د أنور غني الموسوي : التعبيرية و تجليات النص في مجموعة ( فكرة اليد الواحدة ) للشاعر عبود الجابري

anwar ghani almosawiما إن تقرأ أيّ مقطع شعري للشاعر عبود الجابري الا و أخذك النص الى عالمه من الوهلة الاولى ، و أشعرك انه يخبرك كل شيء و يوصلك الى بعيد ، و في الوقت ذاته تشعر انك قطعت مسافات من الدلالة و الابحار الفكري لاجل اضاءة انوار المعنى و الفكرة في النفس .
ان هذا الشعور الوجداني و الجمالي متأت من حقيقة عميقة ، هي ان لغة عبود الجابري تعبيرية بعمق ، فكلماته و بناءاته تحكي و تعبر من جهات عدة و من مستويات نصية مختلفة ، خالقة عالما من الثراء و السعة و القرب ، حيث يتجلى النص و اللغة و المؤلف بقوة ، هذا التجلي ناتج عن عمق و تكامل تجربة الشاعر .
في مجموعته الشعرية ( فكرة اليد الواحدة ) اصدار داء فضاءات ( 2014 عمان ) ، نجد تلك الملامح التعبيرية و التجليات الجمالية لجهات الابداع اعني اللغة و النص و المؤلف ظاهرة ، مما يجعل القارئ يبحر في فضاء من التعابير الجميلة الاخاذة و العميقة ببناءات و دلالات و نداءات و رسالات فذة .
ان تجربة الشاعر عبود الجابري المتكاملة تحقق تكاملا في التجليات الابداعية في النص ، و تحقق السردية التعبيرية المقوم الجوهري لقصيدة النثر .
1- تجليات اللغة و الانثيالات القريبة ( و حقول المعنى )

عكس ما يروج له الاسلوبيون من ( الاختيار ) فان ظاهرة تجلي اللغة و طغاينها و بروز ملامح الانثيال لا تغادر نصا و لا كتابة حيث يتبين الترابط الحقلي و يبرز ضعف الاختيار و ارادة المؤلف ، و حينما تكون تجربة المؤلف كبيرة و مخزونه اللغوي كبيرا تكون الانثيالات عالية المستوى لا تنتقل من موضع لغوي الا الى اخر ارقى منه . هذا المستوى من اللغة و تجلياتها يبرز جليا عند عبود الجابري ففي قصيدة ( استدراك خاسر )

للولد وجهة نظر اخرى
فيما يفعل ابوه
كأن يموت قبل ان يعود من المدرسة
و عندما يخبره ان الحضان
الذي يركبه في الصورة
كان مصابا في ساقه
و البندقية المعلق على الكتف
كانت لعبة في مسابقات الحروب
abod aljabiriو انه تزوج
ليحسن العاشقون به الظن
و ليكون للزوجة
وجهة نظر الولد ذاتها
فيما يفعل زوجها
مع تعديل بسيط
على الاماكن
و الازمنة .
يبرز التجلي اللغوي و قاهرية الانثيال في مواطن الانتقال بين الصور و الفكر ، حيث ان هذه هي المناطق التي يضعف فيها اختيار المؤلف و يترك لخياله الابحار لالتقاط المتمم النصي . في هذا النص نجد انتقالات كان للانيثال اثر فيها (للولد وجهة نظر اخرى \ فيما يفعل ابوه \كأن يموت قبل ان يعود من المدرسة ) ثم ينتقل الكاتب ( و عندما يخبره ان الحضان \الذي يركبه في الصورة \كان مصابا في ساقه ) ثم ( و البندقية المعلق على الكتف \ كانت لعبة في مسابقات الحروب ) ، في هذه المركبات الثلاثة نجد ترابطا واضحا بين حقول معاني الوحدات الاساسية فيها فمن الاب و الابن ثم الى الحصان الذي هو رفيق العائلة ثم الى البندقية التي هي رفيق الحصان . و بعد هذا البناء تحضر الزوجة بشكل طبيعي في النص .

2- تجليات النص و تلوين الكلمات و ( التوظيفات و احضار القارئ )

التوظيفات و تلوين الكلمات ، هو العمل الاهم و الابرز و الدلالة الاعظم على شاعرية الشاعر و ادبية الاديب ، حيث يسعى النص بفعل عوامل تركيبية معنوية و لفظية و فكرية ان يظهر بابهى و اجمل صورة ، و اقصى درجات الابهار و الادهاش و التاثير .
ونجد هذا العمل الادبي البارز و المؤثر حاضرا في كتابات عبود الجبوري مشيرا الى تجربة ادبية و شعرية ناضجة و متكاملة و معطاء .
في قصيدة ( بلل ) نجد توظيفات و تعبيرات و تجليات نصية اخاذة و مؤثرة و مبهرة
( لست من المطر في شيء
ذلك المطر الذي ينقر في روحي
التي تشبه لوحا من الصفيح )
هذه الصورة الرائعة المليئة بالشعرية و التوظيفات الفذة تتلوها صورة اكثر تعبيرية و قوة
( حاولت ان اتقرب اليه بالبلل
و كثيرا ما عدت
لاجدني مبتلا بك فقط )

ثم يسطر لوحة من البوح العالي مع توظيفات عميقة غير متيسرة عادة لغيره
(اكرهه حين تمضي به الريح
بعيدا عن الحقول
و يغرز رماحه في اسفلت المدن النائمة )
بعدها في لوحة تعبيرية تبحر في اعماق روح الكاتب و تخرج مفردات بمعاني خاصة هو فقط يكتشفها و يعلنها

( و اشفق عليه
من مظلات العاشقين
الذين يتدربون على القبل اليابسة )

ثم بتوظيفات فذة يتجه المؤلف ببوصلة النص و القراءة الى رسالية و قصية ادبية
(و اشتمه عندما
يسير بأثر الدم الى وديان المحو
و يغرق التاريخ
بالسطور البيضاء )
3- تجليات المؤلف و الرسالية الادبية ( الجمالية و الادبية )
اما الرسالية الجمالية فان عبود الجابري يكتب قصيدة النثر النموذجية وفق اكثر متطلباتها حداثة و يعتمد السردية التعبيرية و عمق الفكرة و الصورة و التداولية ، مقتربا بذلك من قصيدة النثر الامريكية ، و بتوليد لمعاني علائقية تغاير المعنى الاساسي : ففي قصيدة ( حوار عائلي )
لا أخطاء نحتفي بها هذا المساء
انت صامتة
وانا
لا رغبة لدي في الكلام
نتطلع الى النافذة
كمن يبحث عن ضوء
في اذيال الستائر
و نحاول ان نجد سببا
لسلام نائم
او حرب مؤجلة
هي ليست هدنة
لكنا نفكر باخطاء
اكثر شراسة
اخطاء تليق بامراة صامتة
تعشق رجلا
لا رغبة لديه في الكلام .kh abod aljabiri 2

من الواضح و بادنى قراءة ان هذا النص له مستويات دلالية متعددة ، منها الظاهري بالحالة القائمة بين اثنين في عائلة ، و منها الرمزي المعبر عن تجارب انسانية و اجتماعية اكثر سعة تتجاوز الظاهر الى كل ما يعم العلاقة الحميمة و الارتباط الوثيق فيشمل المجمتع و القبيلة و افراد الامة بل و العالم ، بفعل مفردات الحرب و السلام .
هذا من جهة و من جهة اخر اهم ان تلك المفرادت التي لها معان اساسية لغوية ، لم تبق على تلك المعاني و ما ترمز اليه ، اذ ان النص البسها معان علائقية جديدة ، خالفت المعنى الاساسي وهذا ما نسميه المعنى النص الخاص في قبال المعنى الاساسي العام ، فالمراة الصامتة و الرجل الذي ليس لديه رغبة في الكلام لم يبقيا على ما لهما من معنى و رمزية عند اهل اللغة بل اكتسبا معان اضافية بفعل النص .
و اما الرسالية الانسانية فان الصوت الانساني ظاهر و بارز في لغته ففي مقدمة مجموعته هذه يفتتحها بقصيدة ( نافلة )

كلانا نسبحُ في نهرٍ واحد

وحين نقتتلُ

فإنَّ العابرين لن يُميِّزوا

لونَ دمكَ من دمي،

سيقولون فحسب:

إنَّ ماءَ النهر أحمر.

فان البوح عال هنا و صوت نداء ، و ادب قضية بدلالة وحدة المصير و الوجود ، و ان العابرين لا يهمه دم من يسقط من ابناء هذا النهر الكبير .
4- السردية التعبيرية
السردية التعبيرية التي هي المقوم و العلامة الاهم على قصيدة النثر الحديثة ، نجدها طاغية و متجلية بقوة في كتابات عبود الجابري ، وهذا مهم جدا و يجعل كتاباته ذات اهمية ، لتمييز شعر قصيدة النثر عن الشعر التصويري في القصيدة الحرة ، و نجد هذه السردية التعبيرية و التي تكون بشكل سرد يقاوم السرد ، لا تجد تجليا واضحا لتقنيات القص في هذا السرد ، حيث يعلو صوت الايحاء و الرمز و النفاذ الى العمق الاني بدل انتظار الحدث الطولي المميز للسرد الحكائي .
نجد ذلك جليا جدا في قصيدة ( لقاء عابر )
لقد دخلنا معا
منجر الخزف الكبير هذا
كنت تتسلى
بتهشيم ما تصل اليه يداك
و كنت سعيدا
بصوت الشظايا
التي يحدثها جنونك

هذا النص المركز جدا ، الذي يحقق عتبات فهم و دلالة آنية عالية و واسعة ، مع انه صيغ بشكل سردي الا انه مع كل تقدم في النص و بناءه تتعالى الرمزية و الايحائية ، و تضعف قوة الحكاية و القص ، و تنبثق الشعرية ، انها الصورة النموذجية لقصيدة النثر .

تعليقات الفيسبوك

شاهد أيضاً

| مهند النابلسي : سينما ارتجالية وشهرة مجانية وشخصيات سطحية:وصف دقيق لتحفة ترفو”الليلة الأمريكية”-1973/الفيلم الفائز باوسكار أفضل فيلم أجنبي لعام:1974 .

*يلعب Truffaut نفسه دور مخرج سينمائي يُدعى Ferrand ، الذي يكافح ضد كل الصعاب لمحاولة …

| عبدالمجيب رحمون : كيف نتواصل بالحكي؟ أو الرواية والحياة عن رواية “عقد المانوليا”

لماذا نقرأ؟ وكيف نقرأ؟ هذان السؤالان الإشكاليان اللذان طرحهما الناقد الأمريكي “هارولد بلوم” لم يكن …

تعليق واحد

  1. ÷نعام كمونة

    تحليل رائع وممتع ياخذنا للأعماق اللغوية المعرفية تسلم الأنامل شكرا لما تكتب

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *