إذا كانت (النسويّة) في واحد من تعريفاتها كلّ جهد نظريّ ، أو عمليّ يهدف إلى مراجعة النظام السائد في البنيات الاجتماعيّة ،أو مساءلته ،أو نقده ،أو تعديله حينما يجعل الرجل المركز، والمرأة جنسا ثانيا( 1)،فإنّ كتابات النساء الروائيّة اللواتي يرغبن في تفكيك تلك البنيات القيميّة الذكوريّة بهدف نقدها، وتجاوزها لتحقيق واقع جديد للمرأة تعدُّ إسهاما منظّما في تاريخ وجود النساء أنفسهنّ هدفه تكوين مجتمع عادل ومتجانس ليس غير.
لقد شهد العالم الغربي ولادة هذا الأدب منذ سنوات ليست بالقليلة(2 )، وفي الوطن العربي شهد الربع الأخير من القرن العشرين صعودا لافتا للرواية النسويّة العربيّة ذات الرؤية التي تتناسب والمكانة الجديدة للمرأة التي ترفض الاستعباد ،والتمييز(3 ). أمّا في العراق فإنّ الروايات التي كتبتها الروائيّات اللائي اتخذن من الفكر النسوي هدفا إلى مقاومة كلّ أشكال الانحياز ضد المرأة ،ومناهضة القوانين، والأعراف التي تضطهدها ،وتجعلها خادمة وخاضعة ،وفي المرتبة الثانية في سلّم الحياة(4 )،فقد كانت كثيرة وقد تمكّن د. محمد رضا الأوسي من دراستها ،والإحاطة بها ،ونقدها في ضوء الفكر النسويّ نفسه( 5).
ويبدو لهذه (المقاربة) أنّ رواية (أحببت حمارا)(6 )،للروائيّة رغد السهيل امتدادٌ طبيعيٌّ لتلك الروايات التي نهجت بالضدّ من تغييب المرأة ونيابة الآخر عنها في تمثيل ذاتها، وموقفها من العالم، وهدفها تفكيك مزاعم الثقافة الذكوريّة ،وتقويض ادعاءاتها التي شكّلت من خلال عقود مديدة مرجعيّة متعالية لتسويغ التمييز ضد المرأة (7 ).
لقد حفل الفكر النسويّ برؤى نظريّة رأت أنّ الأدب بعامّة خبرة ثقافيّة توجّه انتاج القيم والمعاني ،وليس مرآة تحاكي واقع الحياة كما هو ،ولهذا فإنّه -الفكر النسوي- جعل التمثيل الأدبي الذي يشكّل الإبداع الروائيّ جزءا منه أكثر الأنشطة الإنسانيّة فاعليّة وأخطرها(8 ).
لقد حضر التفكير بالنسويّة بمفهومها المتداول القائم على نصرة المرأة ،وتأكيد وجودها الانسانيّ القائم على فاعليّة حضورها في متن الرواية بدءا من التصدير الذي استعارته الروائيّة من(فرجينيا وولف) وقد أوجزت فيه شفرات ذات دلالات مقصودة سيتمكّن المتلقي من الإمساك بها في متن الرواية يقول التصدير: (مستقبل الرواية يعتمد على المدى الذي يمكن فيه تعليم الرجال على تحمّل الخطاب الحر لدى النساء) التصدير يتبنى مقولة صادمة للوعي الذكوري المحافظ واضحة الدلالة قالتها كاتبة معروفة سبق أن كتبت الكثير عن كتابات النساء ممهّدة عمليّا للنسويّة فقد:(( كانت تتفحص باستمرار المشكلات التي تواجه الكاتبات النساء))( 9)،وتعمل على إيجاد تقاليد تنظّم الفاعليّة النسويّة في إطار الثقافة والحياة ،وليس للباحث في هذا المجال إلا التأكيد على أهميّة غرفة فرجينيا وولف بوصفها خطوة مهمة في تأكيد وعي المرأة الكاتبة بذاتها وكينونتها لإرساء تقليد أدبي نسائي( 10).
