إشارة :
احتفاء بتراث الفيلسوف العراقي الراحل الدكتور “مدني صالح” ، وبمساهماته الفذّة في الثقافة العراقية والعربية ، تبدأ اسرة موقع الناقد العراقي بنشر هذا الملف الخاص عنه ، والذي تدعو الأخوة الكتّاب الأحبّة إلى المساهمة فيه . وسيكون الملف مفتوحاً من الناحية الزمنية على عادة أسرة الموقع حيث لا يتحدّد الإحتفاء بالفكر بمساحة زمنية معينة .
المقالة :
لا احد يجزم لماذا توقف مدني صالح الفيلسوف والاديب والانسان عند ملحمة حي بن يقظان !! ولا اريد ان يتوقع القاريء الكريم انني سازعم انني اعرف وأجزم ! لأنني سمعت مدني صالحيجيب عن هذا السؤال احد الصحفيين العراقيين !
قال له الصحفي: هل يمكنني استاذ مدني معرفة السبب الذي دعاك للاهتمام الزائد بحي بن يقظان ؟ ففعل مدني الحركات التي حدثتكم عنها !
اي ارتبك ورفع حاجبيه وزم شفتيه وترك يديه تتسكعان في جيوبه بحثا عن اللاشيء ثم توقفت يداه عن البحث وانزل حاجبيه وفرج شفتيه وقال للصحفي: بالتأكيد لايمكنك معرفة السبب الذي دعاني للاهتمام بحي بن يقظان! أنت كمن يتعجب ويدهش لأن مدني صالح يهتم بالزهور والعطور ! ورأيت جبين الصحفي يتصبب خجلا وكأني به يقول لنفسه أي نحس هذا الذي دعاني لمقابلة هذا المخلوق وانصرف الصحفي وكان بودي ان اتدخل وانتصر للصحفي ولكن معرفتي بطباع مدني صالح منعتني عن ارتكاب مثل هذه الحماقة ! اذن لنحاول تشكيل صورة هي مزاج من حي بن يقظان ومدني صالح! ولنحاول صديقي القاريء قراءة مدني من خلال قراءة حي بن يقظان.. !! وحي بن يقظان محاولة فلسفية لحفر نفق تحت جدار المحظور وتهريب منطق العقل من سلطة النقل التي قررها الله سبحانه حين وصف العقل بالسلطان وطلب من المخلوقات احترامه ( يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَن تَنفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانفُذُوا لَا تَنفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ ).
والسطان في التراث العربي هو الزيت الذي يضيء الداجية والسلطة والقوة التي تقهر والحجة التي تدمغ ومن غير العقل جدير بهذه الصفات ؟ ولم يكن ابو بكر محمد بن طفيل وهو اندلسي اول من خاض مخاضة فلسفة التكوين ومعاملتها بعاملي الطبع والتطبع! بل ان ثمة ثلاثة مفكرين ربما صنعو ا الشيء ذاته فسردوا كلا على انفراد حكاية حي بن يقظان وفق هاجس فلسفي لكل منهم فهاهي سردية لحى بن يقظان كتبها الشيخ الرَّئيس أبو على ابن سينا وكتبها ايضا ابن النفيس علاء الدين واختار لها عنوانا دلاليا وهو فاضل بن ناطق وكتب ايضا وايضا السهروردي شهاب الدين منتقيا عنوانا هو رسالة الغربة الغربية , لكن المركزية في الحكاية الفلسفية تتمحور حول تخليق بطل اسمه حي بن يقظان ونلاحظ دلالتي حي ويقظان ! هذا الحي تشكل في مناى بهيئة جزيرة ولعل ابن سينا استبطن شخصية حي بن يقظان قبل ابن طفيل ! فحين سجن ابن سينا بسبب وعيه الفلسفي وتهديمه لوثنية التابوات كان يعقد في مخياله مقارنات بين الانسان وحي بن يقظان ! ثم تلقى السهروردي شهاب الدين السؤال الفلسفي في حي بن يقظان ليعيد انتاج الحكاية في بودقة الاضافة والحذف (التقويم) وتلقى ابن طفيل السؤال الفلسفي الذي غامرت به سردية حي بن يقظان ليشكل انساقا جديدة بعلاقات جديدة فكان ثالثة الأثافي ! وتربع ابن النفيس الطبيب ليتمثل جهود سلفه واجتهاداتهم! فلأبن النفيس مذهبه في التحليل والتأويل والترميم! لكن للوعي الجمعي حكمه فتمسك بعرى ابن طفيل وبتنا نقرن حي بن يقظان بابن طفيل ! بل بات الغرب يفعل الشيء نفسه فجل ترجمات حي بن يقظان منسوبة لابن طفيل وحده ! فتلقفها الغربيون نصا عجائبيا من جهة الإثارة والطرافة والجاذبية فاستوحوا منها قصة روبنسون كروزو والقصتان تتابعان نمو الإنسان كمخلوق بين عديد المخلوقات والتحول من الطبيعة الى التطبع ومن البداءة الى الحضارة! والتاريخ من البدائية والحيوانية إلى الحضارة ! فضلا عن وجه الشبه بين أسال الذي صبر على تعليم حي بن يقظان المعرفة واللغة وبين روبنسن كروزو الذي صبر هو الآخر على تعليم فرايدي المعرفة و اللغة والحال ينطبق على رواية طرزان الرجل الذي وجد نفسه وحيدا في الغابة فاضطر على التعامل مع الواقع الصعب ليحيله واقعا رومانسيا ! فهو الآخر الشبيه الغربي لحي بمن يقظان ولم يكن هاجس المقارنة قولا عربيا بل قاله كبار فلاسفة الغرب ومفكريه !
والسؤال الفلسفي للحكاية هو هل الانسان ابن الطبيعة ام ابن التطبع؟ وهل السلوك فطرة العقل البشري ام خبرة الفعل المتراكمة؟ ولم تسلم حكاية ابن يقظان من الضغط الشفاهي الذي حذر منه ميللر فهي نصوص تتشابه قي الحبكة والسرد وتتخالق في الهدف والحصيلة او نصوص تتخالق فهل المخلوق حادث ام قديم ؟ هذه الاسئلة الفلسفية الوجودية نهدت بها حكاية حي بن يقظان ! بينما الفلسفة المشرقية استندت وفق ابن سينا لقراءة الوجود والعدم من خلال الإرادة والعقل ..وبعد ستمئة سنة جاء لافوازييه الفرنسي بمقولة هزت الفلاسفة وهي : الصدفة غير قادرة على الوجود وغير قادرة على العدم ! ثم جاء كارل ماركس ليؤكد ان الصدفة إشاعة صنعتها الطبقة المستغلة بكسر الغين لتصدقها الطبقة المستغلة بفتح الغين ! من اجل تعطيل قدراتها على التفكير !! مع ان حي بن يقظان لم تستند الى الصدفة لأنها حكاية عرفانية تؤمن بقدم الحدث المسطور على اللوح ! لكن ذلك لم يمنع مركزية الحكاية من طرح مشكلات ميتا واقعية وميتا غيبية في وحدة جمعت التماثل في اللاتماثل ! من نحو هل الكون قديم ام حادث ؟ والانسان مجبر ام مخير ؟ وكيف يمكن تأويل الصدفة في امور تبدو هكذا للنظر العجلان !! وهل ان الصدفة هي القوة المسؤولة عن الخلق والفناء؟ الحق الحبكة والسرد وتتشابه في الهدف !! لقد كانت بداية الحكاية شبيهة ببداية التكوين في ملحمة حينما في العلى السومرية او قصة التكوين في التوراة! ثمة ماء وطين ونطفة بين ذكر وانثى ! فولادة حي بن يقظان جاءت من التقاء شبقي بين شقيقة ملك جزيرة هندية و قريب لها يدعى يقظان وكان الحب قد تمكن من غريزتيهما! فناما معا دون علم الملك الرافض اصلا لعلاقته من اي عريس غير ملكي! وحملت شقيقة الملك دون علم اخيها! ولو علم اخوها لارداها مرادي الهلاك ! فخشيت على نفسها وحبيبها وطفلها معا فاهتدت كما ام موسى في القرآن الكريم الى وضع طفلها في تابوت محكم بعد ان ارضعته وبالغت في ارضاعه ثم دهورته نحو مياه البحر الهائجة وكان خدمها وثقاتها معها على ساحل البحر يصبرونها بينما قلبها يحترق خوفاً عليه وضنا به ! وقد عوذت طفلها ورقته بقولها : اللهم انك خلقت هذا الطفل ولم يكن شيئاً مذكوراً ورزقته في ظلمات الأحشاءوتكفلت به حتى تم واستوى. وأنا قد سلمته إلى لطفك ورجوت له فضلك خوفاً من شقيقي الملك الغشوم المتغطرس فكن له يارب ولا تسلمه لسوى رحمتك يا أرحم الراحمين فحملت الأمواج تابوت الطفل ومن خلل المد والجزر القت الامواج التابوت في جزيرة بكر لم تعرف بشر من قبل وانسحبت المياه عند الجزر مخلفة وراءها كتلا رملية باتت سورا طبيعيا يقي الطفل مغبة المد القادم ويتزيد النص فيقول هي جزيرة الواق واق!. وكان الطفل قد جاع وبرد فانطلق صراخه من دخيلة الصندوق وكان مقدرا له ان يموت لولا أن سمعت بكاءه ظبية كانت قريبة من تابوت الطفل وهي تبحث عن ابنها الذي فقدته فيممت وجهها صوب الرضيع فاحتضنته وارضعته . ويكبر حي بن يقظان في رعاية امه الظبية اول وهلة فتمر حياته بمراحل سبع ! الأولى الرضاعة والحضانة وعدد سنيها سبع !والأخرى موت امه الظبية وكانت الثالثة في اكتشاف النار. الى حين جاءت المرحلة الرابعة ، لكي يعرف من خللها الوحدة والتشتت و تشابه الكائنات في المادة واختلافها في الصورلكن المرحلة الخامسة كانت اكتشافا لعدد من الحقائق شجعه إلى الخروج لفضاء العالم بقدمه وحدوثه.!! اما حين بلغ ابن يقظان الخامسة والثلاثين ربيعا فقد بلغ معها المرحلة السادسة ! القائمة على الاستنتاج بعد التفكير من خلل رياضة الاستبطان! فالإنسان روح وجسد وبينهما علاقة الانفصال الوظيفي وتكون المرحلة الاخيرة السابعة بحثا عن المتعتين الحسية والشعورية من خلال ديمومة التمتع بهذا الموجود الواجب الوجود والرغبة في البقاء داخل حياة صممها هو لنفسه وليست حياة صممها غيره لغيره او له ! وفي الحكاية ان حيا يقظي نصف قرن من عمره في الجزيرة وحيدا فريدا فتعلم الطبخ والسباحة والصيد والتأمل و آلات الصيد منها ما يصلح لحيوان البحر ومنها ما يصلح لحيوان البر! وكذلك الأشياء التي يقطع بها منها ما يصلح للشق ومنها ما يصلح للكسر ومنها ما يصلح للثقب وكان بتلك الجزيرة خيل متوحشة فروضها واتخذ منها ما يصلح له وساسها حتى طاوعته واحبته ! (وعمل عليها من الشرك والجلود أمثال الشكائم والسروج فتاتي له بذلك ما امله من طرد الحيوانات التي صعبت عليه الحيلة في أخذها.)
وانما تفنن في هذه الأمور كلها ف وقت اشتغاله ومن خلال القوة المؤثلة في روحه ! قوة الملاحظة الدقيقة التي تقارب وتحاذي وتلامس وتستكشف ! والحدس الذي يميز العاقل عن غير العاقل فمن قدر على التأمل قدر على الحدس! فإذا كانت الملاحظة تشترط الحسي لتتعامل معه فإن الحدس يشترط العقلي ليتعامل معه! بمعنى ثان ان الحدس حالة عرفانية بينما الملاحظة حالة طينية! وكلما كبر حي كبرت معه القوة المؤثلة في روحه فشاهد شيخوخة امه الظبية وميلها للكسل وحال ضعفها عن قدرتها على تغذية نفسها وكان مقدرا لها الموت جوعا ولكن ثمة شيء من جسمها شكل جسم ولدها بالتبني فمنحه الحنان المستحيل وفاء وحبا ! فكان يرعاها ويطببها ويجلب لها الطعام ! ولكنها حين ماتت جزع جزعا شديدا ! وخالجه هلع عميق ! الموت حالة حاثة لم يكن يحسب لها حسابا فجثة الظبية هي جثة امه وليست كأي جثة فداخ حي بن يقظان ولم يدر ماذا يصنع فقرر اكتشاف سر الموت الذي حاق بامه فاجتهد تشريحها لمعرفة سبب الوفاة الى ان يلتقي بشخصية قادمة من جزيرة اخرى اسمه أبسال ونرجح ان الاسم منحوت من ألأب والسؤال ! فكل عبارة واشارة تحيلنا الى معنى تحتاني مثل المراحل السبع ومثل هي ويقظان ! ولقاء حي بصاحبه أبسال يحيلنا الى التقاء جلجامش السومري بصاحبه الفطري انكيدو !
وكما اعجب جلجامش بانكيدو واعتده رمز النقاء النقاء والفطرة فقد اعجب ابسال بحي بن يقظان للمباديء اياها بينا اخذ حي بن يقظان يسأل ابسال عن ا لجزيرة التي يعيش فيها والناس الذين يعيش بينهم ! وطالت المكاشفة بينهما وتجاذبا اطراف الاحاديث وتبادلا المعلومات والأسئلة فاكتشفا انهما من طبيعة واحدة وانهما منجذبان الى بعضهما ومتقاربان في الإيمانات! ولم يكن ابن يقظان كارها لطرائق البيع والشراء وتسلط شهوة المال على البراءة بحيث يتلوث الناس وهم يلهثون وراء كنز الأموال ! لم يكن ذلك بسبب حياته القائمة على الفطرة والتعايش بين المخلوقات داخل الجزيرة بل لان ابن يقظان كان ذا رؤية عرفانية بدأ من خلالها ينظر بنور الله ( قول النبي الأمين ص إتق فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله ) فطلب الى صاحبه ابسال اصطحابه الى جزيرته الضالة والالتقاء بشعبها المنحرف عن الفطرة فوافق ابسال بعد طول تفكير وتنقير وهكذا غادر ابن يقظان للمرة الأولى بعد ان بلغ الخمسين ووصلاها وتجمع الناس حول ابن يقظان وهو يدعوهم الى الفطرة ونبذ الطمع والجشع فهما يبعدان الموبوء بهما عن فطرته وايمانه بالله الخالق العزيز! لكن الناس زهدوا بحكمة ابن يقظان ومواعظه وتعصبوا على ابن يقظان فشعر بأن اصلاح هؤلاء مستحيل فقرر العودة الى جزيرته الوادعة التي لم تتلوث بالنقود وطلب الى صاحبهى ابسال هجر جزيرته الضالة والعيش معه في جزيرته الطاهرة ففعل وعادا الى الجزيرة وعاشا معا يتعبدان لله ويتبتلان بنعمائه حتى ادركهما أجلاهما! ومن هذا العرض المطول نفهم قيمة النظرية التي اقترحهامدني صالح كموجه لقراءة حي بن يقظان! فقد غسلها من الخرافة وطهرها من الوضع واذا تم له ذلك وقد تم قشر الحكاية وتخلص من قشورها الميتة المتقرنة في منطلقات علمية تمجد العقل وتعلي الحدس وتلغي المصادفة من اجل ان لاتكةون حي بن يقظان داء جديدا او طلسما عتيدا وهذا حسبه!
* عن موقع النور