يعتبر هذا النمط الغريب من الشعر كعلامة خاصة بإسم اليابان ، وكأنهُ موروث مقدس لايجوز الإخلال بهِ وتغييره ،حيث الكل يتعاطاهُ وبنفس الذائقة المنمقة بالتعبير، عاطفتهم الشفيفة وطقوس عاداتهم قد طرأت على شخصيتهم المرنة بالتعامل .
تغلغل هذا النمط من الشعر في وجدان المجتمع كلياً، فما من شخصٍ إلا ويترنم بمقطوعة من “الهايكو “– بدراية أو بدونها – المهم تحريك عواطف طازجة في مكمن الذائقة ,حتى بدأ لهم بأنهُ نابع عن أصالة ،لذا وظف على مدار السنة ، وأتخذت المواسم والفصول والكائنات كرمز معلوم بتعويض المفردة ،هذا التقابل بالمعنى يكفي دلالة واضحة بأنهُ يعني ذلك الفصل بالذات ، هذا الإسلوب الشعري هو ” الهايكو ” فكلمتهُ المؤلفة من مقطعين هما أولاً – هاي – وتعني الممتع – ثانياً – كو –وتعني لفظة ،ولو عدنا تركيبهما = اللفظة الممتعة أو الكلمة الممتعة ، لما لها إستذواق فني في نفسية المجتمع ، حيث يقوم الشاعر بتوظيف ألفاظ بسيطة مستمدة من الطبيعة – كمنظر الثلج =الشتاء ، تفتح الزهور =الربيع \ السراب والسموم =الصيف \ تساقط الأوراق =الخريف ، وهكذا كان إختصار السنة تعويضاً بهذه الرموز .
هذه الأحاسيس من المشاعر الانطباعية يتحسسها لحظة التأمل ويصبها في قالب يتضمن دلالة واضحة إشارية – رمزية – تعويضية وكما يقول: :
من الدّيرلمْ يبقَ
سوى البوابة
محاط (..ـة) بمرج شتائي
إستدلال – الثلج – بأن الفصل شتاء حتى ولو لم يذكره ، فالمقطع – لم يبق َ- سوى البوابة –أناب عنهُ – كدليل على أن فصل الشتاء والثلج قد غطى الأرجاء – يعلمنا بأن الشتاء الياباني معلوم بوفرة الثلج ،فاللغة اليابانية هي لغة إعلام وسياقية حيث تنشأ الجملة من الفعل ،ففي رؤى الهايكو يشتدّا لتوجه نحو الضربة الأخيرة في النص أو المقطع كدلالة مثل – مرج شتائي -ختمت المقطع كلياً بإزاحة ما ورد في الاستهلال كلياً :
دفقة من مطر الربيع
تأمل لوحات الكتب هذهِ
من تحت مظلتكِ !
يلاحظ للقارئ بأن لغة اليابان الشعرية قصدية ، إنها تُستعمل المفردة المراد توظيفها بشكل مقصود ، دون شعورية التعبير الإيحائي للمفردة كعنصر أساس في بناء النص عفوياً،لذا تزيل غموض الرمز وتقضي على المتعة بإستنطاق النص ، فالربيع فصل الضباب والنسيم والمتغيرات المناخية التي تجذب المشاهد والسامع معاً – الطبيعة الخلابة تغري الطيور بالتغريد والإنسان بالمرح والغناء بذكرى تتجدد بطقوس كل عام ،لذا يتحسس المرء ذلك في التأمل الروحي لها بأشيائها القدسية لهُ :
ليلة صيف قصيرة
سراجي لا يزال مشتعلاً
أصغِ ! إنها تدّق الرابعة
الزمن محور خاص وبارز في نمط الهايكو ،منها ما يذكرهُ بقصدية في إعلان التوقيت ،كي يبان من خلال ذلك تأريخ كتابة النص – إمتداد الموسم بلحظة يذكرها في المقطع ، يبدو أن السراج لم ينضب زيتهِ- لذا تراهُ مشتعلاً ، الساهر المتأمل الأثير يصغ لدقات الساعة – الرابعة فجراً ،هذه القصدية أزاحت اللذة المبتغاة عن تأويل المتلقي أصلاً. أن قصائد الهايكو – مكثفة – مبسطة – مختصرة – حيث ميدانها الطبيعة والذي يستمد منها الشاعر كل أدواته ورؤاه الطازجة :
كيف تهبُ رياح الخريف
ولكننا مازلنا نعيش
كلانا ، أنت وأنا ؟
إستغراب مميز وحصري وبسؤال غريب ، إندهاشة عجيبة بهذا المقطع ، ربما نجاة من إعصار – زلزال – بركان – قوى الطبيعة مؤثرة في نفسية المجتمع الياباني عموماً ،لهذا وظف بالصيغة المدهشة للمتلقي – كعتاب لفصل الخريف يمرُ دونما إعصارمؤثر ، فالخريف صفاء هذا الموسم – أجمل فصول السنة ،لكن ذبول أوراقهِ وصفارها يدلُ على فناء الروح ،إستغراب مازلنا نعيش – مسايرة لحقيقة موغلة في القِدم وعبر معيار نفسي متأصل كموروث لديهم – كون أغلب المجتمع يعتنقون ديانات وضعية – أرضية – لذا تتراكم لديهم طقوس للطبيعة وقداسة مؤثراتها دفعاً للبلاء ، فالطبيعة بحد ذاتها محور ومرتكز أكثر القصائد في بالتوظيف وذلك لرسوخ مفرداتها في متناول موضوعات لاحصر لها من جمالية التضمين المبهر الأخاذ بروح مرحة مستسلمة للذوق الرفيع
عدنان أبو أندلس : تحديّد الفصول بعتويضٍ شِعري الشاعر الياباني “ماسا أوكا شيكي” في مقاطع من “قصائد الهايكو”
تعليقات الفيسبوك