بعد ديوانه الثاني (كف أميّ)، الذي صدر خلال الأشهر الماضية (كانون الثاني 2015) عن المركز الثقافي للطباعة والنشر بدمشق، والذي وثّق فيه الشاعر سعد الشلاه عبر نصوص عديدة من قصائد الديوان الأربعين لمراحل مهمّة وحاسمة من التاريخ السياسي العراقي بلغة عرفانية ثاقبة، وقلم يقظ متوهج شخّص بهِ العديدَ من جراح الجسدِ العراقي من أقصى شماله إلى أقصى جنوبه، ها هو الشّاعرُ يعود اليوم بنصّ آخر جديد سمّاه هُو البارحةَ بـ (سبع عيون) (1)، وأسمّيهِ اليومَ بـ (العيادة).
لماذا (العيادة)؟ كلّ نصّ، لا يكون فيهِ الشّاعرُ الطبيبَ وقصيدتُه العيادةَ، فهو ليسَ بنصٍّ، ولن يتحققَ معهُ الهدف من الإبداع والكتابة أبدا، وذلكَ لأنّ الحرفَ مِسماع طبّي، يسعى الشاعرُ من خلاله إلى تشخيص مناطق الألم والدّاء في واقعه المعيش، وبالتالي رسم الخطوط الأولى لرحلةِ العلاج الطويلة.
العلاج من ماذا؟ وهل أمراض واقعِ المبدِع هي بالتالي أمراضُه وعللهُ هُو؟ وهلْ للقصيدةِ القدرة على القيام بكلّ هذا العمل الإسعافي العجيب؟ هذا ما سيظهره سريرُ الكشف والتنظير.
يقولُ المِنظارُ إنَّ العليلَ عليلان لا واحدا: وطنٌ كبير، رأى الشاعرُ فيه النور وترعرع بين نخيله ودجلته وفراته، وحرفٌ آخر هو جسدُ الشاعرِ الترابي. هُوَ هذا الوطنُ الذي كمَا رضعَ الشاعرُ من ثديهِ لبنَ الجَمَالِ، رضعَ منهُ أيضاً السمّ الزعاف. يا لهَا من مفارقة عجيبة؛ فكيف للّبَن أن يصبحَ سمّا، وللدّواء أن يصيرَ داءً! ولليد الرحيمةِ أن تكونَ أيضا يداً قاتلة تسقي الشاعر الموتَ كلّ يومٍ قطرة قطرة؟!
هُو هذا الوطنُ في قصيدة (سبع عيون) الذي على الرغم من كلّ شيءٍ، يبقى ويظلّ مكاناً لهُ رتبة عظيمةُ الشأن في قلبِ الشاعر العارفِ، وكثافة روحية تستمدُّ وجودها من الخُلقِ الإلهي مباشرة، وهذه حقيقةٌ ليست فقط معنوية وإنما جُغرافية ترتبطُ بخريطة الطريقِ التي سلكها الشاعرُ، وسطّرها وفقاً لمحطاتٍ معينة توقفَ بها جسدهُ الأثيري أهمُّها محطّةُ المحنة والاختبار، وهيَ الخريطةُ ذاتها التي تجسّدتْ في القصيدةِ عبر تكرار الشاعرِ للازمة شعريةٍ استلهمَها من الدّعاء الذي قاله الإمام جعفر بن محمد الصادق (ع)، حينما دخلَ على المنصور العباسي، وهو الآتي نصّه: ((يا عدّتي عند شدّتي، ويا غوثي عند كربتي، احرسني بعينك التي لا تنام، واكنفني بركنك الذي لا يرام))(2).
فحينما رصَّ سعدُ لازمتَه الشعرية هذه عند آخر كلّ مقطع من مقاطع قصيدته، كان يعرفُ تمام المعرفة سبب ذلك، لأنه اختارها لتوافقَ مقام المحنة التي هو بصدد الحديثِ عنها وتشخيصِ عواملها الرئيسة، وهذا موقفٌ تاريخي منهُ، ذلك أنّه عبر استرجاعِ الذاكرة للحظة الكرب والضيق السياسي الذي عانى منهُ الإمام جعفر الصادق بسببِ فساد نظام الحكم آنذاك، فإنّ لحظة اليومِ تصبحُ شديدة الشبهِ بلحظة الأمسِ، لذا، فكما كانَ ردّ فعل الإمام وهُو أمام الحاكم الطاغي، فإنّ رد فعلِ الشاعرِ وهو اليومَ أمامَ موقف الفسادِ السياسي مساوٍ وموازٍ لردّ الإمام. أمّا عن التغيير في الصياغة التي أتى بها الشاعرُ، فهو لأسباب وأغراض شعرية محضة، أهمها:
* الجمع بين جمالية المعنى وجمالية البناء الفني، وهو أمر قد حققه الشاعر ببراعة ومقدرة فنية نادرتين، ممّا زاد من قوة الخطاب الشعري وشدة وقعه في نفس المتلقي؛
* تأكيد موقف الشاعر من القصيدة المعاصرة؛ فهو مع تحديثها وحداثيتها لكن بشرط ألا تخرجَ عن أصالة الانتماء إلى جذور الشعر العربي الأصيلِ، من حيثُ سلاسة الأسلوب ووضوح المعنى، وموافقة شكل القصيدة لمضمونها.
* ثُمّ توحيد الشاعر وجمعُه لأجزاء القصيدة ضمن قالب فني إيقاعي متناسق بهدف الوصول إلى وحدة بنائية موسيقية ذات إيقاع منسجم يعتمدُ على ترديد وتكرار ما يروم الشاعر لإيصاله من أفكار حتى تتحقق لدى المتلقي رعشة الابتهاج عند اكتشافه للمعنى(3).
وعلى هذا الأساس يخرجُ سعد الشلاه بلازمته من فضاء الشعر ليدخل بها إلى فضاء الموسيقى، انطلاقا من كون السُلّم نفسه يتكونُ من سبع درجات نغَمية، وهذه الدرجات في تسميّتها تتوافق والعنوان الذي أعطاه الشاعر لقصيدته:(سبع عيون). فالعيون هنا تصبح سبع درجاتٍ، وعيون الله التي لا تنام تغدو سلّمَ العروج والتطوّر الروحي والعرفاني لجسد الشاعر الأثيري وهو في طريقه إلى الفناء والتخلص مما يجثمُ على صدره من آلام وهموم.
لماذا قلتُ بأنّ اللازمة التي كرّرها الشاعر هُنا هي أقرب إلى الموسيقى من الشعر؟
هذا سؤال لا يمكنُ الردّ عليه، إلا عبر تفحّصِ اللازمة نفسها، والوقوف عند الطريقةِ التي تكررت بها في كلّ جزءٍ من أجزاء النص كما هو مجسّد في هذا الجدول الوصفي:
كما هو واضح من خلال قراءة الجدول أعلاه، فالشاعر سعد كرّر اللازمة بأسلوب مُختلف في كل مرّة، فمرّة أتتْ بصيغة المفرد، ومرات أخر بصيغة الجمع، وذلك حتى تتوافق مع موضوع كلّ جزء من أجزاء القصيدة، فالشاعر حينما وقفَ أمام جسده الترابي المُمدّد فوق سرير الكشف ترك لمنظار الفحصِ كلمةَ الوصفِ والحديث: مرّةً عن النخلة، ومرّة عن السماء التي بها يستظلُ ومن وهج نقائها يشربُ خمرةَ الحرف، ومرّة ثالثة عنِ معاناةِ الفئة الصالحة من ظلم الفئةِ و”الشرذمة” الباغية، ومرّات أخرَ عن الشاعر نفسه، ولا أحدَ غيره. إلا أنّ ما يثيرُ الانتباه أكثر، هو أنه على الرغم من أن سعد الشلاه اختار لقصيدته بناءً سباعيّ القواعد، إلا أنهُ لم يلتزم بهذه السباعية في الرصّ داخل كلّ أجزاء القصيدة، والدليلُ على ذلك، هو عدد الأبيات التي كوّنتِ المقطعين الأخيرين من القصيدةِ؛ فالمقطع السادس يتكون من ثمانية أبيات، أما السابع فمن تسعة، وإن كانَ كلّ جزء من الأجزاء السابقة (من الأول حتى الخامس) يتكون من سبع أبيات. فما الذي يعنيه هذا التغيير؟ وهل هو مقصود من الشاعر، أم لا؟
إنّ الجوابَ يوجدُ فيما سأسميه مجازا بأُكْتَافْ (Octave) القصيدة، أيْ المسافة الفاصلة بين البيتِ الأول [الذي هو الآخر يشكّل تكرارا ثانياً يتجدّدُ عند رأس كلّ جزء من القصيدةِ وبنفس القياس والدقة لأنهُ يتكوَّنُ من كلمة واحدةٍ (إلهي)] والبيتِ الأخير من كل جزءٍ. وهيَ هُنا في القصيدةِ ثلاثة أُكْتافَاتْ أو لأقُلْ ثلاثَ مسافاتٍ: الأولى تتكونُ منْ سبعةِ أبيات، والثانية من ثمانية والثالثة من تسعة، كما هو واضح في الصورة التالية:
كلُّ هذا يوحي لي بأننِي أمام نصٍّ سماعي، أيْ تَحَوُّلِي (مِيتامُورْفُوزِي)، لأنه سُباعِيُّ النَفَسِ والحركة، وهذا يعني الانتقالَ من حالٍ إلى حالٍ: وهُو المفهوم الجُغرافي لسفرِ العارفِ وطريقه، أيْ أنّهُ بعْدَ أن تمَّ تَحديدُ طريق المشي السّمَاعِي، ومكانَ الحركة وموقعَها عبر صُورة النّخلة الواردة في الجزء الأول من القصيدة، فإنّ الشاعرَ سينتقلُ ليصفَ علاقته السفرية والعُروجية مع هذا المكانِ وفيهِ وبهِ. وهو المكانُ الذي أصفهُ بقرار الشاعر المكينِ: لماذا؟
سبعةُ أجزاءٍ، وسبعة عيونٍ حافظة يُكررُ الشاعرُ نطقها لسبع مراتٍ، فيها نداءٌ عميق من سعد الشلاه إلى الحرفِ القرآني الذي يقول من خلاله الخالقُ عز وعلا شأنهُ:
((أَلَمْ نَخْلُقكُّم مِّن مَّاء مَّهِينٍ، فَجَعَلْنَاهُ فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ، إِلَى قَدَرٍ مَّعْلُومٍ)) (4)
إذنْ الإيقاع السُّبَاعي في القصيدة، هو أذنٌ تسمعُ، ونفْسٌ سالكة، تتحولُ وتتغير من مقام إلى آخر عبر مخاضٍ عسير. والأذنُ في تركيبتهَا الهندسية، كما يراها العلماءُ لها شكلُ جنينٍ صغير، والشاعرُ هنا هو هذا الجنين الصغيرُ، كما أصوّره بهذا الشكلِ الذي حدّدتهُ القصيدةُ نفسُها قْبلَ عين الباحثِ الناقد أو بصيرتهِ:
وهذا الجنينُ السماعي، يتحدثُ عن رحمٍ هو قرارهُ المكين، وهو بيتهُ الذي من المفترض أن يجد فيه الراحة والدفء والسكينة حتى تكتملَ مراحلُ حياته الأثيريةِ لا الترابية، التي هيَ هنا عُمْرٌ يتكون من سبع مقاماتٍ، بدأت منذ سنة 1952 إلى يومِ كتابة هذه القصيدة، وأقول 1952 لأنهُ الرقم الذي ظهرَ بعد عملية جمع عدد الأبيات التي تتكون منها هذه القصيدة (5) وفيهِ إشارة على الحقبة الخمسينيةِ التي ولد فيها الشاعر بكل ما تحملُ من ثقل تاريخي وسياسي عميق المعنى والمصير. وإذا كانتْ هذه هي الذات الشاعرة، فشيءٌ طبيعي أن يكونَ الوطنُ هو رَحِمُها، وأنا هُنا لستُ بصدد الحديثِ عن صورة مجازية ولكنّها حقيقة لن يُنكرهَا أحد؛ ووحدهَا فقط خريطة وطنِ الشاعر الأمّ التي ستؤكدُ هذا الطرح أو تنفيه، فلتأخذْ معي عزيزي القارئ صورة خريطة العراق بين يديكَ، ولتحرّكها نحوَ اليسار قليلا بحيث تصبح جهةُ الأنبار نحو الأسفل، وسترى بنفسك الشّكلَ الحقيقي لهذا الوطن العظيم: إنّ لهُ حقا شكلَ (القرار المكين)، أو شكل الرّحِم، وقد تبّثهُ الشاعرُ في نصّه بسبعة أربطةٍ، يتحدثُ من خلالها عن فضائلَ سبع مقابل رذائلَ سبع، وهي العشقُ مقابل الحقد، والرحمة مقابل القسوة، والحقُّ مقابل الغيّ، والمشيئةُ مقابل الغيابِ وخلط الأوراق، والإرادةُ مقابل الظّلم، والولاية مقابل الضّلال، واليقينُ مقابل الحيرة والتيه:
1) رباط العشق
“إلهي
تلكَ هي نخلتي، أنا أعشقُها وأنتَ أعرفُ بلونِها
أتفيّءُ بها وآكلُ من تمرِها وأشربُ من خمرِها
وأشكركَ دائماً لأنّي لا أملكُ غيرَها وقد توحّدَ قلبي وقلبُها
أيرضيكَ أنْ يعقرَها المارقون؟
إلهي إنْ كان هذا يرضيكَ فإنّهُ يرضين
وإلا فاحرسْها لي بعينكَ التي لا تنام.”
يا لهذا العشق الذي يجمع الشاعر بنخلته التي هي أرضه الشامخة الطاهرة الأبية، والحضن الذي فيه نشأ وترعرع! ويا لهذا الأدب واللطف في حضرة الله وهو في مقام البوح وبثّ الألم والأحزان له! إنّهُ خضوع العابد أمام خالقه، واعترافه بكل أفضاله ونعمائه عليه، لكن بالمقابل ثمة بشاعة أخرى، تقض مضجع هذا الشاعر وتجعلُ من هذا الوطن الرّحمِ العطوفِ الحنون، جحيماً لا يطاق: إنّها لوثة الحقد التي سرت في المارقين من أبنائه، اللوثة التي لم يجد الشاعر أمامها سوى أن يوكل أمر هؤلاء المارقين للخالق ويقول: ((إلهي إنْ كان هذا يرضيكَ فإنّهُ يرضين // وإلا فاحرسْها لي بعينكَ التي لا تنام.)).
2) رباط الرحمة
“إلهي
تلكَ هي سمائي وأنتَ أعلمُ بعظمتِها
أهتدي بنجومِها وأكتبُ الشعرَ لقمرِها وأحياناً أتبرّمُ من شمسِها
وأرى وجهَكَ الكريمَ فيها ورحمتَكَ التي وسِعتْ كلَّ شيء
أيرضيكَ إنْ أبدلوا سينَها دالاً وخاضوا فيهِ باسمك العظيم؟
إلهي فأبقها مرفوعةً دونَ عمدٍ بقوّتِكَ وحولِكَ
واحرسْها بعينك التي لا تنام.”
بعد أن حدّدَ الشاعر مغرسَ النخلة ومكانها تحوّل من دائرة الأرض ليدخل دائرة الأفلاك والبروج، عبر بابِ الرحمة الإلهية التي وسعت كل شيء فشملته بعطايا وهبات حُروفية لا يعلمُها إلا هو، ولم يذكُر منهَا هنا سوى الحرف الشعري، أيْ الطّاقة الإبداعية الكتابية المرتبطة بالماءِ القمري المُضمّخ بعطر النفخ الجبريليّ الخلّاق. وبالمُقابل نجد الصورةَ المُشوهة الأخرى التي يسعى فيها المفسدون إلى أن يحوّلوا سين السماءِ إلى دال الدماء، وفضّةَ القمر إلى حُمرةِ الجحيم، لأنّهُم مُنعوا من الجذبِ وسُلبوا من كلِّ صفة لها علاقة بالجمالِ والبهاء أو التمتع بالأنسِ والاستئناس بالله، ذلك أنّ كلّ مَنْ حُرِمَ منْ صدقِ التوجّه إلى الله والتمتّع بالنظر إلى وجهه الكريم، فهو في جحيم الحجابِ وناره الشديدة والعياذ بالله.
3) رباط الحق
“إلهي
تلكَ هي أمتي وأنتَ أعلمُ بشرذمتِها
فـ (أكثرُهم للحقِّ كارهون) ولا يظنّونَ أنهم مبعوثون
وإلا فلماذا هم يتغامزون و يتلامزونَ ويسرقونَ ويقتلون
أيرضيكَ فعلاً أنهم في الليلِ يستغفرون وبآياتِكَ يتأوّلون؟
إلهي فأبقِهم إنْ شئتَ في غيِّهم يعمهونَ إلى يومِ يبعثون
واحمِنا منهم واحرسْنا بعينِكَ التي لا تنام.”
الحقّ هو ضالة الشاعر وأنشودته الأبديّة، وهو التاج الذي بهِ يكلل هامة الروح والفؤاد، إلا أنّه يرى أن الشرذمة المارقة كرهتْ هذا الحق، وعاثت في الأرضِ فسادا، فاستباحت الأموال والأعراض والدماء باِسم الدّين، لذا، فالشاعرُ لم يَجدْ وصفا ينعت به ماهُم فيه سوى بالغيّ والعمى، وهُو في هذا يُشبِّه سلوكهم بالشيطانيّ، لأنهم يلبسونَ لباس العارفِ بالدين، كإبليس تماما، لذا فهُم مُعذبون في الأرض بغيّهم (إلهي فأبقِهم إنْ شئتَ في غيِّهم يعمهونَ إلى يومِ يبعثون)، وهو عذابٌ مكانيّ في هذا الوطن دونا عنْ عذاب الزمان الذي هو عذاب الآخرة، وما هذا كلّه إلا بسبب جهلهم، وإن كانوا عارفين ومتمرسين بمراسم الطريق لكنّهم محجوبونَ عن شؤون المعرفة وأسرارها.
4) رباط المشيئة
“إلهي
تلكَ هي مشيئتُكَ وأنتَ لا تُسألُ عنها بل هم يُسألون
فلماذا إذن تهدّدُنا بيومِ الدين بيومٍ لا ينفعُ فيهِ مالٌ ولا بنون؟
ومتى يخلو لنا وجهُكَ الكريمُ كما خلا لليابانيين والأوروبيين؟
أيرضيكَ هذا الذي تراهُ كلُّ العيون؟
إلهي إن كان يُرضيكَ هذا فأبقِنا صابرين محتسبين
أنت مولانا فاحرسْنا بعينِكَ التي لا تنام.”
هذا رباطٌ فيه كلام، لأنّ الشاعر يبدو فيه يونسيّ (6) اللهجة، يتبادلُ أطراف الحديث والشجن مع الخالقِ ويطرح أمامه إشكالية عظيمة، هي علاقة الشرق والغرب، أهيَ حقا علاقة روح بجسد، وإذا كان الأمر كذلك فأيّهما الجسد (المادة)، وأيهما الروح (العِلم الصافي)؟ ولربّما في هذا الأمر دعوة منهُ إلى خلخلةِ نظام الفكر المتآكل القائم على تمجيد الماضي وتأكيد الفوارق المذهبية وإشعال نيران الطائفية مع تغييب روح العلوم والفكر، والمنطق والفلسفة، والتقدم والتطور العلمي (ومتى يخلو لنا وجهُكَ الكريمُ كما خلا لليابانيين والأوروبيين). ولا يجدُ الشاعر من حلّ مرّة أخرى سوى كظم شعوره بالألم والإحباط أمام قضية التخلف والتحجر الفكري هذه، والاعتصام بحبل الصبر والاحتماء بعناية الله والبقاء أمام باب رحمته وعينه التي لا تنام.
5) رباط الإرادة
“إلهي
أعلمُ جيداً أنّ تلكَ هي إرادتَكَ ونحنُ لها خاضعون
ولكن ألمْ تقلْ في كتابِكَ العزيزِ (وبشّرِ الصابرين)؟
ماذا يضرّكَ لو أنّكَ تُبشّرُنا مرّةً واحدةً في الدنيا قبلَ الآخرة؟
أيعني ذلك أنْ تقومَ الساعةُ قبلَ موعدِها؟
وماذا في ذلكَ، ألمْ تقلْ إنّها تأتيكم بغتةً وإنّها آتيةٌ لا ريبَ فيها؟
لتقمْ إذن ولنرَ عدلَك، وأسألُكَ أن تحرسَنا بعينِكَ التي لا تنام.”
لا يسعني سوى أن أسمّي هذا الرباط بمقام المُكاشفة: لأنّ الذات الشعرية خرقت حجاب السؤال ووقفت أمام باب انتظار الجواب بعد أن تدثرت بخرقة (بُشرى الصابرين)، فهل سيأتي الجواب؟ هل ستقوم الساعة قبل موعدها؟ وهل سيتحقق العدل ويندحر الظلم وأهله البغاة الطغاة؟
إنها كلها أسئلة فلسفية وجودية تدلّ على عمق إيمان الشاعر، ومدى تأثره بسيرة أجداده سواء من حيث طريقة الكلام، أو من حيث العبارات المستخدمة في الحوار، فكلها مستمدة من نصوص مختلفة ومتنوعة من سور الذكر الحكيم، ومن أساليب دعائية تذكّرني بأدعية الصحيفة السجادية(7)، ونصوص نهج البلاغة(8)
6) رباط الولاية
“إلهي
هؤلاء هم أولياءُ أمورنا الذين أضلّونا
يزعمونَ أنّكَ أمرتنا أنْ نمكّنهم من أمورِنا في المحبّةِ والحقد
وأن نُطعْهم في كلِّ شيء، وإلا فقد ساءَت أعمالُنا وندخلُ النار
ألمْ تقلْ (وأطيعوا اللهَ والرسولَ وأولي الأمرِ منكم)؟
أيرضيكَ هذا يا إلهي وأنت تنظرُ إلى حقيقتي الرابضةِ في قلبي؟
إنّي، وحقِّكَ، أستحي أن أضربَ الآخرَ حتى بوردة
فاسترْ عليَّ واحرسني بعينِكَ التي لا تنام.”
هذ المقطع هو التقرير الطبي الذي خطتهُ يدُ الشاعر بعد أن أخرج منظار الفحصِ من قلب ذاته الشعرية: هنا حدّد سعدُ الدّاء الرئيس الذي يرى أنه سبب كل القهر والألم الذي يعاني منه وطنه الرؤوم، ورَحِمُه الدافئ العطوف: إنها إشكالية ((أولي الأمر منكم))، وقضية الحُكم وتدبير شؤون البلد السياسية: فمَن المقصود بأولي الأمر؟ وهل الآية الواردة في هذا الجزء تُقيّد مفهوم الطاعة المطلقة؟ (وأن نُطعْهم في كلِّ شيء، وإلا فقد ساءَت أعمالُنا وندخل النار)، وهي كلُّها أسئلة حلّ الشاعرُ لغزَها في الآية التالية (وأطيعوا اللهَ والرسولَ وأولي الأمرِ منكم)، لأنه يعلمُ تماما تفسيرها وتأويلها، ويرى ألاّ لبس فيها، كيف لا، وهو ممّنْ تربض الحقيقة في قلوبهم (وأنت تنظرُ إلى حقيقتي الرابضةِ في قلبي).
7) رباط اليقين
“إلهي
ها أنا ذا أمامك بدمي ولحمي الترابيّ الحقير
أقرُّ وأعترفُ أبداً أنّ الشكَّ ليسَ فيك
إنما في الفقيهِ الذي أصمَّ آذاني وأبكمَ لساني
وجعلني كالبهيمةِ بل أضلُّ سبيلا
فيا إلهي الجميل إنْ كان هذا يرضيكَ
فخذني بين أحضانِكَ الآنَ إلى حيثُ السعادةِ الأبدية
التي وهبتني الميلَ إليها ليتمجدَ بها اسمُك
واحرسني بعينك التي لا تنام لأنك لا ترضى لي الشقاء.”
وأخيرا وصلتِ الذات الشاعرةُ إلى رباط اليقين الذي هو سيّد الأربطة والمقامات وأكملها، لأنّ فيه يُقرّ الشاعرُ بيقينهِ بالله ويُفصحُ بصريح العبارة والاِسم عن العاصِي والمُذنب الذي جرّ الوطن إلى ما يعانيهِ اليوم من ويلات ودمار، إنّهُ الفقيه ((الفقيهِ الذي أصمَّ آذاني وأبكمَ لساني / وجعلني كالبهيمةِ بل أضلُّ سبيلا))، وكون الشاعر لمْ يحدد أحداً باِسمه، فهذا فيهِ تحديد من نوع آخر، يشير به إلى المؤسسة الفقهية بشكل عام، وهو نوع من الوعي الفكري، وبداية الطريقِ نحو العلاج والشفاء: لأنّ تحديد المرض هو نصف العلاج كما يقول أهل الطبّ بمن فيهم الشعراء الذين هُم أطباء الرّوح عبر نار الحرفِ التي لها مفعولُ الكيّ والتعقيمِ.
ماذا يعني هذا؟ هل وصلَ الشاعر إلى نهاية الطريق؟ نعم، على الأقلّ في هذه القصيدة، لأنّه طرحَ القضية وكذلك مفاتيح حلّها، لكنْ تبقى هناكَ كلمة لا بدّ من قولها بشأن هذه الرحلة الشلاهية عبر سبعِ عيون من الحفظ والحراسة والسّتر: حينما كتبَ الشاعر قصيدتهُ يومَ أمسٍ سطّر لمفهوم جديد هُو: الجمع بين المكان والزمان في عالم البقاءِ، لذا تجدهُ أغلقَ بابَ التوبة على القوم الظالمِين، المارقين المدثرينَ بخرقةِ الدينِ، وتركهُ مفتوحاً لمن صَلُح من أبناء وطنه واستقام الجذبُ لديهم، ودخلوا بموجب ذلكَ إلى عالم البقاء والعيش بالمَشرب المحمدي الخالص، فاجتمعَ لديهم الزمان والمكان عبر الدخول إلى حضرة اليوم الإلهي والليلةِ المحمدية. لذا، فإن رحم الوطن مكانٌ مَحلُّهُ الأسماء وزمانٌ مَحلُّه الصفاتُ، ومَنْ طواهمَا معاً كما حدث في هذا النصّ بقيَ مع الله الذي لا إله إلا هو الواحد الأحد القهار بسرّ الآية الكريمة ((يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذَٰلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ، وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ذَٰلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ)) (9)، والتي تجدُ صداها في قول الشاعر”فخذني بين أحضانِكَ الآنَ إلى حيثُ السعادةِ الأبدية / التي وهبتني الميلَ إليها ليتمجدَ بها اسمُك”.
تمّ في يومه: 18/05/2015
على الساعة 19.15
إيطاليا
الهوامش:
(1) كتب الشاعر قصيدته (سبع عيون) في العراق بيومه 17/05/2015.
(2) جمال الدّين أبي العبّاس أحمد بن محمد بن فهد الحلّي، عدّة الدَّاعي ونجاح الساعي، صححه وعلق عليه، أحمد الموحدي القمّي، ط 1، دار الكتاب الإسلامي، لبنان، 1999، ص 62.
(3) انظر في هذا الصدد، ما تفضلت به الناقدة والشاعرة العراقية نازك الملائكة (رحمها الله) عن ظاهرة التكرار في كتابها: قضايا الشعر المعاصر، منشورات مكتبة النهضة، ط 3، 1967، ص 236.
(4) القرآن الكريم، سورة المرسلات، آية 20/22.
(5) انظر خانة المجموع في الصورة رقم 01: (من اللازمة الشعرية إلى اللازمة الموسيقية).
(6) نسبة إلى نبيّ الله يونس (ع).
(7) الصحيفة السجادية الكاملة من أدعية الإمام زين العابدين عليه السلام، تقديم سماحة الإمام السيد باقر الصدر، منشورات مؤسسة الأعلمي للمطبوعات، بيروت، ط2، 2001.
(8) أمير المؤمنين الإمام علي بن أبي طالب (ع)، نهج البلاغة، جمع وتنسيق؛ العلامة الشريف الرضي، شرح وضبط الإمام محمد عبده، مؤسسة المعارف، بيروت، 1990.
(9) القرآن الكريم، سورة التغابن، آية 09.
اشكرك عزيزتي الشاعره المتمكنه فأني قرأت ديوانك الثنائي الحوار الشعري مع الاخ صديقي وابن عمي وقد اهاني اياهة وكنت قارئا له بامعان وكانت قصائده جميله اعطتني صوره عن مدى الاباع الوجداني والروحاني في تنظيمها كأفكار في صيغة شعريه متماسكه وفي وقتها اعطيت رأيي للاخ سعد الشلاه اما اليوم وانا أقرأ سبع عيون ارى فيه المحاكاة التي يتمثل فيها الجزع الفكري أو الجزع الايماني ولكنه في حدود العقل والتبصر ومحاكاة النص وواقع الامور التي يطلب من الباريء عزوجل أن يساعدنا أو التسريع في انقاذ ما يمكن انقاذه مما حل بنا من خراب ودمار وهول في تسطيح الدين وجعله غاية لهدف آخر وكأن ما جاء هو من حق الانسان من تأويله والحكم به — اشكركم على جهودكم في تفكيك سبع عيون بهذه الطريقه والاسلوب المتمكن لايصال فكرة الشاعر وفلسفته في طرح رؤاه في معالجة موقفه من الحياة وصدقت حين قلت انه العياده الفكريه لجروحه لداءه وهومنتج لدواءه شكرا ثانية وبوركت مع ودي وتقديري
الأخ الكريم فالح الشلاه،
تحية التقدير والاحترام لشخصك الكريم،
قرأتُ ما تفضلت به من كلمات راقية وعميقة بشأن الديوان الشعري الثنائي (تانغو ولا غير) وكذلك بشأن هذه الدراسة النقدية. فشكرا لك في كلا الحالتين والقراءتين. ودمت ختاما قارئا شفيفا يسبر غور الحرف بعين الوعي والتأمل.
د.أسماء غريب.
قراءة أكثر من رائعة لقصيدة شاعرنا الجميل سعد الشلاه وبالتأكيد فقد اكتسبت روعتها من روعة ما جاء في القصيدة من معان رائعة وعذبة وما نمت عليه من مكنة فنية عالية ومهارة لغوية متألقة لدى شاعرنا الجميل والعناية والدقة والتركيز الذي يتسم بها في كتابته لنتاجه الأدبي الذي استحق لمثل هذه القراءة النقدية المهمة .. شكراً للدكتورة أسماء غريب وللشاعر سعد الشلاه وكانا قد أدركا قلب القارىء من خلال القصيدة وقراءتها النقدية .. كل الإعجاب والتقدير
الأخ والمبدع الكريم عواد الشقاقي،
تحية طيبة وبعد،
الشاعر سعد الشلاه من الأصوات الإبداعية التي لها بصمة خاصة في القصيدة العرفانية المعاصرة، وتستحق نصوصه بدون شك الاهتمام والدراسة. شكرا لمداخلتك الكريمة وكلماتك الراقية. مع التحية والتقدير.
د. أسماء غريب.