حامد سرمك حسن : عوامل الإبداع

hamed sarmak 2خلافاً للإبداع العلمي تعد الموهبة ضرورية في الإبداع الفني ولكنها ليست كافية لإخراج الاستعداد الإبداعي من الإمكان إلى الفعل ما لم يتوافر معها شروط أخرى. فزيادة على الاستعداد الخاص يتطلب النشاط الإبداعي وجود عوامل عقلية وانفعالية ودافعية. وعلى الفنان استيعاب الدراسات الفنية النقدية كي ينمي ذهنه وملكته الفنية، فيكون صاحب رصيد معرفي تجتمع لديه العاطفة مع العقل، فتناغم الممارسة مع النظرية والوجدان تعد من عوامل إنضاج الحس الفني عند الفنان.
المقومات الذاتية والموضوعية :
ومما لاريب فيه، أن ثمة مقومات تتحدد بموجبها عملية الإبداع، تتراوح بين الذاتية و الموضوعية تشترك فيها مجالات الإبداع الفني كافة. أما المقومات الذاتية فيوجزها “يوسف أسعد” ب ((الحساسية الشديدة في إدراك الفنان و الاختزان الفني و النقد الذاتي)) ( 1). فالحساسية الشديدة تكون عونا للفنان في إدراك مالا يدركه غيره، سواء في اكتشاف علاقة بين أمرين أم نقل علاقة من موقعها الأولي و توظيفها في مجال جديد؛ وقد قيل أن الشاعر يشعر بما لا يشعر به غيره. أما بخصوص سمة التخزين عند الفنان فهذا مما يميزه من سواه ، فمن المؤكد أن الفنان ليس أنبوبا فارغا الداخل فيه يخرج منه على علاته كما هو بتمام هيأته التي دخل بها، ولكن الفنان عقل و روح وتجربة وعاطفة وخبرة و أصالة ونظرة خاصة للوجود تؤهله لصياغة ذالك الخزين وتوجيهه بما يتماهى ورؤيته الكونية. وقد يتراآى هذا الداخل شيئا مغايرا تماما للأصل بفعل ما يضفيه عليه الفنان من روحه، وقد يعد هذا الداخل مجرد إشارة و تحريك لما في الداخل.هذا التوظيف والصياغة يؤازرها مبدأ النقد الفني الذاتي الذي يوليه الفنان لعمله الإبداعي لغرض تمحيصه و تجميله وجعله أكثر مواءمة لشروط الشكل الجمالي المحدد وفقا لمنطق الفن.
أما المقومات الموضوعية الخارجية فيجملها في((أولا:الخلفية الثقافية العامة التي حصل عليها الفنان .ثانيا:موقف الآخرين من الفنان .ثالثا:التفاعل مع الأحداث والمواقف العامة والخاصة)). فلا جدال في أهمية المشاركة الوجدانية للفنان مع بيئته ومجتمعه وعالمه الذي يحيا فيه، فهو من أمارات الأصالة.ناهيك عن تأثير المواقف النقدية للآخرين في توجيه إبداعه الخاص لما لها من سمتي التقويم والتقييم. يبقى الأهم متمثلا في ذلك الخزين الملهم الذي يستند إليه الفنان من جهة الفكر والثقافة التي يكتنزها في جعبته،وأكثرها أهمية ما ترسخ منها في وجدانه وروحه وعقله فتصير جزءا متجذرا من مكوناته الحياتية بوصفه إنسانا مبدعا.وفضلا عن الثقافة العامة ثمة حاجة متنامية إلى الثقافة الخاصة؛ ثقافة المهنة الفنية أو النوع الفني الذي يحترفه الفنان متمثلا بالآليات والمهارات والرؤى الخاصة. هذا النوع من الثقافة هو ما يؤهله لترجمة ثقافته العامة إلى إجراء فني قادر على الإنارة ووضع الحلول.
إن إنتاج الأعمال الأصيلة يتطلب قدرة على التفكير المبدع الذي بدوره يرتكز إلى دعامتين هما: توفر الإستعداد أو القدرة مع شرط الدافعية حيث يتوجب على الفنان أن يخضعهما ـ أي القدرة والدافعية ـ إلى إعداد منظم.
يمكننا الإشارة من خلال ما تقدم إلى خصلتين ضروريتين للخلق الفني تتمثلان في التعليم المسبق وكفاءة الإعداد؛ فلا بد للفنان أن يمتلك ثقافة الاحتراف من إمكانيات ومهارات مع تلازم ذلك وشرطي الدربة والاستمرارية لإنضاج وتعميق التجربة لديه وصولا للأصالة والإبداع.وكما يقول “بونكاريه”، فإنه لا حدس يأتي بدون سابق عمل مضني. فالعملية الإبداعية تشبه إلى حد كبير العملية التي يمر بها نشوء الجنين، من تكوين بدائي ساذج إلى تكوين متكامل. هكذا الأعمال الفنية العظيمة؛ قد تكون فكرة على غاية من البساطة، يلتقطها الفنان فيحتضنها في “رحم” أفكاره وخبراته وثقافته وتكنيكاته وإضافاته اليومية ومعاناته ليخرجها بعد ذلك في أحسن وأروع تكوين(2 ) .من العوامل والاستعدادات الخاصة لدى الفنان والتي تتوافر بدرجة عالية لدى الفنانين في طفولتهم، ما سمي ظاهرة ((الصورة الإرتسامية))،التي تنم عن حدة في الخيال وقوة تصل حد التوقد تؤهل الفنان لامتطاء جواد الخيال الجامح وترويضه لغرض الدخول معه في اشد الممرات ضيقا وحلكة من ثنايا الواقع لاستكشاف خبايا الأبعاد المحسوسة لمصاديق المفاهيم الكلية للوجود واستعمالها لبنات صلدة تتوطد عليها هياكل المعاني المجردة. هذا التجسيد للكلي في الجزئي هو ما يمثل بعضا من فرادة البعد المعرفي المتحقق في الفن؛ إنها الأساس النفسي العميق للميزة الرئيسة للأسلوب الفني: التجسيد العيني للمفاهيم الكلية وعرض الأفكار المجردة بشكل محسوس من خلال الجزئيات المشخصة.
كما يجب أن تتوافر للأديب عوامل ومقومات وجدانية تسهم في إنجاز العمل الإبداعي وتتمثل في تكثيف انفعالاته الوجدانية وتركيزها مع إخضاعها للصقل والتنظيم، ثم تنظيمها في إطار فني معين. وان يكون العمل الفني زاخرا بالأطياف الوجدانية والانفعالية المتنوعة مع ضرورة مراعاة القيم الاجتماعية والدينية التي تسود المجتمع.
الدعائم المعرفية والإنتاجية للإبداع :
توصل “غليفورد” من خلال تحليله للنشاط الإبداعي “الابتكاري” إلى وجود ثلاث دعائم رئيسة يعتمد عليها ذلك النشاط تنطوي على ثلاثة أنواع من الوظائف النفسية، وهي تختلف من حيث الدور الذي تقوم به عملية الابتكار .
أ= وظائف الادراك والمعرفة:
أما النوع الأول، فهو مجموعة الوظائف الخاصة “بالإدراك والمعرفة” (والمعرفة هنا يقصد بها معرفة جانب معين من أي موقف يواجه الشخص، وهذا الجانب هو أن الموقف ينطوي علـى مشكلة، وأن هذه المشكلة تتطلب حلاً. هذه القدرة أو الوظيفة التي إذا نشطت في عقولنا رأينا أن الموقف ينطوي على مشكلة هي أحدى الدعائم الرئيسية التي يقوم عليها أي نشاط ابتكاري – سواء في الفن وفي العلم وفي الفلسفة)، وهي وظيفة إدراك المشكلات. فالمبدع له القدرة على ملاحظة النقص أو الخلل أو اكتشاف المشكلات، وهو ما يدعى بالحساسية Sensitivity وتعني أن الشخص المبدع ((حساس بمشاكل و حاجات واتجاهات ومشاعر الآخرين، وله معرفة حاذقة بأي شيء غريب أو غير عادي وبالأشياء التي يحصل عليها من الأشخاص الآخرين والمواقف الاجتماعية والطبيعية)) ( 3).
ب= الوظائف الانتاجية:
أما الدعامة الثانية من دعائم الابتكار الثلاث فهي مجموعة “الوظائف الإنتاجية”، وتدخل كعناصر في لحظات الإنتاج لدى المبدع، تتألف من الأصالة أو الميل إلى التجديد، والطلاقة والمرونة.
1= الأصالة:
“فالأصالة” Originality هي قدرة خاصة يتميز بها الفنان المبدع ويقوم عليها الإبداع الفني من جهة الابتكار. وتتمثل بعدد وتنوع الحلول التي يتوصل إليها الشخص والمتضمنة كون الشيء جديداً Novelty ومتفرداً Unique.كما في التوجه المتجذر عند البعض نحو التجديد كما في استعمال أساليب بيانية جديدة من تشبيه واستعارة في الشعر أو التوظيف المغاير للألوان وما بينها من علاقات في الرسم أو ما يبتكر من مصطلحات وأساليب بحثية في العلم. ويرى “غليفورد” أن الأصالة من طبيعة الوظائف المزاجية، يصحب انطلاقها شعور بالراحة. فهي ليست من طبيعة الوظائف العقلية كالتفكير والمقارنة والاستدلال، تلك الوظائف التي يصحب انطلاقها تبصر بالعلاقات القائمة بين الأشياء. عموماً، فإن الأصالة تعني إنتاج ما هو غير مألوف، ما هو بعيد المدى، ما هو ذكي وحاذق من الاستجابات، أما المقياس الشائع للفكرة الأصيلة فهو أن تكون نافعة اجتماعيا.
2= الطلاقة:
أما وظيفة “الطلاقة” فتتمثل في مدى السهولة أو السرعة التي يتم بها للشخص استدعاء أكبر عدد من الألفاظ أو الأفكار أو التخيلات التي يتوافر له تحقيقها من جهة السرعة والسهولة وتقاس بعدد ما أعطي من معلومات في وحدة زمنية محددة . ثمة علاقة بين معامل الأصالة ومعامل الطلاقة، حيث أن غزارة الأفكار عند الفنان وسهولة انسيابها أو طلاقة التعبير عنها يفتح أمامه مجال الانتقال أو الاختيار الإبداعي حتى يؤلف بينها ويشكل منها تشكيلاً جديداً في إطار وحدة معينة لها نظيرها وهي حاضرة Present في ذهن الفنان تسعفه بالتأليف أو التكوين والتركيب والإنشاء الفني، فالفنان لديه محصلة مختزنة من الرؤى الجمالية أو الصور حتى يمكنه أن يعبر عن الموضوع الفني، بطريقة فريدة متميزة وبسهولة منطلقة بلا معوقات أو قيود. وفي مجال التعبير اللغوي بينت البحوث الميدانية وجود عامل الطلاقة في التعبير الفني، فيمكن للأديب أن يستحضر Presentate أو يتمثل أفكاراً متعددة في مدة محدودة ثم يضع هذه الأفكار في الصيغ اللفظية المناسبة أو الأنماط moode، أو القدرة على إحداس أو ابتداع مجموعة من الأفكار الفنية أو الرؤى الجمالية أو الصور المختلفة في وقت محدد في مجال التعبير الفني في الفنون التشكيلية. غير أنه ينبغي أن نميز بين عاملين( 4): أولهما: الأفكار أو الرؤى الجمالية Visions التي تطرأ على ذهن الفنان معبراً عنها بطريقة غير تخطيطية وهي موضوع الحدس لدى الفنان ، ثانيهما: القدرة على وضع أو تشكيل هذه الأفكار أو الرؤى أو الصور في صورة تخطيطية، وهو الأسلوب أو التعبير الذي يستند إلى مهارة التكنية أو “التكنيك”، فالذي نلاحظه أن الشخص العادي قد تكون عنده أفكار أو صور أو رؤى ولكنه لا يستطيع أن يصوغها في الشكل الفني المناسب أو يعبر عنها تعبيراً فنياً.
وقد وجد “غليفورد” ومعاونوه أنه في الاختبارات الكلامية وحدها توجد ثلاثة عوامل متميزة للطلاقة وهي: “الطلاقة الفكرية” التي تتعلق بنسبة توليد كمية من الأفكار، و”الطلاقة الترابطية” المنتمية إلى إكمال العلاقات ، و”الطلاقة التعبيرية” المحددة بسهولة بناء الجمل.
3= المرونة:
أما وظيفة “المرونة” فتتمثل في القدرة على تغيير وجهة النظر إلى مشكلة من المشاكل ولها أثر كبير في إنجاز الابتكار. وتعني المرونة في التفكير Flexibility القدرة على التكيف الفعال للتطورات الجديدة فتتضمن((تغييراً من نوع ما، تغييراً في
المعنى أو التفسير أو الاستعمال أو فهم المهمة أو استراتيجية العمل أو تغييراً في اتجاه التفكير الذي قد يعني تفسيراً جديداً للهدف)) ( 5)، وتختص في أنواع معينة من النشاط. فمرونة المصور في نظره إلى اللوحات وتنسيق الألوان لا تعني، بالضرورة، أن يكون مرناً في تناوله للمسائل الحسابية، التي تكون مادتها الأرقام. ويميز “غليفورد” من أنواع المرونة، المرونة العضوية Spontaneous Flexibility والمرونة التكيفية Adaptive Flexibility.
المرونة العضوية: وذلك على اعتبار أن الاختبارات التي تقيسه لا توحي بأن الممتحن مرن أو غير مرن. وهكذا فإذا طلب – إلى الممتحن أن يعطي قائمة بكل الاستعمالات الممكنة لقرميدة عادية فإن مجموع الاستعمالات التي يعطيها يعتبر مقياساً لعامل الطلاقة الفكرية عنده. ولكن المجرب في الوقت نفسه يأخذ بعين الاعتبار عدد المرات التي يغير فيها زمرة الاستعمالات، وهكذا فإذا قال الممتحن ان القرميدة تستعمل لبناء مدرسة وبناء معمل وبناء بيت فإنه لا يكون قد غيَّر زمرة الاستعمال. ولكنه حين يقول إنها تستعمل كثقل لمنع الورق من التطاير وكمطرقة لدق المسامير أو لضرب قطة شاردة أو غير ذلك فإنه يكون قد غير الزمرة في كل استجابة جديدة، ويكون بذلك قد اظهر قدرة على مرونة التفكير. المرونة التكيفية، وذلك لأنه يتحتم على الممتحن في الاختبارات التي وجد فيها هذا النوع من أجل أن ينجح أن يقوم ببعض التغييرات من نوع ما: تغييرات في تفسير المهمة، تغييرات في استراتيجية أو طريقة المقاربة. أو تغييرات في الحلول الممكنة. وتفسير غليفورد الحاضر لعامل الإصالة هو أنه مرونة تكيفية في التعامل مع المعلومات اللفظية(6 ).
الأصالة والطلاقة والمرونة هي العوامل التي تقوم عليها العملية الإبداعية، التي يجب توفرها عند العبقري بأعلى درجاتها. أما بالنسبة لعامة الناس فان هذه الوظائف مستقلة عن بعضها، مستقلة أيضاً عن الوظيفة الأولى، وظيفة إدراك المشكلات، بمعنى أن هذه الوظائف لا تتساند مع بعضها في إطار علاقة جدلية فيؤثر بعضها في بعض بالنسبة للتغيرات التي تحدث فيها سواء في السلب أو الإيجاب .
4= قدرة التوسيع والتجريد:
ومن عوامل الإبداع ما يسمى بقدرة “التوسيع” Elaboration وهي استطاعة الفرد على وضع تفصيلات أكثر لمخطط بسيط لموضوع ما وتوسيعه ورسم خطواته لجعله عملياً.
وتعد قدرات الطلاقة والمرونة والأصالة والتوسيع متشابهة، حسب “غليفورد” ومعاونيه، لأنها جميعاً تستدعي تنوعاً في الأجوبة، وكل هذه القدرات تنتمي إلى زمرة “التفكير المفرق” Divergent Thinking لأن الفرد، لإنجاز تلك القدرات، يبدأ بالمعلومات المقدمة إليه.
ثمة عوامل أخرى تعين على الإبداع منها؛ القدرة على”التجريد” Ability to obstruct وتشير إلى مهارة التحليل المتضمنة الكفاءة على تحليل عناصر الأشياء وفهم العلاقات بين هذه العناصر وكذلك إدراك المفاهيم الكلية والقدرة على التركيب Ability to Synthesize، وتعني القدرة على مزج عدة عناصر للوصول إلى كل مبدع. ومهارة إعادة التحديد Redefinition Skill التي تتضمن قدرة غير عادية لإعادة تنظيم الأفكار، المفاهيم، الناس، الأشياء، تبعاً لخطة معينة .
ج= وظيفة التقييم:
أما الدعامة الثالثة من دعائم الابتكار أو الإبداع كما أوضحها “غليفورد” فتتمثل في وظيفة التقييم التي نحكم بها على قيمة شيء ما أو موضوع ما من حيث ملاءمته لأن يوضع مع أشياء أخرى أو لأن ندخله في سياق معين( 7)، فلكي يختار الفنان من بين الصور والتكوينات والتشكيلات التي يستطيع أداءها لإنجاز عمله الإبداعي لابد أن يتمتع بقدرة التذوق والتقييم الفني.وهي خاصية النقد الذاتي المتمثل بالقراءة الواعية المتعمقة التي يجريها الفنان ـ باستمرارـ لعمله الفني،لاستكشاف مدى تحقق الشروط الخاصة بشعرية النوع الفني الذي ينضوي عمله في خانته.

هوامش :
( 1))ينظر: سيكولوجية الإبداع :ص ص 165 ـ 168
( 2) ينظر: الإبداع في الفن:ص87 ،89
( 3) الإبداع في الفن: ص56
( 4) ينظر: الإبداع في علم الجمال ـ محمد عزيز نظمي سالم ـ دار المعارف،مصر ـ ط1 ، 1975 : ص
( 5) الإبداع وتربيته:ص 29
( 6) المصدر نفسه:ص 31

تعليقات الفيسبوك

شاهد أيضاً

| طلال حسن : رواية للفتيان – خزامى الصحراء

إشارة: بعد أن أنهينا نشر فصول مخطوطة كتاب “حوارات” لأديب الأطفال المبدع العراقي الكبير “طلال …

هشام القيسي: أكثر من نهر (6) محطات تشهد الآن

ينفتح له ، وما يزال يرفرف في أفيائه مرة وفي حريق انتظاره مرة أخرى ومنذ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *