خضر عواد الخزاعي : تكسي كراون .. الثيمة الضائعة

khudr alkhozaeiرواية تكسي كراون للروائي حسن فالح الصادرة عن دار سطور 2015 هي رواية شعرية أكثر منها رواية سردية وهي رواية إشارية دلالية أكثر منها رواية إجرائية تتمحور حول ثيمة معينة وتسعى لتطويرها في متن النص.
تبدأ الرواية بقصيدة شعرية وصفية لا لتكون مفتتح النص بقدر ماكانت تسطير صوري للأجواء التي رافقت منتهيات النص، ثم مقدمة حسية هائمة خالية من الأفعال والضمائر والزمان والمكان وهذه المقدمة توحي للقاريء أنه أمام عمل روائي تطغى عليه لغة الحواس والحدس الشعوري على الأفعال وليس هناك من أسباب جعلت الكاتب ينحى بمنجزه الروائي هذا المنحى الشعوري أو اللاشعوري نحو جادة الشعر والنثر بعيداً عن السرد، “استخدام الحواس – ردود الأفعال للجدران – الأزقة التي تعقد رقابها الملتوية: ص7″ وكل هذه الدلالات السيمولوجية توكيد على أن القاريء سيكون ازاء كاتب يمتلك درجة عالية من الوعي الحسي بالأشياء المحيطة المؤثرة، ” كنت مراقباً جيداًلكل ما يدور من حولي، هالة كبيرة لا أعرف لمنتهى حدودها الجغرافية عالمي الذي لايعرف سوى عسكرة للمجتمع لكل شيء فيه، كنت أراقب بصمت:ص34 “.
ثيمة رواية تكسي كراون حادثة تأريخية دموية اقترفها النظام السابق بحق مجموعة مجموعة من طلبة جامعة بغداد في تسعينيات القرن الماضي وكان يمكن لهذه الحادثة”الثيمة” أن تأخذ بعداً دراماتيكياً ملحمياً في هذه الزاوية، لكن الروائي حسن فالح آثر ان يستغرق بالمساحة الأكبر من النص بسيرته الذاتية الشبابية ويحول الفعل الملحمي إلى إشارة ضمن إشارة متعددة كان يحفل بها النص، الأسرة السيرة الذاتية – مدينة الكسرة – اصدقاء وجيران – شخصيات عامة – احداث متنوعة – علاقة حب – أحداث مهمة وثانوية ….،لكن الروائي لم يستطع الإفلات من السطوة الدلالية لسيارة التكسي كمعلم”المخلوقة الميكانيكية” كما كان يسميها، ثم كوسيلة نقل اختصت في فترة ما من الذاكرة الجمعية للعراقيين بالموت ونقل الموتى ابان الحروب الماضية، فهو اذا اراد ان يتذكرها فسيكون ذلك من خلال مجموعة احداث كان الموت ملاصق بها ومعرفاً لها، كما في استشهاد جارهم الشاب كاظم “كانت تعد لأيام اجازته لم يبق على نزوله من الجبهة سوى يومان، لكنه عاد …. عاد قبل موعده ليس كالبقية …. انما بصندوق خشبي ملفوف بعلم العراق…. على سيارة كراون:ص33 ” وفي حالة أخرى تكون هذه السيارة مصدر رزق كما هو الحال مع زوج جارتهم سميرة “حتى عندما تزوجت من سائق التكسي كريم والذي كان يملك سيارة كراون التي لطالما كانت تلك أول العقد بداخلي وأثارتني أكثر من اثارة سميرة:ص39 ” ليكمل في موضع آخر”كانوا يلقبونه كريم الأعرج لم يكن ينزعج من تلك hasan falehالتسمية لأنه كان واقع حاله، دائم الانشغال بسيارته ويغسلها، هل كان ينظفها من قذارة الشوارع أو من الأموات الذين يحملهم على ظهر مخلوقته الميكانيكية :ص40 ” ولانشغال الراوي بتدوين سيرته الذاتية فإنه كشف بطريقة قصدية واعية عن السلوك المشاكس الذي تميزت به شخصيته في مراحلها الحياتية المختلفة والتي كانت تحمل في طياتها طابع الخروج على كل ما هو مألوف ومتعارف عليه في مدينة تراثية قديمة كمدينة “الكسرة” محل سكن الكاتب ومحل اقامته وموضع وقوع الاحداث “وأسوء العادات التي كنا نمارسها في ذلك الشارع كسرقة الكتب من المكتبات: ص11 ” وفي مرحلة متأخرة من حياته يشير الكاتب إلى ممارسة صبيانية أخرى”على حافة جدار مدرستي الأولى، المكان الذي تعلمت فيه أول حروفي وقراءاتي للنصوص، أتبول على جداره الذي اصابته الرطوبة جراء تكرار تبولي، لم أخالف بذلك النص الذي كتب اعلاه بعدم رمي الأزبال، لم تكن هناك لافتة تمنع التبول: ص7-8 ” وهذه الظاهرة السلوكية غير السوية تبدو وكأنها كانت تروق للكاتب- الراوي “كنت أحب التبول وقوفاً، خاصة التبول بالشارع وعلى التراب، أرسم دوائر واشكال هندسيةأخرى، لطالما أحببت هذه العادة: ص30 ” ولم يكن من شيء يمنعه من أن يجرب الممنوعات وحتى المحرمات في بيئته المحافظة” عند عودتنا في أحدى المرات نبهني سلام الى كوم النبات المتسلق والمنزلق على سياج بيت أبو نجم الذي كان في بداية الشارع، اقترب سلام ومد يده، اخرج قنينة بيرة كانت ممتلئة الى النصف اخذناها خلسة،تذوق سلام طعمها وبصقه لأنها كانت مرة المذاق، عرض عليّ أن اتذوقها، لم اتردد بطبعي التعرف على كل شيء، كنت سمعت أن المشروب طعمه مر وليس طيب المذاق، شربت منها واغمضت عيني حتى اتجاوز ذلك الشعور:ص30 ” وفي مكان آخر من النص يذكر الكاتب حوادث أخرى كان هو بطلها حيث يقوم بتسلق جدران وبيوت الجيران لغرض التلصص عليهم وهنا يذكر حادثة تسلقه لبيت جارتهم الأرملة سميرة”تسلقت على السدرة التي تقع بجانب الدار الخارجي إلى البيت :ص28 “ولم تتوقف تجارب التلصص والتسلق لبيوت الجيران فقط بل تعداها حتى إلى الأشخاص الخطرين في الحي أمثال “الشقي” حسين الدليمي،لم أنسى حين وضع يده على كتفي وانا اختلس النظر إلى داخل حديقته المرعبة من خلال الفتحات الموجودة في السياج الخارجي للبيت:ص 51 ” وهذه المماراسات والسلوكيات التي استغرقت صفحات متععدة من النص ربما اراد الروائي منها أن يُعبّر عن حالة الرفض الكامنة في لاوعي البطل، وكان للرواية أن تستثمر هذا التداخل السلوكي ولا تنحى منحى آخر بعيد عن الثيمة الرئيسية للنص وهي مقتل 286 طالب عراقي من جامعة بغداد يحملون نفس الاسم “صباح”بطريقة ظالمة لذلك كان يمكن للفصل الأول الذي يحمل الرقم”1” أن يكون مفتتح الرواية لما له من تأثير انتباهي، حيث يتصل رئيس التحرير ببطل الرواية الساعة السادسة والنصف قبل وقت استيقاضه الساعة السابعة والنصف، وكانت ستكون ستكون بداية ناهضة ومفجرة لأحداث الوراية لو لم يشطح بها الكاتب بتفاصيل جانبية ليس لها علاقة بموضوع الإتصال الذي كان الغرض منه إخباري عن الحادثة المعروضة،”قبل رنين النبه الصباحي لساعتي الميكانيكية الصغيرة ….اتصل بي الاستاذ أحمد رئيس تحرير الجريدة التي أعمل بها منذ مطلع 2004 : ص11 “لكن تلك اللحظة- التوقيت ضاعت أيضاً من يد الكاتب ووعيه ليبتعد الروائي في حيثياتها ويغوص بعيدا ليسجل سيرة ذاتية مشبعة بروح التحدي.
وحتى هذه التفرعات الجانبية البعيدة عن بؤرة الحدث أغرقها الروائي بتفاصيل كان في غنى عنها لأنها لم تقدم للقاريء أي قيمة مضافة، كما هو حديثه عن سنة مباشرته بالجريدة وهو نفس تأريخ تخرجه من الجامعة”وهي السنة التي تلت سقوط النظام الصدامي البعثي عام 2004 ودخول القوات الأمريكية العراق وبالأخص بغداد: ص12 “ولقد كان الروائي في غنى عن هذه المباشرة السردية والمعلوماتية التي أخذت الشيء الكثير من بهاء الحياد الذي كان عليه أن يلتزم به إزاء حادثة تستحق التكثيف والإهتمام، وفي رواية مؤلفة من 145 صفحة يتأخر الروائي حتى الصفحة 87 ليبدأ تركيزه على حادثة اعدام الطلبة، وفي سردية طويلة تستغرق اكثر من 6 صفحات يتحدث الدفان كاظم الذي شارك بدفن بعض الطلبة المغدورين عن الحادثة، وينهي الدفان حديثه بسؤال غريب ضمن سياق النص حيث يسأل الدفان إذا كان قد لاحظ شيئاً مميزاً خلال الدفن!”