نوح الحمام هي مجموعة قصص قصيرة وقصيرة جداً للشاعر والقاص طالب حسب ، تأتي بعد ثماني مجموعات شعرية ، هي ( تأبين عائلي ، أتهجّى حكمة التراب ، ثريات أور ، مرارات ، لم يعد الصمت ممكناً ، زهايمر ، خريف الأسئلة ، وطن في قبعة ) وقصائدها جميعاً تنتمي إلى قصيدة النثر . وطالب حسن شاعر من جيل الثمانينات ، لم يقدم نفسه ضمن الإطلالة الأولى لجيله ، وأرجأ ظهوره إلى ما بعد أكثر من عقدين من تلك الإطلالة وهو اليوم ظهور مكثف وملفت ويستنزف الكثير من الدأب والحركة اللذين يحسد عليهما ، واللذين ما عادا يتناسبان مع مرحلة أفول الشباب .
تتميز قصص المجموعة بزحمة في التفاصيل وبجرأة في الاستغناء عن الزوائد والاستطرادات ، وتكثيف الرؤية ، وشعرية الصياغات ، إضافة لذلك فأغلب القصص تتدفق مسترسلة بدون توقف بنفس واحد من البداية حتى النهاية في وحدة مقطعية تشبه إلى حد كبير القصيدة الجديدة التي من الصعب حذف أي سطر او مقطع منها دون أن يترك ذلك خللاً بيناً .
تتكون المجموعة من سلسلتين من السرود ، الأولى : تضم ست قصص قصيرة قدمت بعد عنوان تجنيسي عام هو ( قصص قصيرة ) . والسلسلة الثانية : تضم ثماني وخمسين قصة قصيرة جداً ، قدمت مسبوقة بعنوان مقطعي مجتزأ من نص غنائي شائع في الموروث الشعبي هو ( حمام .. يلي ) . وكنت أود لو أن الكاتب قد اعفى مجموعتي القصص من هذا الفصل التجنيسي الذي يبدو غير مقنع ، وجمع السلسلتين معاً تحت عنوان واحد هو قصص قصيرة جداً ، لا سيما أن كل القصص القصيرة الست ( في السلسلة الأولى ) هي بقياس الحجم تتراوح ما بين ( 3 – 6 ) صفحات من القطع المتوسط وهذا يؤهلها لأن تكون قصصاً قصيرة جداً وليست قصصاً قصيرة ، فمعيار الحجم بالرغم من شكليته هو أحد المحددات التجنيسية التي اعتمدها دارسو هذا النوع السردي . علماً إن أحجام كل قصص المجموعة تتراوح ما بين ست صفحات وسطر واحد من ثلاث كلمات ( قصة فأر ) .
ألإطار الدلالي لأغلب قصص المجموعة هو تداعيات الانهيار في الوضع العراقي العام في أعقاب الاحتلال الأمريكي . وتضيء ثريا العنونة هذا الإطار عبر مفردتها الأولى ( نوح ) التي جعلها المصمم حمراء إشارة إلى الدم أو إلى الخطورة وكلاهما من منظومة رمزية واحدة . وتبدو النية مقصودة من الفصل اللوني لمفردتي العنوان ، حيث جاءت المفردة الأخرى ( الحمام ) بلون السلام / الأربيض ، بينما هناك فاصل بين المفردتين من ثلاث نقاط متصلة اشبه بوقف مشدد يُمنح عبره المتلقي فرصة التأمل في دلالات المفردتين ودلالات اللونين . ومن الناحية السيميائية فإن الترميز الاعتباطي للسلام باللون الأبيض أو بالحمام ليس جديداً ، وله جذر قديم يعود إلى الطوفان الأول حسب الرؤية الدينية المتداولة ، وقد أعيدت صياغته في أعقاب الحرب الكونية الثانية ليكون رمزاً حياً في نضالات الشعوب المحبة للسلام . كما أن اقتران مفردة الحمام بالنوح هو الآخر ليس جديداً ولا مستغرباً ، بل لا يعكس أية دلالة حزن ، فقد اعتادت الذائقة العربية وصف هديل الحمام بالنوح . ولكن الجديد ، والدال هو أن يكون نوح الحمام إحالة رمزية لما آلت إليه المأساة العراقية من كوارث ونكبات . هذا وقد جاء النص الموازي للإهداء هو الآخر ليمهد طريق القراءة والتأويل من منطلق تراجيدي صادم ، متخذاً من ضحايا العنف العراقي صوراً مستنسخة عن المسيح المصلوب ( إلى كل الذين غابوا في طريق الجلجلة العراقية ) . وتبعاً لتلك المعطيات الإبتدائية فليس من غرابة أن يكون العنصر الدلالي المشترك في أغلب قصص المجموعة هو الإحساس بالألم والرعب والفجيعة والفقدان ، ومن الواضح أن تلك الموضوعة ليست نمطية وليست ضيقة ، بل هي حيوية وتسمح بالمزيد من التنويع من داخلها ، فهي تتلبّس في أكثر من صيغة لغوية ، وفي أكثر من مفردة ، وتتخفى طية أكثر من إيحاء .

يلتقط الكاتب صوره وأحداثه ومشاهده السردية من فضاء الكارثة ، ويعيد صياغتها بأسلوبية مرنة تراوح ما بين التراجيديا الفاجعة دوماً ، وما بين الكوميديا السوداء أحياناً ، ولكن الأخيرة لا تتعالى أو تهوّن من الألم ببطولة دونكيشوتية شعارية فارغة ، بل تستل المفارقة من الألم بحس إبن الشارع البسيط ووعيه العفوي النفاذ ، تلك المفارقة التي تجمع ما بين رؤيتين ، رؤيته هو ومن يقف في صفهم من الناس من جهة ، ومن جهة أخرى رؤية من يديرون الأحداث من وراء منضومات السلطة والاعلام كما في القصص القصيرة جداً (عاجل / مرض عضال / مترجم / أمطار / حصانة / صورة / إعتذار فضائي ) وسنتوقف عند قصة ( فضائي ) التي لم تتجاوز الأربعة سطور ، لكنها انطوت رغم قصرها على مفارقة ذكية فعّلها الاشتغال على ثنائية ( اللباقة / الخرس ) :
( عندما رآه على شاشة إحدى الفضائيات وهو يناطح الآخرين برأسه ، ويده ، ولسانه بكل ما أوتي من قوة وفصاحة ، تذكر فوراً أنه نفس صاحبه القديم الذي كان فيما مضى يوهم الجميع بأنه … أخرس )
والحقيقة أن طرفي الثنائية المعنيين ضمناً لا علاقة لهما بطرفيها المعلنين صراحة ، إذ أن القصة تنبش في المعنى الخفي ، وتستثمره في عكس الصورة المتولدة عن لقاء طرفي الثنائية من أجل محاورة وضع قائم ، يستمدّ فعاليته من الصراع السياسي ، وبروز قوى على السطح تستعين بأدوات مضللة في الكسب والانتشار . وإن كان الخَرَس هو سلاح مرحلة الانغمار والتواري قد ضمن لصاحبه البقاء في الظل بعيداً عن المواجهة ونزاع الأقوياء ، فإن لمرحلة الكسب والانتشار سلاحها أيضاً ممثلاً بطلاقة اللسان ، وهذا السلاح ضمن لصاحبه الخروج من سجن الخرس / مرحلة الإنغمار إلى العلن / مرحلة الانتشار ، تمهيداً للدخول إلى حلبة المواجهة والانضمام إلى جماعة الأقوياء . وعلى عكس هذه المواجهة الساخرة تأتي القصص الأخرى لتقنص من تراجيديا الموت العبثي كل ما تبثه من دموية ورعب ، ففي قصة ( صدى ) يتحول الخوف والقلق على مصائر الأحباب إلى هاجس مُنبيء بضربة القدر المقبلة ، وهو هاجس قد يُخطيء الهدف وتلتبس عليه المصائر ، ولكن إخطاء الهدف لا يلغي حقيقة أن الضربة واقعة في موعدها لا محالة على حبيب أو قريب ، هذا ما جرى للأب الذي ظل قلقاً متوجساً من أن مكروهاً ما سوف يقع ، بعد أن أوصل إبنه بنفسه إلى الجامعة ، من دون أن تكون هناك دواع ملموسة لذلك التوجس . والمكروه في قاموس القلق العراقي يعني الموت ، ومن أجل ألا تطفح موجة القلق والحزن من عينيه فتفضحه أمام زوجته ، راح يُشغل نفسه ، ويبدد قلقه في أعمال مرهقة ، فإرهاق البدن يخفف العبء عن الروح . ولكن التواصل الروحي ما بين الزوج وزوجته كان مثل جهاز استلام الموجات الراديوية ، يلتقط ، ثم ينقل إلى الزوجة ذبذبات وموجات القلق التي تبثها عيون الزوج ، وكانت مراقبتها له من خلال شباك المطبخ وهو منهمك في عملية تبديد القلق دليلاً على نجاح جهاز استلام الموجات الروحية لديها في إداء عمله . ومن الواضح أن قلق الزوج هو المظهر الأول لترجمة الإحساس بصوت القدر المنبيء والدفين والذي تجلى بدءاً من السطر الأول للقصة على شكل ( مخاوف وظنون ) ، وهذا المظهر هو مظهر ذاتي وباطني معاً ، ولكن ذاتيته وباطنيته لم تمنعا أثره من التجلي على ملامح الزوج من جهة ، ومن جهة أخرى لم تعيقا الزوجة من الإحساس بأثره . بينما المظهر الثاني هو مظهر مادي يتجلى في النهاية الفاجعة للقصة بمقتل الزوجة ، والذي لم تطاوع فداحة الحدث الكاتب من الإفصاح عنه بصراحة ، واكتفى بالتلميح عنه بعبارات مواربة لكنها تختزن الكثير من الإحساس بالنكبة والخسران .
وفي قصة ( جيرة ) يتحول القلق على مصائر الأحباب كما كان في قصة ( صدى ) إلى قلق على علاقات الجيرة التي بددها شعور مفاجي بالكراهية إكتسح الجو العام ، وعبث بأنبل مشاعر الحب والصداقة بين أبناء الوطن الواحد . ومن أجل تكثيف صورة الأسف والإحباط يستعير الكاتب مفهوم ضربة الختام الخاطفة في بناء نهاية القصة التي جاءت مباغتة من مفردة واحدة لا غير لتختزن دلالات السطور الستة التي سبقتها . فالجيرة تتسع في المفهوم الشعبي العراقي لمعاني الأخوة أيضاً ، والجيرة التي تتحدث عنها القصة القصيرة جداً ذات دلالات مفهومية مجردة ، بلا شخصيات محددة ، ولا أطر مرجعية ، وهي بهذا المعنى تشيع جواً تعميمياً يدخل ضمنه كل الذين تعاملوا مع المفردة عن قرب ، وتلمسوا حرارة إيحاءاتها . وبلا ريب إن الجيرة بالمعنى الواسع الذي أراده الكاتب هي العلاقة التي كانت تجمع ما بين أبناء العراق ، وقد حددت القصة طبيعة هذه العلاقة الجامعة :
– كانوا أكثر من إخوة .
– يتقاسمون مقادير الحياة في السراء والضراء .
– كان من النادر مشاهدة أحدهم يوماً بمفرده .
ويحدد الكاتب ضمن الفقرة الأخيرة فضاءات اللقاء ما بين أبناء الجيرة ، والتي لا يُرونَ داخلها منفردين ، وهي :
– لا في شارع
– ولا في مقهى
– ولا في مجلس عزاء
– ولا في حفلة عرس
ولكن عمر هذه العلاقة كان محدداً في سجل الزمن إلى يوم ما ، بانتهائه تكون صيغة تلك العلاقة قد انتهت أيضاً . وبحلول يوم آخر وصف بالمشؤوم ، تكون قد حلت صيغة علائقية أخرى لا تقل عنه شؤماً ، ويلاحظ التطابق الوصفي ما بين المراحل الزمنية من جهة ، وشكل العلائق بين الناس من جهة أخرى سواء في ( ألماضي / ألجيرة ) أو في ( ألحاضر / أليوم المشؤوم ) . ولكن ما هي طبيعة الشؤم الذي ميز العلاقة الجديدة التي حلت في اليوم الجديد المشؤوم ؟ هنا تضرب القصة ضربة الختام الدالة مُختزلة بكلمة واحدة فقط هي ( ضغينة ) ، فقد انتهت علاقة الجيرة و ( جاء ذلك اليوم المشؤوم الذي لم يعد فيه أحد يرى الآخر إلا من وراء …. ضغينة ) . وعلى عادة الكاتب في استخدام البياض ، والفراغات ، وعلامات التنصيص والنقاط كعلامات غير لغوية دالة ، يستخدم الكاتب سلسلة من النقاط الموصولة للفصل ما بين المفردة الأخيرة ( ضغينة ) والجملة التي سبقتها ليمنح القاريء فرصة التفكّر والتأمل في الخيارات المحتملة للعوازل الروحية التي تفتت تماسك الجيرة وأبنائها ، لكن بالتأكيد لن تكون هناك مفردة تحقق الصدمة التي اختارها القدر ، والتقطها منه الكاتب أقسى من أل (ضغينة ) .
وحتى في القصص التي لا تتناول مأساة الصراع المجتمعي والحروب تناولاً مباشراً إلا أن ظلالهما تبقى حاضرة بشكل أو بآخر ثقيلة ومؤثرة على مجريات الأحداث ، وهذا ما يرشح من القصة الأولى في المجموعة ( حياة أخرى ) التي تتحدث عن صياد سمك بذراع واحدة سليمة ( كانت يده الأخرى قد ذهبت بها الحرب ) تسرق منه سمكته الوحيدة التي اصطادها بعد عناء . ومن أجل تهيئة أفق القراءة لتقبل نهاية غير متوقعة ، يضخ الكاتب في مستهل القصة سيلاً من التفاصيل الدقيقة يؤثث بها أبعاد المشهد السردي الذي سيتحرك داخله بطله المعاق بدنياً . وسرعان ما تنبسط وتتفاعل وتنمو تلك التفاصيل لتشكل الوحدة السردية الكبرى الأولى فيها ، والقصة هي بمجملها مكونة من وحدتين كبريين ( والكبر والصغر هنا مفهومان نسبيان ، فنحن نتحدث عن قصة قصيرة كما سماها كاتبها ، ونحن نراها قصة قصيرة جداً ، فهي بقياس الحجم لا تتعدى ثلاث صفحات من القطع المتوسط ) . هذا ، وأن كل وحدة من الثنتين تمثيل مقطعاً نصياً مستقلاً حدثياً عن الآخر ومفصولاً عنه بفاصل .
ألوحدة الكبرى الأولى : والإطار الحكائي لها هو الصيد ، والشخصيتان المحوريتان في هذه الوحدة هما الصياد والسمكة الكبيرة ، ولا غرابة أن تكون السمكة شخصية سردية ، فدارسو السرد لا يُقصرون مفهوم الشخصيات على الإنسان فحسب ، بالرغم من أن السمكة هنا لا تؤدي دوراً صراعياً كسمكة همنكواي ، فوجودها هنا ميتة يفتقد إلى الفعل ، لكنه لا يفقتد إلى الفعالية إذ أن ثمة علاقة سببية تربط ما بين السمكة وبين الصياد ، وأن وجودها جسداً ميتاً هو الذي قدم المسوّغ لوجوده الحي ، والدور الذي أدته من خلال جسدها الميّت هو الذي منح الدور الذي أداه الصياد المعقولية والقبول فوجودهما معاً هو وجود العلة والمعلول .
وهذه الوحدة تتكون من طبقتين زمنيتين ، الأولى : هي طبقة الحاضر ، وتتوزع إلى ست وحدات صغرى هي :
– إرتفعت فوق رأسه شمس آب
– حبات العرق تتصبب من جيده
– كان لا يزال يمسك بالسمكة التي اصطادها للتو
– غرز في خياشيمها خيطاً
– لف – الخيط – بإحكام حول معصم يده اليمنى
– كله أمل بأن الله سوف يكافئه بصيد ثمين
أما الطبقة الزمنية الثانية من الوحدة الكبرى الأولى فهي طبقة الماضي التي تستدعيها وتُفعّلها ذاكرة الصياد ، وتتكون من خمس وحدات صغرى أيضاً :
– لم تعلق في سنارته أية سمكة كبيرة
– غيّر مكانه أكثر من مرّة
– لم يستطع غير اصطياد بضع أسماك صغيرة
– كان يرمي الأسماك الصغيرة في النهر
– …. وقد كان له ما أراد
والوحدة الصغرى المشتركة والجامعة ما بين الطبقتين الزمنيتين ، والتي تتكرر في كل طبقة زمنية بصيغة مختلفة عن الأخرى هي الوحدة الثالثة من الطبقة الأولى ، وتقابلها الوحدة الخامسة من الطبقة الثانية ، وكلاهما تحيلان إلى حدث واحد منظور إليه من لحظتين فارقتين ، اللحظة الأولى هي الماضي القريب يؤكد ذلك اقتران أداة النفي ( لا ) بالفعل المضارع الناقص ( يزال ) بما يفيد الإثبات ( نفي النفي إثبات ) ويفيد كذلك الإستمرارية إلى زمن التكلم ( كان لا يزال يُمسك بالسمكة ) واللحظة الثانية هي الماضي البعيد ( وقد كان له ما أراد ) والبعد هنا نسبي توحي به الصيغة اللغوية التي ربما تتعارض مع واقع الحال ، فالفاصل الزمي معدوم ما بين لحظة نطق السارد المفارق للعبارة ولحظة نيل الصياد مراده .
ألوحدة الكبرى الثانية : وهي تتكون من مجموعة من الوحدات السردية الصغرى المتداخلة ببعضها تداخلاً زمنياً وحدثياً يصعب تفكيكه على عكس ما جرى في الوحدة الكبرى الأولى ، وأن إرغام هذا النوع المصهور من النصوص على التفكيك لن يقدم قراءة أمينة لاسيما أن تضافر وتداخل وحداته ساهم في تقديم مشهد متكامل لعملية بيع مخفقة ، وإضاءة الجوانب الخفية التي طبعت سلوك المشتريين – اللصّين – الإثنين . وبالعموم فإن الإطار السردي لهذه الوحدة / المقطع النصي يغطي محاولة الصياد بيع السمكة . وبإضافة المشتريين الإثنين اللذين يستقلان سيارة فارهة ( وفراهة السيارة في موضع مفارقة مع سلوك صاحبيها ) تصبح للقصة أربع شخصيات . ويغلب على هذه الوحدة الطابع الحواري ما بين الصياد والمشتريين ، ولكن الحوار فيه متقطع ، ومرد تقطعه عدم إكمال الصياد معطياته السردية المرتبطة بصيده :
– فهو لم يزن السمكة قبل عرضها للبيع .
– وهو لم يحدد لها سعراً .
ولذلك ظل سؤال المشتريين عن السعر يتكرر دون إجابة ، والإلحاح في تكرار السؤال هو لعبة سردية أوكلت لهما من أجل أن يوهما البائع بجديتهما وأمانتهما ، وهي جزء من لعبة المخادعة التي انطلت على الصياد فلم يتنبّه إليها إلا بعد أن كانت قد انتهت .
وقد يبدو البناء الزمني لهذه الوحدة أنه من طبقة واحدة ، ولكن ذلك ليس سوى إحساس مضلل ، لأن التأمل في النص يكشف عن أن ثمة استباقاً لحدث ما في المستقبل هو سرقة السمكة من قبل راكبي السيارة ، وقد لمّحت للحدث المستقبلي ، أو مهّدت له ثلاثة أحداث مبهمة آخرى في الحاضر ، وفي تلك الأحداث الثلاثة تم اقتسام عمليات التبئير ما بين الصياد مرّة ، وما بين راوٍ محتجب ومفارق وعليم مرة أخرى . والأحداث الثلاثة بحد ذاتها تمثل صيغتين من صيغ التبئير ، ففي الحدثين الأول والثاني يتم التبئير بصرياً مع محاولة مخفقة للتبئير سمعياً ، وفي الحدث الثالث يتم التبئير شعورياً ، أما الأحداث الثلاثة فهي :
– الحدث الأول : جاء على لسان الراوي وهو يروي بإحساسه العليم عن الصياد ما كان يلاحظه / يُبصره على المشتريين ، وهي ملاحظة كان يحاول تطويرها تبئيرياً لتصبح سمعية أيضاً ، ولكنه أخفق بالتقاط فحوى كلام الإثنين ، فعملية التبئير هنا منجزة من قبل الصياد ( .. ثمّ رأى السائق يضغط أحد الأزرار ، ويهمس في أذن الرجل الذي كان يجلس في المقعد الأمامي بكلمات لم يفهم فحواها ) .
– الحدث الثاني : جاء متحولاً بصيغة نظرات متبادلة ما بين السائق والراكب الجالس إلى جواره ، وقد مكن عمل التبئير الراوي من التقاط صورة تلك النظرات المتبادلة بين الإثنين ، وتوصيفها بأنها ذات مغزى دون أن يتمكن من كشف وتفسير ذلك المغزى الذي فيه إحالة خفية إلى حالة الإستباق الزمني المشار إليها أنفاً ( تبادل الرجلان السائق وصاحبه نظرات ذات مغزى ) .
– ألحدث الثالث : يجسد القدرات الإدراكية ما وراء الحسية للراوي العليم بتمكنه من التبئير شعورياً لحالة نفسية مبهمة عاناها الصياد فجأة وللحظة خاطفة من الزمن عندما شعر ( بغثيان يعتصر أحشاءه ) وهذا الشعور يستبطن حالة قلق مبهم جاء مقترناً مع وضع السمكة في صندوق السيارة .
وفي الوحدتين الكبريين / المقطعين النصيين تصبح الذراع التي خسرها الصياد في الحرب علامة سيميائية ذات دلالات شتى ، فقد وردت الإشارة إليها إشارة صريحة مرة واحدة في الوحدة الأولى ، ووردت الإشارة إليها عبر التلميح بغيابها مرتين في الوحدة الثانية . ولم تكن الإشارة الأولى مقرونة بفعل تؤديه ، فهي لم تتجاوز حدود الإخبار ، ولذلك حصرت الإشارة إلى اليد المفقودة دون تخصيصها كجملة اعتراضية ما بين قوسين ( كانت يده الأخرى قد ذهبت في الحرب ) وقد وردت تلك الإشارة مباشرة في أعقاب فعل أدته اليد اليمنى بصيدها لسمكة كبيرة ، ثمّ ربط الصياد للسمكة بخيط رفيع حول معصمها تأكيداً على أن هذا الإنجاز لهذه اليد . وربما تكون دلالة التعاقب المباشر لفعل اليد اليمنى والتذكير بذهاب اليسرى هو أن السليمة تعوض عن عجز الأخرى . أما المرتان الأخريان ، فلم ترد – كما أسلفنا – الإشارة لليد المبتورة واضحة وصريحة ، لكن وردت إلى السليمة ، وكأن تلك الإشارة مقصودة للتلميح إلى حقيقة أن يد الصياد الأخرى ليست سليمة / مبتورة . جاء ذلك في سياق مهمة الصياد الثانية / التسويقية خارج ضفة النهر ، وفي الشارع وهو يلوح ببضاعته للسيارات العابرة ( حيث يقف هو ، وقد رفع يده السليمة ، وكأنه نصب تذكاري في حديقة مهجورة وعارية ) وبذلك تصبح اليد السليمة الملوح بها في غياب اليد الأخرى غير كفيلة بمنح الجسد مرونة الحركة الادمية بالرغم من متانته كجسد صياد ، فهو بوجود اليد الأولى وغياب الثانية مثل نصب تذكاري . كما أن اليد السليمة بدت وكأنها لا تتوافق مع سلامة وانفتاح المشهد العام إذ أن ثمة انعكاسا لليد المبتورة من الجسد على ما يحيط به ، فبدا المشهد بيد مبتورة هو مشهد حديقة مهجورة وعارية .
أما الإشارة الثالثة المقصودة لليد السليمة ، أو كما وردت بصيغة الذراع الواحدة ، في تلميح واضح بأن الأخرى مبتورة ، فقد وردت في ختام القصة بعد أن سرقت السمكة ( هبطت ذراعه الوحيدة للأسفل ، أحسّ بجبل من الهمّ يسقط على قمة رأسه ) وربما كان حضور المعنى في هذه الخاتمة ينطوي على غياب ضمني مفاده أن جبل الهم كان سيصبح أقل ثقلاً فيما لو لم يفقد الرجل ذراعه الأخرى .
ومن بين قصص المجموعة تشذ قصة ( السمكة ) عن الموضوعة المحورية ، وقد صيغت بأسلوب ساخر وفكه ، وهي تروي حكاية عائلة متهورة وانفعالية تواجه ما تعترضها من عوائق – مهما كانت تافهة – بالحمق والهياج ، وكانت لحظة إهداء شخص غريب سمكة إلى العائلة لحظة فارقة ، وضعتها في حيرة وإرباك وهي تبحث عن إحتمال موفق وحيد من بين خمسة إحتمالات مخفقة لقطع أنفاس السمكة التي ما زالت حيّة ، لأن الحل كان أسهل بكثير من أي احتمال من تلك الاحتمالات ، لكنهم لا يستطيعون تقديمه ، لأنهم لا يملكونه ، ففاقد الشيء لا يُعطيه ، وأن الذي بيده الحل هو الغريب نفسه ، فهو صاحب المعضلة وهو صاحب الحل في ذات الوقت . والقصة في ذلك تشبه نماذج من قصص المأثور الشعبي الفولكلوري التي تبحث عن الحكمة لدى الحمقى والمجانين ، متخذة من الفكاهة شكلاً من أشكال المفارقة .
يختلف دور السمكة في القصة عن دور السمكة في القصة السابقة ( حياة أخرى ) ولا بأس من المقارنة ما بين الدورين :
طبيعة دور السمكة في قصة ( حياة أخرى ) :
1 – ألانطلاقة الأولى لدورها بدأ من النهر .
2 – وضعت في نطاق السرد بعد صراع مع الصياد .
3 – ألسمكة طرف وسيط ما بين الصياد من جهة ، وما بين المشتريين اللصّين الإثنين من جهة أخرى ، وبذلك فأن مسار دور السمكة ثلاثي المراحل ( النهر > ألصياد > ألمشتريين اللصّين ) .
4 – حضور السمكة في القصة حضور سكوني لجسد بلا حياة .
5 – ساهم دور السمكة في صياغة الدور الانعكاسي للصياد من حيث هو رد فعل نشيط وفاعل لدورها كوجود سكوني من جهة ، ومن جهة أخرى منحت دور اللصين مسوغاً للتواجد في حادثة البيع الملفقة .
6 – ألسمكة في القصة بضاعة .
طبيعة دور ألسمكة في قصة ( السمكة ) :
1 – ألانطلاقة الأولى لدورها بدأ مع الغريب .
2 – وضعت السمكة في نطاق السرد بسلاسة كهدية من دون دخولها حالة صراع
3 – ألسمكة طرف وسيط ما بين الغريب من جهة والعائلة الموتورة من جهة أخرى ، وبذلك فأن مسار دور السمكة ثنائي ( الغريب > العائلة )
4 – علة السرد في القصة هو أن السمكة كانت حية وتدافع عن بقائها بوحشية ، فوجودها التالي لإهدائها السلس كان وجوداً حركياً .
5 – عكس دور السمكة طبيعة السلوك المتهافت للعائلة وعدم قدرتها على وضع إحتمالات موفقة لمعالجة قضية بسيطة من جهة ، ومن جهة أخرى عكس قدرة الغريب على اجتراح حل من احتمال واحد لذات القضية .
6 – ألسمكة في القصة معضلة .
بيد أن تليين الإطار المأساوي الصلب للمجموعة لا يتم من خلال الموضوعات النقيض فحسب ، بل أيضاً من خلال التمرد على المأساة من داخلها أيضاً ، أي من خلال الشخصيات الفاعلة التي تتحمل عبء أحداثها ، والذي يكتسب رفضها وتمردها طابع الإصرار على الإنحراف عن طريق المعاناة وإكمال مسيرة الحياة بحثاً عن طريق آخر . ومن أجل إنجاز هذه المهمة يتوجب اعتماد عنصر قيمي جديد هو الحب كأداة لكسر سطوة الألم والثورة على حتمية القدر ، وبذلك يتحول الحب من ضرورة غريزية فردية ، إلى ضرورة تاريخية تقلب معادلة الوجود لصالح التواصل والتسامح والخير والسلام . وفي هذا السياق فقصة ( صباح آخر ) أحسن ما نختم به ، وهي من أجود قصص المجموعة ، وأكثرها استشرافاً لمستقبل يتسلل عبر ثغرة حبّ في جدار علاقة قديمة أوشك على التداعي والانهيار ما بين زوج وزوجته في أعقاب موت إبنهما الوحيد في حادثة غامضة . وتكشف مفردة ( آخر ) في العنوان ان هناك صباحٌ أول ، وسيتبين لنا فيما بعد أنه الصباح الذي انطوى على حادثة الفقد ، وأن وكد القصة الذي يضطلع بطلها بتحقيقه يتجلى في مغادرة ذاك الأول ، والبحث عن الآخر الجميل . ولكن كيف يأتي ذلك الصباح الآخر ، وهل بمقدور بطلي القصة / الزوج وزوجته أن يجرانه جرّاً إلى سماء حياتهما المظلمة . هذا ما حدث ، ولكن فعل التحول جاء بمبادرة عاطفية اقتحامية من أحد طرفي العلاقة ، وتلقاه الآخر بقبول حسن . وهذا التحول المفاجيء ، أو هذا الانقلاب العاطفي في علاقة توشك على الانفضاض تمّ في ساعة من آخر الليل ، ولكنه ليل آخر لا يُشبه كل الليالي الفاجعة التي عاشاها من قبله الزوجان . ولذلك جاءت البلاغة بمجازاتها لتجعل من ذلك الليل الاستثنائي صباحاً آخر .
لقد جاء فعل الحب / المبادرة من قبل الزوج بعد قطيعة طويلة ليحدث إنفصالاً في الحكي اعقبه انقلاب تام في العلاقة تحولت فيه البداية والختام إلى مرحلتين فارقتين :
ألمرحلة الأولى : هي مرحلة البداية / ألصباح الأول ، وهي مرحلة إنعكاسية عن حالة الفقد وما رافقها من تبدل في سلوك الزوجين :
– ألزوج التجأ إلى الخمرة .
– والزوجة ازدادت توتراً ويأساً
وكل سلوك من الإثنين انعكس ثأثيره سلباً على الطرف الآخر :
– ألزوجة اتخذت موقفاً عدائياً تجاه معاقرة زوجها للخمر
– والزوج ازداد بعداً من زوجته مع استفحال عدائيتها تجاهه .
تلك التحولات تمت في المرحلة التي أخفاها العنوان صراحة ، وأعلنها ضمناً / ألصباح الأول . وكان من المتوقع أن تشهد تلك المرحلة تحولاً وانقلاباً مع تفهم الزوج لمكابدات الزوجة ، وتعاطفه المكتوم معها ( نعم ، إنها محقّة ، محقة ، كان يُردد ذلك مع نفسه ) والتحول يتطلب مبادرة ممن يتفهّم معاناته الذاتية على قدر تفهّم معاناة الآخر ، واضعاً الإحساسين وانعكاساتهما في ميزان واحد .
ألمرحلة الثانية : وهي مرحلة الختام ( ختام حالة الصدود والمعاناة ) / ألصباح الآخر ، حيث سيتبدل شكل العلاقة تبعاً للعبة الحب التي سيبدؤها الزوج ، والتي ستعلن الزوجة الموافقة على المشاركة فيها من خلال تطوعها لإطفاء المصباح ، بل وإلحاحها المكبوت على الإسراع في الاعلان عن بدايتها بإعفاء الزوج من صرف الوقت في الأعذار والتبريرات ، والإعفاء لا يأتي بالكلام ، بل بالإيماء ليجسّد حالة التواصل في أعلى ذرواتها ، والتي تعجز الزوجة عن التعبير عنها كلاماً ، فتدعوا الزوج بالإيماء إلى الإقتداء بها ، والانخراط فيها من دون تنهيدات كلامية ( رأته متلجلجاً بالكلام ، فسارعت بوضع إحدى يديها على فمه ، ومدت اليد الأخرى لتطفيء المصباح ) . ومن تحت الظلمة الكثيفة المكونة من ثلاث طبقات :
– ظلمة الليل
– ظلمة الغرفة بعد إطفاء المصباح
– ألظلمة تحت العباءة السوداء
تكون المفارقة قد أحكمت حلقاتها ، فثمة صباح آخر كان قد شرع بالانبلاج .
( * ) نوح الحمام – طالب حسن – قصص قصيرة وقصيرة جداً – دار ميزوبوتاميا – 2015