أقيم في مدينة صوفيا في بلغاريا يوم 23/2/ 2015 ، بدعوة من نقابة الفنانين البلغار، معرض الفنان العراقي المغترب عبد الرزاق ياسر، وتضمن المعرض 11 لوحة زيتية بقياس (3.5م×2م) تحكي الإحداث التي مر بها العراق منذ احتلاله في عام 2003 لغاية عام 2014، والتي سبق للفنان إن أعلن عن مشروعه لرسم أعمال تتواصل مع أحداث العراق ما بعد الاحتلال، عند أقامته معرضه عام 2008 في قاعة مدارات السابقة ( ألق ) حاليا ً في بغداد، في معرضه هذا لم يغادر الفنان عبد الرزاق ياسر أسلوبه عما قدمه من أعمال سابقة بذات أسلوب السرد القصصي، ولكن كانت في أعماله السابقة للرؤى الحكائية أو السردية المبنية على فعل متواصل مع واقع المجتمع العراقي وتراثه الشعبي الاهتمام الأكبر، أن لم تكن هي السائدة، بينما شيد بناء أعماله الأخيرة على الرؤية البانورامية، وهي أقرب للإعمال الجدارية، التي تحكي ملاحم شعوبها، مليئة بالتشفير والرموز، ضمن بانوراما تحيط بإبعاد النص من كل جوانبه وتبرزه ضمن مجموعة موضوعات وإحداث، وتضع العمل في حالة حركة، وان كانت أعماله السابقة وبالأخص ( في معرضه الأخير في بغداد عام 2008) مكرسة للموضوعات الشعبية، والنصوص ذات الصلة بالحياة الاجتماعية، بألوانه المضببة ذات الطبيعة العراقية، إلا انه في معرضه الأخير في مدينة صوفيا، ينزاح قليلا عن تقنيته في الألوان والموضوعات مع الإبقاء على نسيجه السردي في إنشاء اللوحة، ويتوسع في اختزال الإشكال وتحريفها، والإبقاء على تعبيريتها، مع استمرار زخ العمل بالموضوعات الشعبية ورموزها، ويتحرك من منطقة النص الواحد إلى مجموعة نصوص، لتخدم الفكرة التي يشتغل عليها، لهذا جاءت لوحاته، أعمال جداريه أكثر منها لوحة تشكيلية، ولعل هذا الانزياح نحو الإعمال الملحمية جاء ليعبر به عن النوازع في التحرر من الإشكال وسيطرة الروح العفوية.
بناء اللوحة والتقنية..
كما أشرنا في مقالنا السابق عن معرضه عام 2008 فأن لوحته تمتاز بقدرتها على التحكم في الإنشاء، والسيطرة على أجزاء عناصرها، التي يخضعها لتطلعاته الفكرية، وينشئ فيها شئ أشبه بالحلم الأسطوري، فتكويناته تنسجم لإظهار عمل متكامل على الرغم من تعارضانها النصية في كل الخصائص، الخط واللون والضوء والمنظور (تحريفه للإشكال منظوريا ً لضرورة الدمج بين الحقيقة الذهنية والحقيقة المرئية ) ، فهو يشتغل على تبسيط الإشكال، مع قصديه في اكتظاظ لوحته بالرموز والدلالات

والإيحاءات الواقعية والفنتازيات والعادات وصور الحياة الشعبية، وإظهار التفصيلات الجزئية، واضعا النص كعنصر مهم، على الرغم من الإيهام الذي يطرحه، وكأنه يشتت البؤرة، وإظهار ما تحمله اللوحة من أثاث وتشخيص ورموز، لوصول الفكرة المركزية بالاعتماد على رؤية وتفكير المتلقي وما سيتوصل له من خلال الإشكال الواقعية والتعبيرية والرمزية التي يدمجها في البناء العام للوحة، وتعمل قوة الخطوط الحادة والمؤطرة للشخوص والإشكال على إبراز القيم اللونية، وتأكيد استقلالها لتحويل العمل الفني إلى تناغمات لونية، ووضع حالة أحكام للبناء المتوازي والهرمي، لإبقاء التماسك في شد العناصر بعضها للبعض الآخر من أجل التوازن العام الذي تتسم به لوحته، والتحكم بالكتلة التي تغطي المساحة الكلية، بينما تأخذ مساحة الفراغ دورها من خلال العلاقات اللونية، وقد حجم الفراغ إلى أبسط مساحة في هذه اللوحات وشكل أشارة لوجود أرض وسماء فقط، وأستعاظ عن الفراغ باللون ليمثله، وهو الطابع الذي تتسم به معظم إعماله في المعرض الأخير، التي تشكل امتدادا ً لإعمال الفنان الو اسطي، وخطوط الإظهار في لوحات بيكاسو وأعمال الفنانين الاسبان ما بعد القرن التاسع عشر، والتي سنجدها واضحة في إعمال التعبيريين الألمان، مع إغداقه للألوان التي تمنحنا البعد التعبيري المتنامي في اللوحة، وضبابية شفافة لجزء أو مقطع من اللوحة، لتغيير مسارها من إعلان توثيقي (بوستر) إلى إبداع جمالي تتفجر به طاقات عناصر الإنشاء الأساسية، اللون والخط، لإظهار النص الذي يشتغل لتقديمه بمفاهيم جمالية بحدود مستوى التكوين ومستوى اللون.
