي بعيداً عن مايدور في الجزائر وعلى أهلها من إرهاصات هذه الثورة كأية ثورةٍ أخرى بأخفاقاتها حيناً وأنتصاراتها أحياناً أخر . جاءت (ثورة الجزائر) العمل الأبرز للفنان العراقي محمود صبري بصفتها ردة فعلٍ لفنانٍ طليعي يحيا مرحلةً ضجت بأبلغ مخاضات البحث عن الهوية وإثباتات الوجود وأنبثاق الصحوات الجماهيرية إقليمياً ودولياً .

وكما وثّق بابلو بيكاسو حادثة قصف المدينة (الجورنيكا) ، حاول محمود صبري توثيق ثورة الشعب الجزائري بهذا العمل ، على الأختلاف في ردة فعل الفنانين ، حيث يذكر بأن بيكاسو كان قد نفّذ عمله بناءً على طلب رسمي وكان ذلك بعد تاريخ الحدث ، ولن يُنقص هذا من أهمية العمل ، غير أن ما أريد أن أشير له هنا بأن صبري كان قد عاش معاناة وإرهاصات ولادة ثورته (العمل) ليترجم تعبيرياً نضال شعب عبر معاناة فرد ، متجاوزاً بذلك ماهو ذاتي ضيق نحو ماهو جمعي أرحب . وبأتباع ذات الزهد اللونـي يقول محمود صبري ما يعتلي في نفسه ، مكتفياً بالخط ليشكل كتلاً بشرية أعياها المسيـر على درب الكفـاح .

محمود صبري في شبابه
محمود صبري في شبابه

وفي عودة لما قد تنفّلتُ الكلام به عن سنين الثورة ، فأن من الملاحظ أن صبري كان قد أنجز عمله في سنة 1956 ، وهي السنة الثانية لأندلاع الثورة الجزائرية ، ولم تكن قد أينعت ثمارها بعد ، لتأتي أكلها بعد ستة سنوات أخر . الأمر الذي يوضح بأن صبري كان قد عايش المخاض ليولد عمله حاملاً بين خطوطه وأشكاله ديناميكة إستمرارية الحدث . ولم يغفل هذا الفنان الحاذق عن هذه النقطة المهمة جاعلاً من ثورته (العمل) وثيقةً لديمومة نضال ثورة شعبٍ كانت قد طالت لسنوات ، موضحاً بأن ثمن أنتصارها في النهاية سيكون باهض .

العمل شكلياً عبارة عن مجموعة أشخاص ألتحموا ليكوّنوا كتلة واحدة بأنشاء أقرب للهرمي ، حيث يعلوهم في الوسط أوضح الشخصيات فاتحا ًذراعيه حاملاً في أحداها مشعلاً ، وقد إلتف حول رقبته حبل المشنقة الذي أتصل بعمودٍ خلفه ، في إشارة للشهيد الذي ينير بأستشهاده الطريق لرفاق النضال . وقد وقف إلى جانبه رفيقه حاملاً راية الثورة التي إتجهت في رفرفتها بذات إتجاه لهب المشعل ، الأمر الذي حقق نوعاً من الحركة والأستمرارية نحو نقطة أو هدف .

جعل الفنان الأشكال التسعة المتبقية في مستوى أوطئ وبحركة أجساد ثقيلة نسبياً ، لتعاني حالة السقوط والنهوض ، بأطرافها ذات الخطوط المتكسرة والزوايا الحادة ، وبأقدام كبيرة متورمة ، للأيحاء بالحركة الكامنة والأنبثاق المتجدد أو الأحساس بالأنفجار المحتمل ، حيث يهم أغلبهم بالوقوف رغم حالة المعاناة والتعب التي توحي بها وجوههم . مما أعطى الزخم والأسناد للشخصين الآخرين في الأعلى . وقد جلست أمرأةً على الأرضية في الوسط تحتضن طلفها بين يديها وقد جلس ولدها الآخر بجانبها بهيئة تحوي بالأنتظار .

تعددت حركات الأشخاص وتعابيرهم بين حالة الألم التي ترجمها الفنان من خلال وضع الكفوف على الوجوه ، ونظرات العيون وقسمات الملامح التي توحي بالأنفعال والتحدي ، والأفواه التي فتحت للصراخ وأطلاق أصوات المعاناة والألم والرفض . أيادي وأقدام متقاطعة تجاهد وتكد وتكابد لتدرء الخطر المحدق بها . بخطوط متجهة إلى الخارج وأخرى تنضمُ إلى الداخل ، حقق محمود صبري مضمون النضال في دفع الضرر عن الذات وطرد المحتل ، والحفاظ على المكاسب وحماية الأمل من أجل المستقبل القادم .mahmod l 6

جاءت خلفية العمل لتوازن حالة ثورة الأشكال وحركتها ، بكتل ساكنة ومدروسة بطريقةٍ واقعية إلى حدٍ ما من حيث نسب الظل والضوء . أشكال لأبنية شاخصة في الخلف توحي بالمنظور وأستقرار المشهد ضمن كادر الرؤية . عمود المشنقة بكتلته السميكة والثقيلة التي توحي بأستقراره ، دائرةً تمثل الشمس في السماء ، والشجرة التي حاكت بخطوط أغصانها المتكسرة خطوط أيادي وأقدام الأشخاص . كل ذلك كان قد خفف من حالت أنفلات الأشكال في حركتها الصاخبة ، وجعل العمل بالتوازن المطلوب . وأكد هوية المكان الواقعيـة .mahmod l 6

لقد حققت ثورة محمود صبري (العمل) مكاسبها بالتعبير عن ثورة الجزائر من خلال بثها أسألتها الوجودية . إذ أزدحمت بالمفاهيم المتناقضة ، حيث الموت والولادة ، القيد والتحرر ، الحركة والسكون ، الخسارة والنصر ، القنوط والأستسلام والتمرد والأندفاع . ديالكتيك الوجود الذي شغل حينها محمود صبري والشعب الجزائري على حدٍ ســواء .
أنطلوجيا الفنان العراقي محمود صبري :

محمود صبري 1927 بغداد (محلة المهدية) – 2012 لندن .

دبلوم علوم أقتصادية وإجتماعية – لندن 1949 .

عضو جماعة الروّاد ، وشارك في معرضها التأسيسي الأول الذي أقيم في بغداد عام 1950 ، ويذكر أنه هو من أقترح أن تحمل الجماعة أسم (الروّاد) .

شغل منصب مدير مصرف الرافدين – بغداد .

شغل منصب مدير مصلحة المعارض التجارية – بغداد .

صمم أجنحة المعرض التجاري الدولي الذي أقيم في بغداد في عام 1959 .

وضع تصوراً أولياً لجداريته (وطني) التي كان من المفترض إنشائها في مركز العاصمة بغداد ، حيث نفّذ تخطيطاتها في موسكو عام 1961 ، وكان قد حال الأنقلاب العسكري في العراق عام 1963 دون إنجازها .

إلتحق بمعهد سوريكوف للفنون التشكيلية بموسكو عام 1960 ، وتحديداً في ورشة فنان الشعب السوفيتي الكسندر دينيكا .

غادر بغداد في أوائل الستينيات من القرن الماضي وأستقر في براغ حيث أقام أكثر من معرض ووضعت لوحاته في متحف الفن الحديث ، ثم أنتقل الى لندن حيث توفي هناك .

أنضم إلى رجال الثقافة والفن العراقيين في خارج العراق ، ومنهم الشاعر الكبير محمد مهدي الجواهري في تشكيل حركة بأسم لجنة الدفاع عن الشعب العراقي ، بعد الأنقلاب العسكري في العراق عام 1963 .

أنغمر في التنظير لمشروعه الفني في الستينيات والسبعينيات ، حتى توصل لرؤيته الجديدة التي ربط فيها بين الفن والعلم ، وهو ما تجلى في أسلوبه الجديد في الرسم ، الذي أسماه (واقعية الكم) ، ووضع له أساساً نظرياً تضمنه كتاب حمل الأسم نفسه ، ونشر عام 1971 .

واصل نشاطه حتى آخر أيام حياته على الرسم وتطوير نظريته ورؤيته لدور الفن في ضوء التطورات الجديدة التي حصلت في مجال العلوم والفيزياء ، فقد كان فكره متوقداً وظل منتجاً برغم معاناته من المرض والشيخوخة .

من أعماله : الماء ، الوطن ، الشهيد سلام عادل ، ذرة الهيدروجين ، موت طفل ، المظاهرة ، مومسات في الأنتظار ، ثورة الجزائر ، تل الزعتر ، جنازة الشهيد .

(1)ويكابيديا ، الموسوعة الحرة على شبكة الأنترنت .

أمجد الطيار

* عن موقع النور

تعليقات الفيسبوك

شاهد أيضاً

د. قصي الشيخ عسكر: نصوص (ملف/20)

بهارات (مهداة إلى صديقي الفنان ز.ش.) اغتنمناها فرصة ثمينة لا تعوّض حين غادر زميلنا الهندي …

لا كنز لهذا الولد سوى ضرورة الهوية
(سيدي قنصل بابل) رواية نبيل نوري
مقداد مسعود (ملف/6 الحلقة الأخيرة)

يتنوع عنف الدولة وأشده شراسة ً هو الدستور في بعض فقراته ِ،وحين تواصل الدولة تحصنها …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *