ما إن تقرأ أيّ مقطع شعري للشاعر عبود الجابري الا و أخذك النص الى عالمه من الوهلة الاولى ، و أشعرك انه يخبرك كل شيء و يوصلك الى بعيد ، و في الوقت ذاته تشعر انك قطعت مسافات من الدلالة و الابحار الفكري لاجل اضاءة انوار المعنى و الفكرة في النفس .
ان هذا الشعور الوجداني و الجمالي متأت من حقيقة عميقة ، هي ان لغة عبود الجابري تعبيرية بعمق ، فكلماته و بناءاته تحكي و تعبر من جهات عدة و من مستويات نصية مختلفة ، خالقة عالما من الثراء و السعة و القرب ، حيث يتجلى النص و اللغة و المؤلف بقوة ، هذا التجلي ناتج عن عمق و تكامل تجربة الشاعر .
في مجموعته الشعرية ( فكرة اليد الواحدة ) اصدار داء فضاءات ( 2014 عمان ) ، نجد تلك الملامح التعبيرية و التجليات الجمالية لجهات الابداع اعني اللغة و النص و المؤلف ظاهرة ، مما يجعل القارئ يبحر في فضاء من التعابير الجميلة الاخاذة و العميقة ببناءات و دلالات و نداءات و رسالات فذة .
ان تجربة الشاعر عبود الجابري المتكاملة تحقق تكاملا في التجليات الابداعية في النص ، و تحقق السردية التعبيرية المقوم الجوهري لقصيدة النثر .
1- تجليات اللغة و الانثيالات القريبة ( و حقول المعنى )
عكس ما يروج له الاسلوبيون من ( الاختيار ) فان ظاهرة تجلي اللغة و طغاينها و بروز ملامح الانثيال لا تغادر نصا و لا كتابة حيث يتبين الترابط الحقلي و يبرز ضعف الاختيار و ارادة المؤلف ، و حينما تكون تجربة المؤلف كبيرة و مخزونه اللغوي كبيرا تكون الانثيالات عالية المستوى لا تنتقل من موضع لغوي الا الى اخر ارقى منه . هذا المستوى من اللغة و تجلياتها يبرز جليا عند عبود الجابري ففي قصيدة ( استدراك خاسر )
للولد وجهة نظر اخرى
فيما يفعل ابوه
كأن يموت قبل ان يعود من المدرسة
و عندما يخبره ان الحضان
الذي يركبه في الصورة
كان مصابا في ساقه
و البندقية المعلق على الكتف
كانت لعبة في مسابقات الحروب
و انه تزوج
ليحسن العاشقون به الظن
و ليكون للزوجة
وجهة نظر الولد ذاتها
فيما يفعل زوجها
مع تعديل بسيط
على الاماكن
و الازمنة .
يبرز التجلي اللغوي و قاهرية الانثيال في مواطن الانتقال بين الصور و الفكر ، حيث ان هذه هي المناطق التي يضعف فيها اختيار المؤلف و يترك لخياله الابحار لالتقاط المتمم النصي . في هذا النص نجد انتقالات كان للانيثال اثر فيها (للولد وجهة نظر اخرى \ فيما يفعل ابوه \كأن يموت قبل ان يعود من المدرسة ) ثم ينتقل الكاتب ( و عندما يخبره ان الحضان \الذي يركبه في الصورة \كان مصابا في ساقه ) ثم ( و البندقية المعلق على الكتف \ كانت لعبة في مسابقات الحروب ) ، في هذه المركبات الثلاثة نجد ترابطا واضحا بين حقول معاني الوحدات الاساسية فيها فمن الاب و الابن ثم الى الحصان الذي هو رفيق العائلة ثم الى البندقية التي هي رفيق الحصان . و بعد هذا البناء تحضر الزوجة بشكل طبيعي في النص .
2- تجليات النص و تلوين الكلمات و ( التوظيفات و احضار القارئ )
التوظيفات و تلوين الكلمات ، هو العمل الاهم و الابرز و الدلالة الاعظم على شاعرية الشاعر و ادبية الاديب ، حيث يسعى النص بفعل عوامل تركيبية معنوية و لفظية و فكرية ان يظهر بابهى و اجمل صورة ، و اقصى درجات الابهار و الادهاش و التاثير .
ونجد هذا العمل الادبي البارز و المؤثر حاضرا في كتابات عبود الجبوري مشيرا الى تجربة ادبية و شعرية ناضجة و متكاملة و معطاء .
في قصيدة ( بلل ) نجد توظيفات و تعبيرات و تجليات نصية اخاذة و مؤثرة و مبهرة
( لست من المطر في شيء
ذلك المطر الذي ينقر في روحي
التي تشبه لوحا من الصفيح )
هذه الصورة الرائعة المليئة بالشعرية و التوظيفات الفذة تتلوها صورة اكثر تعبيرية و قوة
( حاولت ان اتقرب اليه بالبلل
و كثيرا ما عدت
لاجدني مبتلا بك فقط )
ثم يسطر لوحة من البوح العالي مع توظيفات عميقة غير متيسرة عادة لغيره
(اكرهه حين تمضي به الريح
بعيدا عن الحقول
و يغرز رماحه في اسفلت المدن النائمة )
بعدها في لوحة تعبيرية تبحر في اعماق روح الكاتب و تخرج مفردات بمعاني خاصة هو فقط يكتشفها و يعلنها
( و اشفق عليه
من مظلات العاشقين
الذين يتدربون على القبل اليابسة )
ثم بتوظيفات فذة يتجه المؤلف ببوصلة النص و القراءة الى رسالية و قصية ادبية
(و اشتمه عندما
يسير بأثر الدم الى وديان المحو
و يغرق التاريخ
بالسطور البيضاء )
3- تجليات المؤلف و الرسالية الادبية ( الجمالية و الادبية )
اما الرسالية الجمالية فان عبود الجابري يكتب قصيدة النثر النموذجية وفق اكثر متطلباتها حداثة و يعتمد السردية التعبيرية و عمق الفكرة و الصورة و التداولية ، مقتربا بذلك من قصيدة النثر الامريكية ، و بتوليد لمعاني علائقية تغاير المعنى الاساسي : ففي قصيدة ( حوار عائلي )
لا أخطاء نحتفي بها هذا المساء
انت صامتة
وانا
لا رغبة لدي في الكلام
نتطلع الى النافذة
كمن يبحث عن ضوء
في اذيال الستائر
و نحاول ان نجد سببا
لسلام نائم
او حرب مؤجلة
هي ليست هدنة
لكنا نفكر باخطاء
اكثر شراسة
اخطاء تليق بامراة صامتة
تعشق رجلا
لا رغبة لديه في الكلام .
من الواضح و بادنى قراءة ان هذا النص له مستويات دلالية متعددة ، منها الظاهري بالحالة القائمة بين اثنين في عائلة ، و منها الرمزي المعبر عن تجارب انسانية و اجتماعية اكثر سعة تتجاوز الظاهر الى كل ما يعم العلاقة الحميمة و الارتباط الوثيق فيشمل المجمتع و القبيلة و افراد الامة بل و العالم ، بفعل مفردات الحرب و السلام .
هذا من جهة و من جهة اخر اهم ان تلك المفرادت التي لها معان اساسية لغوية ، لم تبق على تلك المعاني و ما ترمز اليه ، اذ ان النص البسها معان علائقية جديدة ، خالفت المعنى الاساسي وهذا ما نسميه المعنى النص الخاص في قبال المعنى الاساسي العام ، فالمراة الصامتة و الرجل الذي ليس لديه رغبة في الكلام لم يبقيا على ما لهما من معنى و رمزية عند اهل اللغة بل اكتسبا معان اضافية بفعل النص .
و اما الرسالية الانسانية فان الصوت الانساني ظاهر و بارز في لغته ففي مقدمة مجموعته هذه يفتتحها بقصيدة ( نافلة )
كلانا نسبحُ في نهرٍ واحد
وحين نقتتلُ
فإنَّ العابرين لن يُميِّزوا
لونَ دمكَ من دمي،
سيقولون فحسب:
إنَّ ماءَ النهر أحمر.
فان البوح عال هنا و صوت نداء ، و ادب قضية بدلالة وحدة المصير و الوجود ، و ان العابرين لا يهمه دم من يسقط من ابناء هذا النهر الكبير .
4- السردية التعبيرية
السردية التعبيرية التي هي المقوم و العلامة الاهم على قصيدة النثر الحديثة ، نجدها طاغية و متجلية بقوة في كتابات عبود الجابري ، وهذا مهم جدا و يجعل كتاباته ذات اهمية ، لتمييز شعر قصيدة النثر عن الشعر التصويري في القصيدة الحرة ، و نجد هذه السردية التعبيرية و التي تكون بشكل سرد يقاوم السرد ، لا تجد تجليا واضحا لتقنيات القص في هذا السرد ، حيث يعلو صوت الايحاء و الرمز و النفاذ الى العمق الاني بدل انتظار الحدث الطولي المميز للسرد الحكائي .
نجد ذلك جليا جدا في قصيدة ( لقاء عابر )
لقد دخلنا معا
منجر الخزف الكبير هذا
كنت تتسلى
بتهشيم ما تصل اليه يداك
و كنت سعيدا
بصوت الشظايا
التي يحدثها جنونك
هذا النص المركز جدا ، الذي يحقق عتبات فهم و دلالة آنية عالية و واسعة ، مع انه صيغ بشكل سردي الا انه مع كل تقدم في النص و بناءه تتعالى الرمزية و الايحائية ، و تضعف قوة الحكاية و القص ، و تنبثق الشعرية ، انها الصورة النموذجية لقصيدة النثر .
تحليل رائع وممتع ياخذنا للأعماق اللغوية المعرفية تسلم الأنامل شكرا لما تكتب