إن الروح التعبيرية التي تسود لوحاته، استطاع إن يجسدها ضمن البنائية اللونية، كثافة في اللون وجرأة في وضع المتقابلات والمضادات اللونية، ليمنح إبعاد اللوحة التعبيرية (حساً إنسانيا ً)، ولهذا مالت إعماله المتأخرة نحو الألوان الانطباعية، ألوان مشرقة وحيوية، واخضع لوحاته إلى تكوين هندسي محكم ، جعل منها ما يشبه العمارة، بتراكم هندسي للإشكال والشخوص والصور الطبيعية والجامدة والحيوانات والرموز الشعبية، أي إن اللوحة تأخذ أكثر من بعد في إيضاح النص، والطابع التصميمي في هندسة اللوحة واضح المعالم على مساحة اللوحة، فهي تنمو مع إبعاد الفكرة التي يستوحيها من الحياة الواقعية العراقية ليحيلها إلى تركيب تجسيمي وحكائي برموز وشفرات الماضي وواقعية الحاضر، إن استيحاءات تأثير الفنان يحيى الو اسطي في الخط الخارجي للتشخيص كما أسلفنا وتصغير الجزئيات، مع ما أضاف عليها إنشائيا ً من إمكانياته العالية في التخطيط، والبناء القصصي، جعلها نصا ً تعبيريا ً، تتمثل فيها أبعاد مدركاته الفكرية والتقنية لصياغة البعد السردي في لوحاته، مؤكدا إياها بالخطوط التي تجسد الشخصية على الرغم من أنه في هذا المعرض ينزاح قليلا عن الرواية والسرد القصصي، إلى السرد الملحمي، كما نجده في أعمال الفنانين في أمريكا أللاتينية وبالذات أعمال الفنان دييغوا ريفير، بحيث امتزجت قوة التخطيط مع إمكانياته في تصميم وبناء الفكرة على اللوحة بهندسة أعطت للمضامين روحية الإبهار، وإعادة صياغة الرؤية في عين الناظر بارتداد حالم عن عالم من الرؤى والأحلام شبه الخرافية، واظهر الأشياء من دون إخفاء، بوضوح في سلسلة تحليلية لروح النص، والتأكيد على التبسيط في الإشكال، وإظهار حجم المعاناة في وجوه وحركة الأشخاص، ونضج القيم الجمالية للوحة بعناصر الخط واللون والتصميم وفي اكتضاض الشخصيات والأشياء المتعددة والجزئيات من معتقدات وطقوس شعبية، بروح ملحمية وليس السرد الحكائي الذي اتسمت به أعماله السابقة، وبني على هذا الإنشاء الذي ساعدت الخطوط والألوان على جعله وكأن اللوحة في حالة حركة، تتحرك مع عين الرائي في سلسلة بانورامية تنقله من مشهد لآخر، وتأكيده على الربط في حركة الشخوص والزمنية، بنقل الماضي إلى الحاضر مع المشهد الحسي المعاصر، في قراءة للواقع برؤية جمالية بالرغم من المأساة التي تطرحها إمامنا لوحاته، بما فيها من قوة الخط وموسيقية الألوان وروعة التصميم. ومحاولته في تسطير التاريخ وجره نحو الحاضر، في لوحة تتسم بديمومة الحركة للرائي، حركة الشخوص والزمن ، نقل الماضي إلى الحاضر مع المشهد الحسي المعاصر وألوانه المشرقة.
عندما ننظر إلى لوحة التابوت في معرضه الأخير، رقم (1) فان المتوفي حضارة العراق ملفوف بعلم العراق، ومشدود بالحبال، ومودعيه وحامليه رموز التاريخ والحضارة العراقية من مختلف عصورها، والباكين عليه أشخاص الوقت الحاضر، مما ينقلنا هذا إلى الرؤية الملحمية التي اتسمت بها لوحاته وقدرته على توظيف النص تشكيليا ً ليتماشى وروح الفكرة ككل في نقل الواقع، وعلى الرغم من وجود ضبابية اللون الأخضر في جزء منها، لتأكيد الروح العراقية، إلا إن ألوانه جسدها بالطاقة والحيوية التي تعلن عن نفسها في استخدام الألوان الباردة بمساحات كبيرة والحارة بمساحات قليلة، مانحا ً الرؤية موسيقية التواصل في السردية، وعدم الانجرار وراء التسريع في الرؤية البصرية الذي تحدثه الألوان الحارة، باكتساب الهدوء والراحة في سرد الحكاية عبر الألوان ذات الطبيعة الباردة، ناقلا ً الروح التعبيرية التي يتسم بها الحدث، إلى تجسيم يحكي البعد من مختلف جوانبه، وكأنما أسطر الحدث بتركيب الأجزاء جزء أثر جزء، وبناء مفازة تلاحم ما بين الماضي والحاضر لكشف الدلالة التي يقدمها للمتلقي عبر القيم الجمالية المعبرة في هذه المصغرات..في الوقت الذي نجد تعبير الألوان في لوحة أخرى وما تحدثه الألوان الحارة، الصورة رقم (2) كيف إن اللون الأحمر يسرع الحركة ويدفع بالنص للإمام.
لا نريد الخوض فيما تقدمه الرؤية في الإعمال الجدارية وما ترويه من حياة الشعوب ومنجزاتها وافكارها، ولكن الفنان عبد الرزاق ياسر، استطاع من خلال كل الإمكانيات التي وظفها من عناصر اللوحة ومخاض أفكاره، أن يقدم عبر ثلاثة عشرة لوحة، رؤية بونا رامية لإحداث العراق ما بعد الاحتلال، وما آل إليه وطن وشعب بيد من أراد تدمير حضارة وحياة، لهذا يؤكد على الألوان الباردة لنقل الأمل واسترجاع الماضي، مستغلا إمكانياته التعبيرية في نقل الحدث، وتحويله إلى رؤية جمالية فيها الكثير من التأمل والتفكير، وهذا التفجير الجمالي الموحي بعظمة النص..