ويهم الروائيّة وهي في قمّة وعيها الأيديولوجي بالمساواة أن تخاطب متلقيها الذي سيصدم أوّلا بعنوان الرواية آخذة إياه إلى (خارج الفحولة ،داخل القطب البارد …ربما أهذي أحيانا فأخرج عن النصّ ،كما خرجت عن القطيع) ص13، هذا خطاب يتضمّن الدعوة إلى العيش خارج منطق الفحولة الذي يحتكر الحياة بصيغة إماء وجوار، فضلا عن مغادرة حياة النساء اللواتي يعشن على هامش الحياة المندحرة ،أي أنّ الروائيّة عبّرت عن موقف يتّسم بالانحياز إلى مضمون الفكر النسوي الذي يرفض خضوع المرأة إلى رؤية تستسهل وجودها لصالح الوظيفة البايلوجيّة والجماليّة في الحياة ،داعية إلى العناية بوجود المرأة الإنساني الذي يشكّل نصف الحياة.
تقول الروائيّة على لسان الساردة مؤكّدة المنحى السابق :(لا أحد يستطيع فصلي عن بنات حواء بذريعة حب الحمار! النظريّة النسويّة الحديثة تقول إذا انشققت عن الجماعة لا يعني أنّك لست منها، عليك أن تجد من هو مثلك لتصنع لغة خاصة ، بعيدا عن الخنوع)ص15،والقول يتضمّن الإحالة الصريحة على النظريّة النسويّة التي نمت في أحضان ما بعد الحداثة، وهي تردّد مقولات التعدّد الثقافي ،وتناصر التحرّر من التبعيّة الشاملة لمؤسّسات القهر الإجتماعي ،والتمييز البايلوجي الذي لا يستند إلى معيار الثقافة ،ونمو المهارات حين يُفرّق بين الرجل والمرأة ،وإنّما يستند الى معيار (الجنس) فحسب.
وتقف الساردة ذاتها موقف المواجهة الشجاعة وهي ترى نفسها وبنات جنسها(الأكثريّة وتسودنا الأقليّة)ص16 في إشارة إلى المعيار الكمّي في حياتنا المعاصرة الذي يشير إلى أنّ أعداد النساء في مجتمعنا يفوق أعداد الرجال لكنّ المفارقة تكمن في حكم الأقليّة واستحواذها على الحياة !.
وللفكر النسويّ في الرواية أن يوجّه النقد تلو النقد للذكورة التي تُعنى باستعراض نفسها كلّما تعرّفتْ امرأة ،فـ(لفهيمة) وهي في قمّة وعيها النسوي أن تحتاج رجلا يفهمها لا أن يستعرض نفسه كلّما رآها تقرأ كتابا وكأنّه القارئ الاعظم ، فهو كما ترى ينطلق من عقدة نقص تجاه المرأة المجدّة ،وهي ترى أنّ:(أغلبهم يعتقدون أنّهم مركز العالم… )ص79..ما قيل يهدف إلى تفكيك مقولات الذكورة الزائفة التي تنطلق من حاضنة متعالية تريد للمرأة أن تظلّ تابعا يعيش في متاهة أبديّة.
وتدعو الساردة إلى الاقتداء بالجَدّة التي كانت تثور على واقعهاص24،وهي تدعو النساء الى التعلم لممارسة الانتخاب الذي هو حق كفله القانون للمرأة عن طريق خلق لغة وفكر خاص ص25يعمل على ايجاد وسائل ترتقي بالمرأة ، وتعمل على تغيير مستوياتها الثقافيّة والمعيشيّة ، فهي-الساردة- تواجه نفسها بشجاعة وتحترم مشاعرها وتدرك أنّ الآخر يحترمها ص30، فخطاب الساردة يشتمل على وعي نسويّ يدعو إلى التعلّم ،وممارسة الحقّ السياسي ،فضلا عن خلق لغة جديدة للمرأة تكون وعاء لفكرها الجديد ذي الانقلاب الخطير.
ويسهم الوصف في الرواية بإظهار حقيقة الوضع المأساوي الذي يعيشه قسم من نساء الرواية فأم صابر–لاحظ التسمية – تشتكي طفولة العباءة الملتفة على جسدها كناية عن محاصرة الفكر الذكوري لها في أوّل عهدها في الحياة، فضلا عن غزارة التجاعيد في وجهها كناية عن الهرم المبكّر، والوجع القديم في الساق وهي لا تملك من مظاهر السوق التجاريّة سوى (خيمة من الكارتون المقوى ،تفتحها وتسندها ببعض الاحجار ،تجلس داخلها وهي تلهث) ص34،لا شكّ في أنّ الوصف السابق يشير بدلالة السرد إلى الواقع المزري الذي يعيشه قسم من النساء ليس بهدف الوصف المحض وإنّما بهدف نقد الواقع لتغيير الحال ،والإنتقال إلى واقع اقتصادي يسهم في سعادة الإنسان.
وعلى الرغم من قسوة الحياة التي تعيشها أم صابر، فقد كانت تصرّ كما تقول أم مظلوم- لاحظ التسمية- على أن لا تستسلم ص34 إلى سلطة الجوع والفاقة ، فهي تدرك عن وعي أنّ عملها في السوق يقوّض سلطة الفقر والعوز الذي يأكل من جسدها على الرغم ممّا تلاقي من تعب وإرهاق، فهي والحال هذه عملت على تأكيد ذاتها الفاعلة اجتماعيّا واقتصاديّا لأن الاستسلام للحال يقودها إلى خسارات مركّبة.
وإذا كانت الحياة قد أثقلت النساء الأمّهات بحجم كوارثها فإنّها فعلت ما تستطيع بحق الطفولة أيضا فـ(دموع)- لاحظ التسمية أيضا- التي لا تتجاوز العاشرة من عمرها: جميلة ونظيفة جدا، ولكنّها بائسة فقدت والدها الشهيد ،وأمّها معاقة، ودموع تبيع الحلوى في أحّد تقاطعات الطرق تتعرض لأذى يوميّ ولكنّها كانت على وعي من نفسها فهي لم تسمح للمشاكسين بالاقتراب منها… تقول: (سأكون أكثر شجاعة ،سأفكر ،سألقنهم درسا…)ص51، فهي تصرّ على تأكيد وجودها الموجب وهي تعمل وسط حيّز مكانيّ مليء بالإشكالات ،والإغراءات التي تأخذ بالفتاة غير الواعية إلى منحدر أخلاقيّ خطير.
ويحلو للساردة أن تكشف عن زيف ذكوريّ واضح عند الذين ( يديرون وجوههم عندما تتحدّث امرأة تعرف ما تريد ،ويتأمّلونها إعجابا كلما كشفت مساحة أكبر من جسدها!) .ص52،فالساردة في موقفها السابق أرادت أن تكشف عن مقدار الأزمة النفسيّة التي يعيشها قسم من الرجال ،وهم يزدوجون في مواقفهم اليوميّة المعلنة التي يمكن ردّها إلى ثقافة تزدري المرأة ،وتنظر إليها بوصفها كائنا جماليّا تعوزه الثقافة.
وللنسويّة أن تُظهر في الرواية نقدا لسلطة (الأخ) الراكسة في الأذهان :(لا أفهم كيف يمنحني أخي فاضل هدية إلى الشيخ دهشان؟ هذا الرجل صاحب الشوارب الطويلة ،شواربه تشبه مكنسة عمي قاسم وهو يكنس الشوارع ،ولحيته تشبه صوف الخروف المبلول ،وتبث روائح نتنة تنقلب في معدتي ،هل أنا لعبة يلعبون بها ؟) ص60.
فالصورة السابقة تستعيد الطبيعة الذكوريّة لنظام البطرياركيّة الذي يجمع في قبضته مركزيّة (السلطة) التي تدير شؤون النساء والعائلة ،وقد توارثها الأخ ليكون أكثر تعسّفا في إدارتها من وارثه حين يلغي حق الإختيار زاجّا أخته في دوّامة الخوف والكراهية .
ويجد المتلقي رغبة عند كثير من نساء الرواية وفتياتها للكشف عن التفكير النسويّ الناقد لسطوة الرجل على المرأة تقول:(فهيمة) :(أحتاج رجلا يسمعني..) ص79 ،وقولها يحمل إشارة تحيل على أنّ الرجل الذي تريد وصفه لا يملك من حواسّه الخمس سوى حاسة مغايرة هي حاسة التسلّط الجائر على كلّ شيء بدءا من الرأي ،وانتهاء بالممارسة الحياتيّة ذات الطابع الانسانيّ البهيج.
وفي الرواية صورة الأمّ التي صنعت عائلة ناجحة على الرغم من المثبّطات الكثيرة ص84 ،و ص220، و ص 221، وهي صورة لا تنفصل عن المشهد الصحيح الذي يجب أن تسلكه المرأة في ظل وضع اقتصادي يفرض سلطته على الجميع .
وتريد الساردة وهي في معرض الانتقاد تخليص الجسد النسوي ممّا لحق به من أوهام وتوصيفات ،وهي تدرك أنّ جسد المرأة ليس سلعة يتداولها الإعلام وقت ما يشاء كما هو ظاهر في كثير من وسائل الاتصال المختلفة فـ(الإعلام يجذبه نوع خاص من النساء الحمقاوات ،يرفعهنّ فوق النجوم ليجمّل بهنّ شراسة الأخبار الدمويّة، ثم يضحك على سقوطهنّ المخجل في الفاصل الإعلاني) ص151.
واضح من النص السابق أنّ الساردة كانت على وعي بالفكر النسويّ الذي يريد أن يرتقي بالجسد الذي لحقته تهمة الدنس إلى مصاف الروح التي تمتلك سرّ قدسيّتها ،وأنّها كانت على وعي تام بالصياغات الإعلاميّة التي ترغب في تمويه الحقائق من خلال السكوت على بشاعة أخبار الحروب ،والقتل المنظّم ،واستعراض أجساد الفاتنات وعريهنّ الذي يجذب الرجال ،وكأنّ النساء خلقن لتجميل الحياة ،وتسويق المتع فحسب.
إنّ الرواية من خلال الصفحات السابقة كانت قد حفرت في أعماق مجتمعيّة بدت للمتلقي قريبة من الحياة ،فقد انشغلت بحوارها القصديّ الذي يتساوق ومضامين الأدب النسويّ الذي يمتلك شروط التفكير النسوي ،ووسائل انتاجه , لكنّها-الرواية- في صفحات أخر بدت من خلال مواقف بعض الشخصيّات تتراجع بعض الشيء نحو (النسائيّة) التي ترتضي فيها المرأة أن تحتلّ موقعا ثانويّا في المجتمع الذكوري بسبب جنسها( 11)،معبّرة عن عجز الشخصيّات، أو الخطاب عن تفكيك المقولات الرافضة لأثر المرأة المغاير ، بمعنى أنّ العجز أشار إلى حالة من حالات القبول، أو الرضا الذي قاد إلى إحداث شرخ كبير في الوعي النسويّ الخاص بتلك الشخصيّات.
لقد أسهم عجز المرأة في انكسار حدّة التفكير النسوي بمفهومه القائم على الضديّة التي بدت فيها الساردة في وضع ضعيف بدءا من هدوء خطواتها، وشعورها بالحاجة الى الآخر:(هدأت خطواتي وأحسست بعدم اكتمالي ،نصفي الذي يحميني غائب ،وأنا في عالم كل ما فيه يتهددني ،لو كان حماري هنا لرفس الدكتور فتح الله خميس رفسة افقدته ذكورته إلى الأبد)ص 54.
النصّ السابق يشير صراحة الى درجة شعور المرأة بالنقص جرّاء ابتعادها عن (سلطة) هي بحاجة إلى حمايتها أعني: سلطة الرجل التي هيّأتها المجتمعات الأبويّة بوصفها وظيفة تهدف إلى حماية المرأة ،فهي من دونها كيان يتجاذبه النقص، والاضمحلال الذي تفترضه وساوس المرأة الضعيفة ليس غير، ويشير النصّ في نهايته إلى وضوح فكرة الانتقام غير المسوّغة مقرونة بمحو عضو الذكورة انتقاما.
ويجد متلقي الرواية انكسارا رمزيّا آخر لنسق النسويّة العالي في وصف الرواية حين يقرأ:(عبر الديك الشارع ،تبعته ثلاث دجاجات ،تقدم الديك ؟أولا ،توقف عند الرصيف نظر نحو الشارع ،انتظر دور الدجاجات في العبور ، عبرت الدجاجات بسلام ،ثم أدار الديك ظهره ،واصل الطريق ،تتبعه الدجاجات بهدوء….)ص55.
عن أيّ ديك تتحدّث الساردة ،وعن أيّة دجاجات؟ ،لا شكّ في أنّ رمزيّة التعبير هي التي دفعت الساردة لأن تصف الرجل بالديك على سبيل الإجراء الاستعاريّ التصريحيّ الذي يعمد فيه المستعير إلى حذف المشبّه وابقاء المشبّه به بدعوى دخول المشبه في جنس المشبّه به ،وهذا يعني أنّ الديك يمكن أن تقترن صورته تأويلا بصورة الرجل الذي يحمل غطرسة الديك على مجموعة من الدجاجات!! ،والدجاجة أي النساء الشبيهات بالدجاجة في خمولها ،ومتابعتها للديك، فالتعبير بعامّة يحيل على دلالة تقدّم الرجل على النساء وإن في عبور الشارع ،وهو ما يعطي فكرة عن تدني التفكير النسائي، وانكسار نسقه عند مجموعة من النساء اللائي يقبلن بلعب دور الحريم في الحياة.
وتجد في الرواية إشارات كثيرة إلى تنازل المرأة عن أفكارها فـ(فهيمة) التي ما فتئت تنادي بأفكارها التنويريّة النسويّة:(تزوجت… بطريقة تقليدية ،وتنازلت عن أفكارها) ص79،وليس في الزواج إشكال فهو عقد مقدس بين اثنين رضيا أن يعيشا تحت سقف واحد لكنّ الإشكال في تحوّل العقد إلى مؤسّسة تسلب المرأة وجودها وشخصيّتها وهي قبل الزواج كانت تتمتع بوعي تنويريّ خاص, فتحت ضغط الحاجة ، والرضا ،والحرص على الوئام تتنازل الزوجة عن أفكارها لتسمح للزوج بالتسلط على أفكارها ،وسلوكها ليتمّ في ما بعد تجريدها من حضورها المتميّز ليصبح جزءا من حاجة يتذكّرها الزوج وقت ما يشاء .
وقد تجد المرأة نفسها في وضع السقوط في فخ الذكورة الذي لا يرحم حين تفقد قدرتها على الإنجاب:(هل ستبقى تحبني…وأنا امرأة بلا رحم؟ …استأصلوه …سأشبه رجلا مخصيّا!) ص99.
لقد وصل إحساس (ليلى) جراء فقدانها رحم الولادة إلى التشكيك بطبيعة جنسها البشري: (بدأت أشكّ بنوعي هل أنا اليوم ذكر أم أنثى ، أم جنس جديد من المخلوقات؟) ص101، والمرأة بلا رحم عدوتها المرأة بلا شكّ ص113،لكنّ المرأة العدوّة لا يمكن أن تنحدر من سلالة حواء المحبّة لجنسها إنّما هي نمط من النساء الشاذ الذي يتواطأ كما تقول المفكرة النسوية (سيمون دي بوفوار) مع الثقافة الذكورية على تكريس منهج التبعيّة لهنّ(112 ).
ممّا لا شكّ فيه أنّ شعور قسم من النساء بأنّ فكرة الإنجاب عند المرأة قضيّة وجوديّة تتجاوز الجماليّة الحسيّة التي تغطي ظاهر الجسد إلى فكرة أخرى تعلي من شأن المرأة نفسها لاسيّما تلك التي تعيش في المجتمعات الشرقيّة التي تنظر إلى الإنجاب على أنّه ضرورة تتمتع المرأة بوساطتها بحق الوجود، وموازاة فعل الآخر! أقول إنّ ذلك الشعور يقود إلى مزيد من الهزائم التي لا دخل للمرأة في نشوئها ،أو انتشارها.
والجسد المعطّل الذي وصفته الرواية بأنّه بلا رحم شأنه شأن كلّ الأجساد الباحثة عن أدوارها الحقيقيّة يحاول أن يدافع عن وضعه الشائك من خلال لجوئه الى بعض الإجراءات التي تهدف إلى ترميم صورة كينونته الناقصة بإنعاش الآمال في فكرة تحقق الإنجاب للّحاق وظيفيّاً بعالم الأجساد المنتجة المشبعة برائحة التفوق التي تتجاوز تحديات الذكورة للعطل الإنساني في الجسد النسوي تلك التي تُخرج أجساد الكثيرات من مركزيّة نسويّة منتجة لتدخلها في مركزيّة التهميش التي تحط من قدر المرأة وتتعامل معها بوصفها كائنا منتجا للولادات فحسب(13 ).
هذه الصورة تدخل في باب انكسار الوعي النسوي وضعفه في الرواية، فتحت ضغط اشكالات الحياة أثارت الرواية سؤال الهوية بمفهومه البايلوجي حين قدّمت (ليلى) وقد فقدت القدرة على تمييز نفسها أهي رجل ،أم امرأة وهي تعلم أنّ المجتمع الذكوري يميّز بين الجنسين بمعيار بايلوجي لا علاقة له بالخصائص النفسيّة والثقافية.
وتظهر صورة المرأة التي هي ضدّ المرأة مرّة أخرى في الرواية حين تنهال العصي من أيدي نساء على رؤوس نساء أخريات يختلفن معهن في الرأي ص175، فهذا الصراع يؤكّد بجلاء انقسام المرأة على نفسها، واندفاع قسم منهنّ باتجاه الثقافة التي تلغي الجوهر التنويري للمرأة لتعدّها كيانا مسخا وتابعا ذليلا للآخر, وهو ما استطاعت الرواية تمثيله ليس بقصد الإيمان به بل لتكشف أنساقه، وتفكّك نظم صوغه بالإحالة على مصادره المعلنة في الرواية، أو المغيّبة في ما هو مسكوت عنه ،وهذا ما يظهر أيضا في مواقف أخرى في الرواية تبدو المرأة فيها غير مطالبة بإرثها ص147،ليس لغنى في حياتها ،إنّما لخوف مستدام من الوريث الآخر، أو في وصف الرواية للجوء النساء إلى الشعوذة حلّا لإشكالات قديمة ص179.
وبعد: فإنّ حضور النسويّة في الرواية جاء تلبية لحاجة اجتماعيّة ترى ضرورة ايقاف الممارسات التسلّطيّة التي قتلت في المرأة روح الإبداع ،وجعلت من كيانها الإنساني علامة مجرّدة من الفاعليّة ،فضلا عن أنّ (النسويّة) مصطلح جلبته كتابات ما بعد الحداثة بوصفه معطى ثقافيا واجه الكثير من الرؤى والتصوّرات التي أثبت الزمن خذلانها للحياة.
أمّا جملة الانكسارات التي أصابت جوهر الفكر النسوي في الرواية فهي تمثّلات منتزعة من سطح المجتمع وقعره راكسة ،أو ظاهرة تفور فيها روائح نتنة ،وأخرى سالبة، وحاصل الجمع بين الوعي وانكساره يعطي دليلا واضحا على حضور الروائيّة العراقيّة في ميدان الكتابة التي تترصّد عن قرب عمود المجتمع بعين محايدة لكي تسهم في اكتمال بنائه.
الإحالات:
1- ينظر: أنثوية العلم: العلم من منظور الفلسفة النسوية :ليندا جين شيفرد :ترجمة د. يمنى طريف الخولي :علم المعرفة : الكويت 2004: 11.
2- ينظر: مدخل في نظرية النقد النسوي وما بعد النسوية قراءة في سفر التكوين النسائي: حفناوي بعلي: الدار العربية للعلوم ناشرون: منشورات الاختلاف:2009: 30 وما بعدها.
3- ينظر: موسوعة السرد العربي : د. عبد الله ابراهيم: المؤسسة العربية للدراسات والنشر: بيروت: طبعة موسعة : 2008 : 311.
4- أقدم لك الحركة النسوية : سوزان الس واخريات: ترجمة جمال الجزيري : المجلس الاعلى للثقافة في القاهرة : ط1: 2005: 15.
5- للمزيد ينظر: الخطاب الروائي النسوي العراقي (دراسة في التمثيل النسوي): المؤسسة العربية للدراسات والنشر: بيروت :2012.
6- صدرت عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر: بيروت : 2015.
7- ينظر: الخطاب الروائي النسوي العراقي: 241.
8- ينظر: الأدب والنسوية: قراءة نسوية في تاريخ العلاقة بين الأدب والمرأة: بام موريس: ترجمة سهام عبد السلام، مراجعة وتقديم :سحر صبحي عبد الحليم: لمجلس الأعلى للثقافة القاهرة : 37.
9- : الجسد في الأدب النسوي: منتهى طارق المهناوي: مجلة الأقلام ع3 :2010: 49.
10- هو في الأصل كتاب من محاضرتين ألقتهما (وولف) بعنوان النساء والرواية، للمزيد عن غرفة فرجينيا وولف ينظر: غرفة فرجينيا وولف: دراسة في كتابة النساء: رضا الظاهر: دار المدى للثقافة والنشر2001 .
11- ينظر: الخطاب الروائي النسوي العراقي:18 وينظر مرجعه.
12- ينظر: النسوية وما بعد النسوية: سارة جامبل :ترجمة أحمد الشامي : المجلس الاعلى للثقافة القاهرة : ط1: 2002 :279.
13- ايديولوجيا الجسد المعطّل :د.فاضل عبود التميمي :مجلة إمضاء العدد الاوّل : 2012: 84 .