حسن النجار : حسب الشيخ جعفر ومرايا قصيدة التدوير (ملف/13)

hasan alnajarإشارة :
في عيد ميلاده الثالث والسبعين ، يسرّ أسرة موقع الناقد العراقي أن تقدّم هذا الملف احتفاء بالمنجز الإبداعي الفذّ للشاعر الكبير “حسب الشيخ جعفر” وإجلالاً لمسيرته الإبداعية الرائعة . وتدعو أسرة الموقع جميع الكتّاب والقرّاء إلى المساهمة في هذا الملف بما لديهم من دراسات ومقالات وصور ووثائق تتعلق بمسيرة مبدعنا الكبير . وسيكون الملف مفتوحاً من الناحية الزمنية انطلاقاُ من حقيقة أن لا زمان يحدّ الإبداع . تحية لشاعرنا الكبير حسب الشيخ جعفر .

المقالة :

” يعد مستقبل الشعر هائلا إذ أن جنسنا البشري سوف يجد في الشعر ـ من حيث هو جدير بمهمته السامية – سندا يزداد رسوخا على مرّ الأيام. وليس ثمة عقيدة إلا اهتز كيانها، ولا مذهب مسلم به إلا تسرب اليه الشك، ولا تقليد مأثور إلا تهدده التحلل والفناء. أما الشعر فالفكرة هي كل شيء بالنسبة له، وأما الباقي فهو عالم من الوهم …
ولما كان الشعر نقدا للحياة مشروطا بقانون الصدق والجمال الشعريين، فإن روح جنسنا البشري سوف يجد فيه نعم السلوان والسند على مر الدهر “بهذه المقولات السحرية التي جاءت في مقالة “ماثيو آرنولد” بعنوان “دراسة الشعر” نستطيع الدخول بدون تردد الى عالم حسب الشيخ جعفر الشعري، واستقراء مكنونات تجربته الشعرية المتميزة .
وحسب الشيخ جعفر واحد من أبناء بدر شاكر السياب الأب الروحي للقصيدة العربية الحديثة، الذي رحل عن عمر مبكر (تسعة وثلاثين عاما) عندما كان حسب ما يزال شابا يافعا يبدأ خطواته على مدرج الشعر، وقد ورث عنه ولعه الدائم بالموروث الشعبي، وبالثرات الإنساني والعراقي بخاصة .
ولد حسب في مطلع الأربعينيات من القرن الماضي في محافظة العمارة في جنوب العراق، وهي من المحافظات الريفية التي تكثر فيها الأهوار، وبالتالي تكثر القصص والحكايات الشعبية مثل أي ريف عربي. وتعتمد في الزراعة على بستنة النخيل. والنخلة هي الرمز الذي يتكرر كثيرا في قصائد حسب. ويتعلق الشاعر بهذا الرمز بقوة الريفي الذي يحب الأرض، ويبحث عن وجوده فيها، ولا يمتلكها.
hasab 4وهو من الشعراء القلائل الذين لا يقفون عند لحظة شعرية بعينها، فهو دائم التطور والانفتاح على العالم الشعري الواسع، وهو ما نراه جليا حتى في قصائده المبكرة. وقد استفاد كثيرا من تجارب أسفاره الى العالم الخارجي واطلاعه الدائم على المحطات الشعرية العالمية، ولم ينسه ذلك ارتباطه الحميم بالأرض التي نشأ وتربى عليها، العراق.
والشاعر رغم سفره الى موسكو لاستكمال دراسته فيها ( 1964 – 1966) وإحساسه بالغربة تتعمق هناك، ظل يحس أن الوطن ـ الأم ـ العراق هو دائما الوطن المتجدد، عندما يعيش الوعي، ويدرك بوضوح ارتباطه بالآخرين. فهو دائما يرمز للنخلة ولم يرمز لغيرها .
ومن هنا كانت مكابدات حسب الشيخ جعفر منذ دواوينه (نخلة الله ـ الطائر الخشبي ـ زيارة السيدة السومرية ـ عبر الحائط في المرآة) داخل طقوس الحزن والغربة، من الريف حتى المدينة المتوهجة. ويعمق رؤاه ضمن “رباعيات” داخل أزمنة شعرية جديدة بحيث يصل الى المزج الذكي بين اليومي واستشراف المستقبل، وهضم التراث والتاريخ في ألق شعري عجيب، يحاول أن يخلقه في قصائده المدورة، حيث نلتقي “بتاييس أو أنانا السومرية جالسة وراء واجهة زجاجية في مخزن من المخازن ” كما يقول حسب .
ويقول أيضا: “ومن هنا يبدأ التدوير، أي أن الزمن الدائري يجد نفسه في القصيدة الدائرية أو المدورة، ولكن ليس زمنا عائدا الى النقطة الأولى متوقفا عندها، إنه يتقدم أبدا في دورانه، إنه شيء من حركة الكون الدائرية .. إن القافية تنهزم رغم سحرها أمام هذا الإيقاع، إيقاع الأشياء الاعتيادية نفسها، إيقاع التاريخ في التصادم والتداخل والحركة الدائمة”.
ثم يقول كذلك: “أجد نفسي مقتنعا بهذا الزمن الشعري أما المنطلقات الآتية، منطلقات المستقبل الشعري فلست قادرا على التكهن بها ، ولكنها كأي شيء آخر لن تكون إلا متحركة … أي مكتشفة بعدا فنياً جديدا”.
وفي بحثه الدائب في أن تكون قصيدته اكتشافا مستمرا داخل حركة العصر وإنسانه المتعب، نراه يجاهد في إيصال رؤاه وتداعياته في الحركة الدائرية التي تتشكل منها هذه الجزئيات، بين الواقع والتمني، بين المتخيل والمحسوس، بين التاريخ والماضي .
والحديث عن قصيدة التدوير أو القصيدة المدورة يستحق وقفة تأمل:
ابتدأت تجربة التدوير في الشعر الحديث في محاولة جزئية اتخذت شكل إطالة السطر الشعري، كما جاء في كثير من الشعر الحديث في الخمسينيات والستينيات، حتى غدت ظاهرة استدعت نازك الملائكة أن تكتب عنها فصلا في كتابها (قضايا الشعر المعاصر). والتدوير في الشعر معناه الالتزام بالتفعيلة كوحدة، وانسياب الكلام بدون توقف حتى يتم المعنى، مهما بلغ طول الجملة. وهو نوعان : تدوير شطري، مهما بلغ طول وعدد تفعيلات. تدوير كلي، وهو حيث تكون القصيدة كلها مدورة تدويرا كاملا من أولها إلى أخرها، كما لو كانت سطرا واحدا متصلا، عروضا وموسيقا، وأسميهــا (القصيدة البيت).
والقصيدة المدورة شكل متميز من أشكال القصيدة الحديثة، يحمل خاصيته التعبيرية من مجموع العناصر المتكاملة. وتستفيد القصيدة المدورة من العناصر البدائية للتجربة الجمالية في الشعر، وأعني بذلك القصيدة القصصية أو الملحمة الغنائية البدائية، حتى تتبلور هذه الاستفادة من العنصر القصصي والحوار والتكرار والمكاشفة، واستخدام أكثر الكلمات شيوعا على ألسنة الناس في الاستعمال اليومي .
ورغم أن هناك شعراء سبقوا حسب الشيخ جعفر في كتابة القصيدة المدورة، وشعراء زامنوه، فإن تأصيل هذه التجربة حديثا وجعلها قوة مؤثرة يعود الفضل فيه إلى حسب الشيخ جعفر، فقد استطاع أن يؤكد تميز هذا الشكل كشكل من اشكال التعبير الراقية التي بلغتها القصيدة الحديثة .
ويعمد حسب إلى نوعية من الشعر تسمى القصيدة القصة، فكما أن القاص يغرق كثيرا في التفاصيل وصولا إلى النهاية الحتمية، يعمد حسب كذلك إلى هذه التفاصيل الصغيرة التي قد يرى المرء أنها أبعد ما تكون عن الشعر، الذي يعمد إلى التكثيف والتركيز، ولكنها في الحقيقة من تلاوين الرؤى الشعرية المصاحبة :
” أرى كوبها مثلما كان
لم تتذوق سوى قطرات
وأنهض أبحث عن أثر غير هذا الشذى المتخلف من أعصر غابرات
وارقب موعدها كل يوم
أرافق ظلّيَ في كل ممشى تدثر بالورق المتساقط
أسمع خطوا بطيئا ولا أتبين شيئا ”
إن الحس الدرامي الفاجع بالحياة من خلال الذات المفارقة، وتطوير القصيدة تطويرا دراميا قائما على التوليف المسرحي والديكور وعنصر الصراع وتعدد الأصوات..إلخ، يجعلنا نعتقد ان التدوير الأصيل في القصائد الأصلية هو حاجة تعبيرية وموسيقية لتحقيق إيقاع التجربة بكل أبعادها الفكرية والسيكولوجية من جهة، وللإشارة إلى حركتها ومسار هذه الحركة من جهة أخرى.
يقول حسب: ” إن أهم خطوة شعرية من الضروري أن تبدأ بها اليوم، هي أن تمنح الشعر هذا الألق العجيب الذي يكمن في الشيء الاعتيادي، أن الألق الذي قبض عليه فان كوخ في “كرسي” لم يلتفت إليه أحد، أن الألق الذي ارتجفت به الزهرة الرومانسية إنما يتوهج وبقوة جديدة في حثالة الأشياء. كما يمكن القبض على الألق الشعري في الزمن الجديد”.
إن قدرة حسب على تجسيد تجاربه ملحوظة، وهي تعتمد ـ كما قلنا ـ المفارقة بين الأشياء، وهي بهذا واقعية، بل أكثر واقعية من كثير مما يدعونه واقعيا، وهي لهذا تبدو أكثر صدقا أيضا، لأنها غير مرئية ولأنها تعتمد التجربة الإنسانية الحقة بكل ما تنطوي عليه من مفارقات، وهي كذلك لأنها تشتمل على كثير من خصائص القصيدة (البدائية) ولكن ليست بدائية الشاعر البدائي، بل بدائية الشاعر المفتح العينين على سعتهما على هذا القرن العجيب .
فالتدوير إذا عند حسب يقوم على حاجة اقتضتها طبيعة القصيدة. فالقصيدة عنده مونولوغ داخلي عميق يقوم على فكرة درامية مركزية هي التضاد بين الواقع والحلم، بين الماضي والحاضر .
فالفكرة عنده عمليا لها جذورها العميقة في وجدان الشاعر، كما أن لها ابعادها السيكولوجية في داخله. لذا فإن الصدق الفني هنا: أن تكون القصيدة بهذا الشكل، ونعني
بالصدق الفني هنا بناء القصيدة كما عانى الشاعر تجربتها وأحس تداعي أفكارها وموسيقاها وانثيال حوارها داخل نفسه .
ولعل هذا ما يجعل التدوير في قصيدة حسب تدويرا منفردا متميزا، وذا تجربة خاصة تختلف عن كل اشكال التدوير الأخرى. ومعظم قصائد حسب يتحاور فيها صوتان : المحب والمحبوبة، الأميرة تمارا والأسير. وعبر هذا الحوار المتواصل تتجسد التجربة ويبرز التناقض بين ما هو وَهْم وما هو حقيقة .
مع انك تحس لدى حسب رغبة اكيدة في مواصلة الإنشاد دون انقطاع .
والتوغل في قصائد حسب يقتضي منا التسلح بوعي التاريخ الأسطوري، وكذلك بوعي الموروث الشعبي العربي، وبحكايات ألف ليلة وليلة، ولا يمكن فهم مفاتيح هذه القصائد بمعزل عن هذه الأشياء جميعا، فالشاعر ابن بيئته العراقية العربية .

تعليقات الفيسبوك

شاهد أيضاً

د. قصي الشيخ عسكر: نصوص (ملف/20)

بهارات (مهداة إلى صديقي الفنان ز.ش.) اغتنمناها فرصة ثمينة لا تعوّض حين غادر زميلنا الهندي …

لا كنز لهذا الولد سوى ضرورة الهوية
(سيدي قنصل بابل) رواية نبيل نوري
مقداد مسعود (ملف/6 الحلقة الأخيرة)

يتنوع عنف الدولة وأشده شراسة ً هو الدستور في بعض فقراته ِ،وحين تواصل الدولة تحصنها …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *