يستعير الروائي “عبد الزهرة علي ” المصطلح الطبي ” زهايمر”ويوظفه عنوانا لروايته الجديدة ” زهايمر x ” التي صدرت عن دار ميزوبوتاميا مؤخرا ً ، وهذا المصطلح يشيرالى مرض ” يصيب المخ ويؤدي الى فقدان الذاكرة والقدرة على التركيز والتعلم ” كما تفيد المصادر الطبية.
من الواضح أن ْ ليس بين شخصيات الرواية من هو مصاب بهذا المرض ، انما أراد الروائي بعنوانه هذا (وقد وضع فيه علامة النفي x )أن يوحي باستحالة محو الذاكرة العراقية أو أن هذه الذاكرة أقوى من محاولات محو ما ترسخ فيها من مواجع بدءا ً من 9 نيسان 2003 وهو تاريخ الاجتياح الأمريكي للعراق : “أعتقد انهم يريدوننا أن نصاب بالزهايمر كي ننسى هويتنا “(ص30 ) كما جاء على لسان جميل (وهو احدى شخصيات الرواية )، لنجد أنفسنا ازاء هجائية سردية لما سميت عملية التغيير ، وهو مصطلح ملتبس رديف لعملية الاحتلال او الاختلال ، لا فرق . فها هو الروائي يقول بنبرة اعتراض، على لسان فاهم ، (وهو الشخصية الرئيسة في الرواية ) : ” أيحسن بنا أن نجعل من التاسع من نيسان يوما ً للخلاص ؟” (ص 13 ) .
تقع الرواية في 146 صفحة من القطع المتوسط ، وتبدو المقتطفات التي اختارها الروائي من أقوال الشاعر الرصافي، كأنها مقدمة للرواية ، وهي تؤكد على ان الحقيقة هي جوهر الفعل الانساني : ” أكتب للحقيقة وحدها لا شريك لها عندي “، وأحسب للتاريخ حسابا ً وأجعل له منزلة يستحق بها أن أكتب ما أكتب ” (ص 5 ) ، ولا تنقص الروائي الجرأة على قول الحقيقة في هذه الهجائية السردية التي تتوزع على خمسة وعشرين فصلا ً قصيرا ً لا تحمل أرقاما ً انما أسماء الشخصيات التي تروي أحداث كل فصل بضمير المتكلم ، تتقدمها شخصية (فاهم ) الذي ينفرد بسرد ثمانية فصول ، وليس هناك ما يمنع الاعتقاد بانه يمثل شخصية الروائي نفسه لاسيما انه يظهر كاتبا ً روائيا ً هو الأخر . أصوات الروي هنا سبعة : أربعة منها رجالية والثلاثة الأخرى نسائية ، تتناوب على عملية الروي بصورة متواترة ، يضاف اليها صوت الرصافي الذي جاء به الروائي من الماضي ليكون شاهدا ًومرجعية يعود اليها في توثيق بعض ما يذهب اليه .
تتوقف الرواية عند المتغيرات التي حدثت للمدينة (والمدينة هنا هي بغداد تحديدا ً) وفي مقدمتها المتغير الديموغرافي : ” لم يعد ثمة وجود للبيوت التي تعرفها . فقد انتصبت مكانها عمارات أو أكوام سدت الدروب التي نسلكها .. جيرانك اليهود لم يعد لديهم وجود .. اصدقاؤك المسيحيون الذين كانوا يشاركونك الزقاق حصروا أنفسهم في أحياء لا يسكنها غيرهم أو في أحياء يكونون هم فيها الأكثرية ” (ص 10 ) ، وهذا المتغير سابق على الاحتلال الأخير بالتأكيد، والى جانبه ثمة متغيرات أخرى وهي سلبية في مجملها مثل المتغير السياسي والأمني والاجتناعي ثم المتغير الأخلاقي ، وهي متغيرات متداخلة وكان لها حضور ولكنه خفي قبل الاحتلال غير أنه أصبح ظاهرا ً معه بفعل الفوضى المصطنعة التي رافقته . تقول الرواية على لسان فاهم (ولنلاحظ دلالة الإسم هنا ) :” أكثر الذين انضموا الى الأحزاب الجديدة بعد التغيير هم من أولئك الذين عاشوا طويلا ً تحت عباءة النظام السابق .. تعلموا كل الطرق التي تحفظهم . كان هدف انضمامهم المحافطة على انفسهم وكسب المنفعة ” (ص 11 ) و ” لا أتصور عهدا ً تفشت فيه الرشوة والاختلاس أكثر من عهد التغيير ” (ص 11 ) . وتقدم الرواية في شخصية فرهود نموذجا ًللانحلال الأخلاقي بسلبيته المفرطة (ولإسمه دلالة موحية ترتبط بالفرهدة أو النهب ) ،هذه السلبية الناشئة عن خلل نفسي واحساس بالنقص، فقد ” وشى بالكثير من الشباب الهاربين من محرقة الموت .. وأوقع بالعديد منهم من الذين يغار منهم ممن كانوا زملاءه في الدراسة الابتدائية .. حيث هم واصلوا دراستهم .. أما هو فقد ترك مقاعدها منذ زمن طويل ” (ص 35 ) ، وبلغت دناءته ذروتها حين قام باغتصاب وديعة التي كان يلاحقها بحبه . وتلقي الرواية الضوء على ماضي فرهود هذا من خلال الرجوع الى حالة البؤس التي كان يعيشها هو وعائلته ، وعربة النفط التي يجوب بها الطرقات ، وقد سعى لأن يثأر من تلكم الأيام . ووجد في فاهم غريما ً له ينافسه على حبه لوديعة وارتكب فعلته الشنيعة معها انتقاما ً منه: ” خرجت فزعا ً وأنا أفيض غيضا ً على فاهم الذي هزأ مني أمام الجميع وأنا أردد سوف أنتقم منك يافاهم وأنتقم من وديعة . ذهبت الى أقرب حانة . هناك احتسيت قنينة عرق كاملة فدب الخدر في جسدي لكنه لم يستطع أن يهدىء فورة انتقامي .. اتجهت الى الزقاق الذي تسكن فيه وديعة وأمها ” (ص 51 ) .غير ان هذا النموذج الغارق في سلبيته ما يلبث أن يتسلق السلّم الاجتماعي على عجل ولكن بطرق ملتوية تعتمد الدناءة اسلوبا ً، جعلت منه شخصية مرموقة من جماعة ” الحاج ” الذي ظل شخصية مجهولة وغامضة ، وقد وضع نفسه في خدمته : ” اقتربت بصحبة هيفاء الى كرسي الحاج وأنا أقدمها له كهدية متواضعة ” (ص 78 ) ، ليكافئه الحاج بقوله ” سيد فرهود من رجالي المخلصين الذين أعتمد عليهم كثيرا ً .. ولهذا سأرشحه الى الانتخابات المقبلة . ” (ص79 ) . وهيفاء هذه فتاة ذات جمال باهر، ابنة رجل بائس أصبحت رأسمالا ً له ، استدرجها فرهود للعمل معه لغاية في نفسه : ” أحسست بأني أغور في طيات جسدها البض والطافح بالنشوة .. سحنتها المترعة بالبياض تجعلني أشعر بالرضا والارتياح تجاه الحياة ما دام يحيط بي خدم وحراس وطعام لذيذ ونساء جميلات .. أضرب صدري بإحدى يدي وأتراجع الى كرسيي الجلدي العالي ” (ص 52 ) وهي صورة تتقاطع مع صورته أيام طفولته وشبابه والتي ينتقم منها الآن . لقد أحسن الى عواد والد هيفاء حين حوّل الصريفة المعدة لبيع الشاي والمأكولات أمام المؤسسة التي يديرها الى كافتريا : ” مد فرهود يده الى جيبه وأخرج رزمة من المال . ناولني النقود باليد التي يلمع في اصبعها فص خاتم من العقيق ” (ص 56 ) . ولم يفعل ذلك لوجه الله انما طمعاً في الاستحواذ على هيفاء ، فقد كانت عيون حمايته ” تبحث دوما ً عن الفتيات الجميلات . ولما وقعت عين أحدهم على هيفاء … … قال في نفسه ان فرهود يرغب في فتاة جميلة جدا ً كي يستخدمها طعما ً يقتنص به مودة سادته والمتنفذين على منصة القرار ” (ص57 ) وكأن الروائي أراد أن يسقط فرهود ، بما يرمز اليه ، في الحضيض .
تستهل الرواية بقول فاهم ” صعقتني جثة الرجل المسجى على الرصيف ” (ص 7 ) ، ويشكل هذا الاستهلال مدخلا ً مناسبا ً للولوج الى يوم 9 نيسان بما جاء به من كوارث وهاهو فاهم صاحب جملة الاستهلال يشي بهذه الكوارث بقوله : ” بعد التغيير كثرت السيطرات والجرائم والحواجز الكونكريتية . لفحني هواء عاصف فجأة .. ثم عوت السماء بزوابع وعواصف وبرقت بوميض خاطف . فاضت الشوارع بالأمطار وانتشرت البرك . طارت نوارس دجلة خائفة . ساحت على الشواطىء جيف نتنة ” (ص7) . وفي الساحة يغادر الرصافي قاعدة تمثاله ليحضر جسدا ً وصوتا ً ، عن طريق الاسترجاع الذي يجد الراوي من خلاله فرصة العودة الى وثبة كانون 1948 ودماء الشهداء التي سالت على الجسر الذي صار يحمل اسمهم . ويقوم الراوي والرصافي بسياحة مكانية قصيرة عبرا خلالها الى الضفة الثانية مارين ببعض معالم الكرخ القديمة وكأن الحنين استبد بالراوي الى الماضي الذي شاء أن يقارن به الحاضر المحكوم بالخراب .
ويزج الروائي بشخصية جميل نموذجاً غير سوي ليجسد من خلاله صورة البؤس والضياع التي تعانيه شريحة من الناس . لقد بدا جميل هذا غريبا ً وغامضا ً ، قريبا ً من نموذج المشردين . فها هو يقول عن نفسه ” في زقاق منزو ِ جلست قريبا ً من القمامة ….. لم يكن أحد سواي وبضعة كلاب تتمرغ في القمامة وظل باهت لبيوت متهاوية ” (ص 18 ) . وما نلبث أن نكتشف ان جميل هذا صديق قديم لفاهم دأب على التمرد على سلطة أبيه الذي دعاه لأن يداهن ويستكين لكنه لم يفعل : ” كنت أفعل كل ما يجول في خاطري بشجاعة واصرار. حتى خرجت من فمه نار أحرقتني حين قال انك لقيط. عثرنا عليك في يوم شتائي مرميا ً بالقرب من القمامة . عندها أدركت انه على الرغم من حبي للرجل الذي رباني ، فقد كان غريبا ً عني” ولعل هذا الاحساس كان وراء جنوحه نحو التمرد . يقول عن نفسه : ” الذي يراني أول وهلة يحسبني صعلوكا ً بليدا ً . ولا يبدو ان لدي رغبة بأي شيء في الحياة . لكن الذي يدخل في داخلي يعرف انني صاحب أحلام لم أستطع الوصل اليها ” (ص 41 ) ، فهو إذن شخصان متناقضان، ظاهر وخفي ، في رجل واحد .
ان هذه الرواية الجريئة تقوم لغويا ًعلى المزاوجة بين لغة السرد الواقعي الذي يعتمد المباشرة ولغة الوصف القائمة على انتقاء المفردة . ولعل من أبرز ما يحتسب لها في خاتمة أحداثها انها جمعت بين فاهم ووديعة برياط الزوجية ، متجاوزين المحنة التي ألحقها بهما فرهود وهو في ذروة سقوطه الأخلاقي ، ليقدما صورة من صور التحدي الانساني لكل ما هو غادر وخسيس .