فقلت له لا ليس هناك سوى السيارة الكراون :ص96 ” وتكون إفاضة السائق أكثر غرابة من سؤاله للدفان “إن كل الجثث التي نقلت كانت تحمل اسم صباح، كل الذين دفنوا بنفس الإسم :ص96 ” فكيف كان للدفان أن يعرف أسماء القتلى الذين اصطحبتهم القوات الأمنية ليدفنوا ليلاً وبطريقة سرية وعلى عجالة!
في الفصل التالي الذي يحمل البرقم”5″ والذي كان يجب ان يكون مكملاً لأحداث الفصل المهم الذي سبقه، ينتقل بنا الروائي إلى موضوع آخر ليس له علاقة بالحادثة الرئيسية للرواية، وهو موضوع قديم –جديد يتحدث فيه البطل عن سنة اعتقاله 1999 حين كان طالباً في الجامعة وما تعرض له من تعذيب نفسي وجسدي بسبب منشور قام وضعه على الجدارية الثقافية للجامعة بعنوان”مرزاب” التي لايفهم منها الكثير بسبب تلاصق بعض كلماتها وعدم انسجام بعض سطورها بسبب خطا في تنضيدها أو طباعتها، ليربط موضوع خروجه من السجن بعلاقته مع حبيبته بيداء ناجي التي يكتشف أنها ابنة احد المسؤولين الأمنين وانها دفعت ابيها ليتدخل لإطلاق صراحه، لم تخلو الرواية من الصور الجمالية بالإضافة الى التدفقات الحسية التي كان يضخها الروائي حسن فالح بين سطوح النص “كان يحمل قطعة خبز، تعثر سقط، تهاوت قطعة الخبز على الرصيف الكونكريتي، انحنى اندلق منه جيب سترته زجاجة صغيرة من العرق، تكسرت أعيته هذه النهايات، حاول ان يغادر ويترك قطعة خبزه وقطع الزجاج التي تناثرت: ص53 “.
تعتبر رواية تكسي كراون شهادة حية موثقة من أحد أبناء جيل الحرب، شهادة موثقة بالسرد والشعر عن العراق في العهد الدكتاتوري، بواقعه المزدحم بكل صور الرعب والموت والحرب، وهي شهادة تستحق القراءة والتسجيل” خوف من الذكريات هو ما أرهقني.. من كل ماسمعت .. قبورهم تعتليها أشجار تتموج بأغصان واوراق بلون الدم .. شربت دمائهم لأن أجسادهم لازالت طرية :ص22 ” وفي قصيدة القيامة يسجل الروائي واقعه الذي اتخمه الموت بقوافل مزدحمة تنتظر فيزا الدخول إلى القيامة”السماء مزدحمة ..قوافل الموت تتسربل إلى فوق.. بوابة الدخول مكتظة بهم.. مكتب الرخام الملائكي هو من يمنح الدخول إلى القيامة: ص130 “.
رواية تكسي كراون رواية سردية كتبت بلغة الشعر وروحه، كتبت لتؤرخ لحادثة ملحمية عن مقتل 286 شاب عراقي في ليلة واحدة كلهم يحملون اسم”صباح”، لكن الشعر والسيَّر الذاتية وعدم توافر الخبرة للكاتب سرقها من وهج حضورها لتظل مشعة بالشعر والنثر وعطاء القادم من الأيام.

تعليقات الفيسبوك

شاهد أيضاً

| مهند النابلسي : سينما ارتجالية وشهرة مجانية وشخصيات سطحية:وصف دقيق لتحفة ترفو”الليلة الأمريكية”-1973/الفيلم الفائز باوسكار أفضل فيلم أجنبي لعام:1974 .

*يلعب Truffaut نفسه دور مخرج سينمائي يُدعى Ferrand ، الذي يكافح ضد كل الصعاب لمحاولة …

| عبدالمجيب رحمون : كيف نتواصل بالحكي؟ أو الرواية والحياة عن رواية “عقد المانوليا”

لماذا نقرأ؟ وكيف نقرأ؟ هذان السؤالان الإشكاليان اللذان طرحهما الناقد الأمريكي “هارولد بلوم” لم يكن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *