في رواية “الخفافيش تراود الضياء” للروائي ميثم الحلو يقف القاريء إزاء نص روائي سردي إجتماعي مُسرف في تحديه القِيَّمي، يحاول أن يعثر له على متكأ وسط بيئة شرقية ليس لها إلا أن تكون محافظة، رغم كل مايصيب مفاصلها من هجوم كاسح للعولمة، فهي رواية أفكار ورواية اقتباسات، خالية من الزمان والمكان، أبطالها بلا تأريخ أو تأريخ غير ناضج ان لم يكن ناقص البناء، وهؤلاء الأبطال حرص الروائي ميثم الحلو على أن يضعهم في خانة “اللامنتمي” بصياغات فلسفية، لم تكن ناضجة بما يكفي لتقنع القاريء بالسلوك غير السَوي، الذي كانوا يمارسونه على صفحات الرواية، وهذه الأفكار الفلسفية التي نثرها الروائي بين صفحات روايته، كانت تنحرف هنا وهناك بما تحمله من أفكار تبدو شاذة عن واقع، يحرص كل الحرص أن لا ينشر غسيله القذر مرة واحدة، وبهذه الكيفية السافرة، ولأنها رواية أشخاص لامنتمين بمعناها الواسع، ويفكرون بصوتٍ عالٍ، فهي إذاً مشكلة اجتماعية وكما يقول كولن ويلسون:”يلوح اللامنتمي من النظرة الأولى مشكلة إجتماعية”وأبطال رواية الخفافيش كانوا من الجرأة واللامبالاة بحيث أنهم يصوغون أفكارهم، بأفعال مضادة لكل القيم المجتمعية وبشكل علني، وهم يبدون منذ الوهلة الأولى بلاجذور ومنقطعين عن بيئتهم.
د.جمال الذي لايعرف عنه غير أنه تربى تربية دينية، لكن أين وكيف ومتى؟
“منذ تلك اللحظة التي كان فيها صغيراً واعياً يستمع إلى مايتحدث به الكبار من عائلته عن الله والقيامة كان يصدقهم بيقينية وبدء الطقوس كما علموه، المشكلة فقط أنه أسرف .. أخذ الموضوع بجدية حقيقية ص68 “.
واثق المهندس المعماري المهوس بالجنس، لفكرة عُري، ظلت عالقة بذهنه منذ كان بعمر 6سنوات، حين أكتشف سر جسد المرأة، لأول مرة وهو يتلصص على أخت صديقه أحلام،”أمارس الكبت والإنحراف الذهني، في مرحلةٍ ما بدأت الاحتفال بخطاياي.. نعم احتفل بها ص93 “، لكن من هو واثق ومن أين وإلى مجتمع ينتمي وما الشروط السلوكية التي تربى عليها؟ لاشيء يُذكر.
نضال شقيقة واثق، أيضاً كانت مسكونة بهاجس الجنس، والرغبة في اشباعه بأي طريقة كانت. “تشعر بحرارة الجسد .. جوعه ..تنصت لصرخات استغاثته .. تنهار على سريرها ص19 “.
أريج هيَّ الأخرى تملكها نفس الإحساس، بالتعطش للجنس، بعد زواجها الفاشل من رجل الأعمال سلمان، ” منحته أريج نفسها بالكامل، كانا يمارسان الجنس بكثافة ص97 “.
سلمان زوج أريج المنحرف سلوكياً، والذي يقوده شغفه بالجنس إلى العنّه، كان مُقتلعاً من جذوره ليس له تأريخ ولا مكان ولا حتى انتماء اجتماعي؟” وكانت أريج تلاحظ انحراف زوجها المتأخر، وكانت ترى آثار علاقاته الافتراضية، استمناءه الليلي الكثيف على الأريكة، في الصالة ص52 “.
الشيخ هاشم، الذي أراد له الروائي أن يكون “إلهاً ببزة رسمية ص53 ” كيف أصبح شيخاً ماهو تأريخه؟ كم سِنَّهْ؟ ماهيَّ خلفيته الإجتماعي والدينية؟ لاشيء. فقط، هو ماكنة جنسية شرهة لاتهدأ، متزوج من امرأتين يمارس معهن الجنس بالتناوب كل ليلة، ثم يُقدم على اغتصاب نضال، بعد عقد قرانها من جارهم جاسم، ويقوم أيضاً، بالاعتداء على شاب صغير السن جنسياً.
جاسم الشاب الفقير المعدم وبائع الخضار، الذي تستله نضال بمغامرة متهوره من واقعه المظلم، وتستدرجه إلى عالمها النهم والمريض، ثم تتركه وحيداً يصارع المرض والموت المحتم، لم يصدق أنه سيتزوج من نضال،”سيكون لديَّ ما ليس لديهم.. سيكون لديَّ ما ليس لدى الله.. حبيبة هيَّ الأبهى في العالم ص37 “.
ولنطبق بعد هذه المقدمة التي لم تكن مختصرة عن شخصيات الرواية، التحليل البنيوي البارتي، الذي يعتمد على تقسيم النص السردي إلى وحدات قرائية، ومن ثم إلى أنساق دلالية. بعيداً عن وحدة النص وتسلسله الزمني:
نشاز /تناشز /تدنيس – إلهي / كوني / مقدس .
ولوضع هذا الأنساق المتضادة مصطلحياً وفكرياً، في بيانات تراتبية، سيتبين للقاريء حجم العدمية والتطرف السلوكي، لأبطال رواية الخفافيش، ويتأكد أنه أمام حفنة من الأشخاص الممسوين النورالجيين، الذين لم تكن هنالك من ضوابط، تقف في طريق تمردهم وانحرافهم.
النشاز: في اللغة اسم / الشيء لايكون في مستوى غيره/ كلمة نابية.
تناشز : Disonance / مصطلح طبي / التناقض.
مُدنس : اسم نجس.
إلهي : اسم منسوب إلى إله.
كوني : عالمي
مُقدس : اسم مفعول/ شيء مبارك يبعث في النفس احتراما وهيبة.
د.جمال: الكوني المتناشز القبيح ص49 / معرفة الله ص28 .
واثق : تناشزَ مع ابتسامته الأولى ص10 / أريج الاله التي كفرت بها ص39 .
جاسم : ملامحه متجانسة ص19 / نضال مُقدسة صص19 .
الشيخ هاشم : التناشز الواضح / الشيخ هاشم هالة القداسة ص 53 .
أريج : تدنيس هذا الجسد / سلمان الإله الاسطوري ص61 .
نضال : كونها نشازاً اسطورياً ص84 / الشيخ هاشم مشهد مقدس ص61 .
واثق : كنت أمارس التدنيس ص93 / أريج لم تحس لحظة بالدنس ص97 .
في ظل هذا الكم المصطلحي المتناقض، نطل على رواية وأبطال الخفافيش، في قائمة طويلة من المتناقضات التي تعتمر أرواح شخصياتها، فهناك القبيح والنابي، في مقابل الكوني والإلهي، وهناك الدنس والتدنيس، في مقابل المقدس، ويتحول الوعي إلى اجترار الخيبات والفشل، وإعادة تكرارها من جديد، بروح متحدية اعتراضية، لكل ما هو متعارف عليه، كما تفعل أريج مع واثق، وكما تفعل نضال مع جاسم، حين تحاول الخروج على منظومات اسرتها. بأن ترمي نفسها على أول من يبدي اعجابه بها، دون الإلتفات إلى المستقبل وأن شعرت بالندم والإحباط بعد ذلك، لتسأل نفسها متأخرة”ماذا فعلت بنفسي ص84″كذلك واثق، نزيل المصحة العقلية، هذه الشخصية السلبية المترددة، الذي يخسر حبيبته أريج مرتين، وبلا مبرر، فهو يعترف ” بلا هدف وبلا معنى أو مغزى، مجرد خيبات ص73 “، أما دكتور جمال الذي يأخذنا بفسلفته الصوفية والوجودية، وبحثه الدؤوب عن الحقيقة بعيداً عن الله، فيعود خائباً، بعد فشل رحلته تلك”جمال الطبيب النفسي معيار العقلانية المفترض يسطح وعيه ..تتلاشى منطقيته بأمرٍ من بائع أكياس فارغة” ولانعرف إذا كان من حقنا ان نرثي حال هذه الشخصيات أم نستهجنها؟
الرواية مختزلة أكثر مما يجب، وخلت من التكثيف، تكثيف الحبكة، رغم هناك وفرة في تكثيف الأفكار، وخصوصا في شخصيتي واثق ودكتور جمال، فهي تتألف من 111 صفحة توزعت بين 39 فصل، يعني صفحتين ونصف للفصل الواحد، وكانت في بعض صفحاتها تضم فصلين في صفحة واحدة، وكانت هناك فرصة كبيرة لم يستثمرها الروائي لو أنه جعل الأحداث تروى على لسان شخصياتها، بدل أن يكون هو الصوت الوحيد الراعي للأحداث، وكان منطلقها من مصحة عقلية سيوفر لها الكثير من الإثارة والإنتباه، لولا توزعها بين شخوص وأفكار مختلفة ومتذبذبة.
رواية الخفافيش تراود الضياء، رواية شخصيات متمردة على واقع إرثي محافظ، حاولت أن تتحدى هذا الواقع، لكنها وقعت في فخ التطرف، ولم تقدم لنا الحلول التي ننتظرها، وهيَّ رواية تبشر بكاتب واعد يمتلك كل أدوات الرواية الحديثة.
* الرواية صادرة عن دار سطور للطباعة والنشر 2015