تتصارع في داخل الفنان، أثناء العملية الإبداعية، أكثر من قوة تسعى كلٌّ منها للبروز وأن تكون ذات التأثير الأكبر على مجرى الفعل الإبداعي. فمن جهة، تكون العاطفة الجياشة والفكر المحلق والرغبة في خلق عوالم ينسجها الخيال، ولكن ثمة، من جهة أخرى، قوة تحد من فورة الطموح لدى الفنان وتكبح جماحه متمثلة في صرامة المنطق الفني وحدود الإمكانيات المتاحة لتوظيف تلك الرغبات والخيالات.
المحور الخيالي والمحور الواقعي:
من الممكن تفريع التفكير الإبداعي في محورين هما: “المحور الخيالي” Emagination و”المحور الواقعي” Realistic .
يعد المحور الخيالي نتاج الوظيفة اللاشعورية للشخصية، ويمثل التدفق الحر للأفكار والأخيلة، وفيه يطرح الفنان فرضيات كثيرة ومقارنات وتخيلات وحالات ((فانتازية)) ويجاهد غالباً، في الوصول إلى أهداف ليست واضحة ومفهومة تماماً، أما المحور الواقعي فيحكمه المنطق والمعايير العلمية والسببية، ويمثل التنظيم المتقن والسيطرة على البيانات والمعلومات وتوظيف المهارات وتطبيق التكنيكات؛ فالتفكير الإبداعي هو حصيلة التفاعل بين خبرة الخيالي والواقعي، فضلا عن حالات التفاعل بين الإدراك الأولي أي التجارب الحياتية الأولى التي يمر بها الإنسان، والإدراك الثانوي، ويقصد به الخبرة التي اكتسبها الفرد من خلال القراءة والتعلم المدرسي… الخ( 1). ولا يمكن اعتماد هذين المحورين كمرحلتين متمايزتين، من حيث التتابع الزمني من مراحل العملية الإبداعية، لأنهما، في الواقع، متداخلان وفي علاقة ديالكتيكية مع بعضهما ويغني أحدهما الآخر.
آلية العملية الإبداعية :
يرى “يوسف اسعد ميخائيل”( 2) أن الأصل في العمل الفني أنَّ الفنان المبدع يعيش تجربة شعورية تتملك وجدانه فيختبر حالة توتر ناجم عن رغبة غير متحققة يكتنفها خزينا كبيرا من الطاقة الكامنة في حاجة لموضوع لتتشكل في صيغة ما. ونشوء الرغبة وما يصحبها من توتر في نفس المبدع تمثل المرحلة الأولى من العمل الفني. هذه العاطفة الجياشة لابد لها من موضوع تلتف حوله، فيوظفه الفنان ليعرض من خلاله مشاعره وأفكاره وصوره الخيالية . هنا تبدأ المرحلة الثانية من العمل الفني متمثلة في سعي الفنان إلى موضعة تلك الرغبة لتجليتها وجعلها أكثر وضوحا و تحديدا ، فيتجه إلى تجسيدها بشكل محسوس من خلال موضوع يختاره يركز فيه طاقته الإبداعية . والى أن يعثر الفنان على الموضوع الملائم فإنه يبقى في حالة توتر عاطفي وفكري.
وبعد أن يعثر على موضوعه، فان الفنان، في البدء، لا يمتلك خطة مناسبة للعمل ولم يتوضح بعد المنهج الذي سيسلكه لإنجاز عمله. لكنه سيجد نفسه أمام منهجين: إما المنهج “التفصيلي” وإما المنهج “التتابعي”: إما يقوم بوضع تصميم متكامل لعمله الفني، ويأخذ في تحديد خطوات العمل التي سوف يمر بها في أثناء تنفيذ عمله الفني خطوة فخطوة حتى نهاية المطاف ، وهذا هو المنهج التفصيلي.أو يقوم بالخطوة الأولى ثم يسير وراء الخطوات خطوة بعد أخرى بغير أن يجهد نفسه بالتنبؤ عما عسى أن تكون عليه جميع خطوات العمل،وهذا هو المنهج التتابعي . وعندما يختار أحد المنهجين فان الفنان يكون قد مر بالمرحلة الثالثة في عمله الفني. وبعد الاختيار تبدأ المرحلة الرابعة، أو ما يسمى بمرحلة “التجريب” أو مرحلة ما قبل الانطلاق في العمل، والمهم هنا العثور على نقطة البدء، التي ستكون الأساس الذي يبتنى عليه العمل الفني مما له بالغ الأثر في تحديد تفرعات العمل المستقبلية والاتجاهات التي يتطور إليها لاحقا.
ولا تتعلق مرحلة التجريب واختيار نقطة البدء بالشكل الذي سيؤول إليه العمل الفني، بل إن الفنان في هذه الفترة لا يتوقف عن التفكير في مضمونه الفني الذي يرغب أن يكون جديراً ومتميزاً، فيبقى في حالة أخذ ورد حتى يصل إلى المضمون الذي يرغبه وتحقيق التلاؤم والانسجام بين الشكل والمضمون. وفي هذا تتمثل المرحلة الخامسة التي تتعلق بالعمل الفني برمته . فسينمو الشكل والمضمون بطريقة ديالكتيكية يؤثر كل منهما في صاحبه و يتأثر به حتى يتحدان اتحادا عضويا مما يؤدي إلى نضج العمل. هذا ما يذهب إليه “كولردج”، بحسب نظريته في الخيال. فيرى أن الخيال هو الذي يبدع الشكل العضوي ، وهذا الشكل العضوي ينبع من داخل العمل الفني، كما أنه خاضع لتجربة الشاعر لا لشيء آخر يفرض عليه من الخارج. ومن هنا أصبح الشكل الخارجي في الشعر ليس بذي قيمة في ذاته، إن قيمته في اتحاده إتحاداً عضوياً مع سائر العناصر المكونة للعمل الفني. واعتماد كل جـزء من أجزاء العمل الفني اعتماداً كلياً على الأجزاء الأخرى هو معيار جودة الشكل عنده(3 ). فالشكل الأصيل هو ما يمكننا من استشفاف مضمونه من خلاله، ولا يمكن الاعتداد بتلك النظرة القاصرة التي ترى في الشكل إطارا جاهزا أو قالبا لاحتواء أي مضمون مهما كان نوعه، بل إن الشكل صيرورة ديناميكية متغيرة ونامية تبعا لتغير المضمون وتطوره فيأتي متناغما مع المضمون بلا قسر ولا إكراه.
بعد ذلك تأتي المرحلة السادسة حيث يستمر الفنان في إكمال عمله الفني ويخرجه كاملاً بعد تقييمه ومراجعته وتنقيحه.
منشأ فكرة المراحل:
لقد تصدى علماء النفس لتحديد المراحل التي يمر بها الفعل الإبداعي ودراستها كلاً على حدة لغرض الوصف الدقيق لعناصر العملية الإبداعية وتحقيق الفهم الكامل لها. وفكرة المراحل هذه نشأت عند علماء النفس من منطلق اعتقادهم بان الشخصية الإنسانية حالة حركية متطورة تشكلها مجموعة من المتغيرات المتفاعلة فيما بينها ، مما أدى بالعلماء إلى الاعتقاد بأن هنالك مراحل أو خطوات تمر بها العملية الإبداعية.
يبدو أن عناصر هذا التقسيم ليس لها وجود فعلي، فهذا “فيناك” Vinacke قد استنتج من تقارير كثير من الكتاب والعلماء المبدعين ضرورة النظر إلى التفكير المبدع بوصفه فاعليات ديناميكية متفاعلة أكثر منه مراحل متميزة. لكن التقسيم إلى مراحل، وإنْ كان مصطنعاً، يسهل دراسة الإبداع حين مواجهة كل عملية على حدة.
يعد ما جاء به “جراهام والاس” من تقسيم لمراحل العملية الإبداعية الأكثر قبولاً عند الفنانين والكثيرين من علماء النفس. ينبه “والاس”، بدءاً، إلى أمرين جوهريين،(( الأول: إن العملية الإبداعية تمر بمراحل، وإن النتاج الفني هو ليس وليد لحظة التجلي، والثاني: إن الإلهام(*1) هو ليس كل العملية الإبداعية، بل هو مرحلة واحدة بين عدة مراحل)) ( 4). ويرى أن العملية الإبداعية تمر بأربع مراحل هي: 1) الإعداد والتحضير [أو مرحلة التهيؤ والإعداد] 2) البزوغ [أو مرحلة الاختمار]، 3) الاستبصار “الحدس” [أو مرحلة الإلهام]، 4) التحقيق.
1= المرحلة الأولى: الإعداد والتحضير أو مرحلة التهيؤ والإعداد Preparation: في هذه المرحلة يسعى المبدع للحصول على المعلومات والخبرة التي تمكنه من التعامل مع الموضوع ودراسة المشكلة من جميع نواحيها، وكذلك الإطلاع على ما كتب من بحوث بخصوص المشكلة. ومرحلة الإعداد مرحلة هامة لأن من المهم بمكان إدراك المشكلة في سياقها الحقيقي ومعرفة مواردها ومصادرها والتبصر بموقعها المطابق الذي تشغله في سلم الوجود .فهكذا إجراءات تساعد على تشخيص السبب الحقيقي للإشكال ، وقد قيل أن التشخيص نصف العلاج وهو مما يساعد على حدوث التفكير الإبداعي وبعكسه قد يتعذر تحقيق الحلول الإبتكارية .
يعمل المبدع في هذه المرحلة على التحضير الواعي للمسألة، وهذا التحضير يكون عاماً وخاصاً. ويتعلق التحضير العام بالإلمام بمتطلبات المجال العلمي الذي يمتهنه الباحث، وأما التحضير الخاص فيشمل قضية معينة بالذات يسعى الباحث لحلها ، وهو ما يتطلب الالتزام بشروط البحث العلمي من جهة الإعداد لهذه المسالة المتمثل بالإطلاع والإلمام بكل ماله صلة بمشكلة البحث من كتابات ودراسات وكذلك الاستئناس بآراء الخبراء وذوي الشأن بهذا الاختصاص الدقيق مع توثيق تلك المعلومات وتهيأة مستلزمات البحث الأخرى. بالإمكان، إجمالاً، تحديد الوظائف الأساسية لهذه المرحلة بالنقاط الآتية: ((أ- خلق الاتجاه الإبداعي، وبلورة الشروط الأولية للإبداع. ب- تحديد جانب معين والاهتمام به. جـ- التهيؤ لعملية جمع المعلومات والبيانات الملائمة واستيعابها. د- العمل المكثف والموجه لتأييد الفكرة وإثرائها)) ( 5).
2- المرحلة الثانية: البزوغ أو “التفريخ” [مرحلة الاختمار Incubation]: وتتميز هذه المرحلة بما يبذله المبـدع من جهود لحل المشكلة ، وتتجلى فيها نوعية الصعوبات التي يواجهها المبدع وتمنعه من التقدم في عمله مما يتوجب عليه حلها والتغلب عليها. وفي هذه المرحلة يكون الفنان منشغلا بصورة شعورية ولاشعورية بدراسة المشكلة فتأخذ بالتخمر والتفريخ وتكتمل بالوصول إلى مرحلة الإشراق..
ومرحلة التفريخ هذه قد تطول وقد تقصر، والمبدع قد ينصرف عن موضوعه لتصريف أموره وممارسة حياته الاعتيادية، ولا يعني هذا عدم الانشغال كلياً بالموضوع لأن الحل يختمر في لا شعور المبدع وان انصرف ظاهرياً عن المشكلة، ولكن لهذا الانشغال المؤقت عن المشكلة فائدته لأنه ((يتيح للشخص أن ينظر إليها حين يعود لها بمنظار جديد وفي مجال جديد تبرز فيه بعض العناصر التي كانت قليلة الأهمية فيصبح لها الفضل في حل المشكلة)) ( 6).
ويطلق علماء النفس على هذه الظاهرة، ظاهرة “التحول الفكري” Serendipity ويرون أنها تسيطر على كثير من الأعمال الأدبية، وفحوى هذه الظاهرة ((أن حل المشكلة لا يأتي إلا عندما يبتعد الذهن عن التركيز كثيراً في المشكلة، ولو إرادياً – ويتم ذلك بأن يشغل الشخص نفسه بأي عمل أو نشاط مختلف، أو أن يستلقي للإسترخاء والراحة)) ( 7). ويدعوها البعض بومضة الإبداع والحدس. إذ يرى بعض الدارسين لعملية الإبداع أن هناك لحظة معينة تسبق مرحلة الإلهام يسمونها ومضة الإبداع Creative Flash، وهي نوع من الحدس يصل المبدع بواسطته إلى الاستبصار بأكثر جوانب مشكلته غموضاً. وتنتج هذه اللحظة الباهرة التي يتدفق الإبداع بعدها إلى المبدع من انشغاله الشديد بموضوعه رغم أن الظروف التي تحدث فيها تبدو كما لو كانت عديمة الصلة بموضوع الإبداع، والمثيرات التي أحدثتها قد تكون تافهة. والأمثلة على ذلك كثيرة في تاريخ الإبداع والمبدعين، ونستطيع أن نذكر هنا أن واقعه مشاهدة نيوتن للتفاحة وهي تسقط من الشجرة إلى الأرض هي التي أثارت عنده ومضة الإبداع التي ألهمته نظرية الجاذبية.
3- المرحلة الثالثة: الاستبصار “الحدس” insight أو مرحلة الإلهام: وتسمى بالإشراق، وتعني هذه المرحلة ((الوصول إلى الذروة في العملية الإبداعية، حيث تظهر الفكرة فجأة وتبدو المادة أو الفكرة كأنها قد نظمت تلقائياً دون تخطيط، وبالتالي يتجلى واضحاً كل ما كان غامضاً ومبهماً.)) ( 8). ويتجلى في هذه المرحلة الأثر الحاسم للـعقل في عملية الإبداع. وهي وثيقة الصلة بفكرة الإلهام التي تحدث عنها كثير من
الفنانين والعلماء، حيث تنبثق فيها اللحظة التي تولد فيها الفكرة الجديدة، أي ومضة الإبداع التي تؤدي لحل المشكلة عند العالم أو تبلور الفكرة الهامة للعمل عند الفنان.
ومفهوم الإلهام هنا، يختلف عن معناه الفلسفي، فالإلهام، بنظر علماء النفس المعاصرين( 9)، عملية عقلية كأي عملية عقلية أخرى يقوم بها دماغ الإنسان تحدث بعد تهيئة وإعداد للفكرة. ثم احتضان واختمار لها، فتنتظم متغيرات تلك الفكرة في إطار واضح، وإدراك للعلاقات القائمة بينها والقواعد التي تحكمها وتوحدها في سياق جديد. فيكون العمل الإبداعي. ولأن هذا العمل لابد أن يكتمل في لحظة زمنية، فقد أطلق على هذه اللحظة، لحظة التجلي، التنوير، الإشراق، أو لحظة الإلهام، التي اعتبرها بعض الفنانين – من الشعراء بشكل خاص – إنها تحدث فجأة، وهو تصور خاطئ حين يتحدد زمن الإبداع بهذه اللحظة وبفضل المعاناة الكبيرة التي يمر بها الشخص المبدع من خلال مرحلتي الإعداد والاختمار. فالإبداع كما يرى هنري ايرنج: ليس مجرد لمحة حدس مفردة، إنه عادة يتطلب تحليلاً دائماً لعزل العوامل العامة من العوامل العارضة.
4- المرحلة الرابعة: “التحقيق” Verification Revision: وهي مرحلة التقييم والتنقيح والتقويم والصقل والتهذيب. وهي المرحلة الأخيرة من مراحل العملية الإبداعية، ويتم فيها التحقق من صحة الفكرة من خلال التجريب في العلم وتفريع الفكرة العامة وتنظيمها في الفن. وهذه المرحلة قد تطول مدتها أو تقصر، حيث يعمل الفنان خلالها للوصول بعمله الفني إلى أفضل حالة ممكنة، وهو أمر يتوقف على خصائصه الشخصية وقدرته العقلية .
هوامش :
( 1) الإبداع في الفن: ص88.
( 2) ينظر:سيكولوجية الابداع: ص ص 59 ـ 62
( 3) نظر: فلسفة الفن في الفكر المعاصر – د. زكريا إبراهيم – مكتبة مصر – د.ط، د.ت: ص157.
(*1) الهام: مدرك من الباطن وقيل الالهام ما وقع في القلب من علم وهو يدعو إلى العمل من غير استدلال بآية ولا نظر في حجة وهو ليس بحجة عند العلماء الا عند الصوفيين. ((كتاب التعريفات – الشريف علي بن محمد الجرجاني – دار الكتب العلمية – بيروت، لبنان – ط3، 1988: ص 34)).
– وتقرر السيكولوجية بأن “الالهام” أو الابداع، ينبثق عن اللاوعي، وهو نتيجة مكبوتات انفعالية، تظهر على السطح، وعبر قناة ابداعية ما. ((معجم المصطلحات الأدبية المعاصرة: ص39)).
( 4) الابداع في الفن: ص80.
( 5) آفاق جديدة في دراسة الإبداع – عبد الستار إبراهيم – الكويت، 1978، د.ط: ص51.
( 6) الإبداع في الفن والعلم:ص37 .
(7 ) آفاق جديدة في دراسة الإبداع: ص52.
(8 ) الإبداع العام والخاص: ص40.
(9 ) الابداع في الفن: ص 83.