حين التمعن ولأول وهلة بعنوان النص ، قد يتبادر لدى المتلقي اللحظة ، بأن الشاعر يترفع عن مساواته بهم – أي الآخرين ، وكأن نوعاً من المفاخرة – الغرور – التباهي – الأنا الذاتية التي تسايره كل حين – فمفردة الآخرين – هي محور النص الذي سوف يتركب عليه كل هذا الكم بفضائه النوعي _ أو ربما يؤول إلى عكس ذلك من حيث الغبطة لهم بمعيشة أرقى منه ، وهكذا تترتب الصيغ للتفسير –كعنونة فقط !..غير أن الحقيقة التي يعرفها الدارسون تشي بالرأي الثاني ، من حيث أنهُ عرف حالة الضياع منذ صغرهِ ، نشأ يتيم الأبوين ،لذا لف طفولته المقموعة وشاح أسود لم يبان منه سوى العتمة وصولاً إلى الكبت والحرمان ، حيث لم يستقر في بيت يؤويه ،بل تقاذفتهُ بيوت مهجورة ينقصها الروح والأُلفة ، حيث ظلت حياتهُ أسيرة لطعم طفولي ينشدها وقت الشِدّة . تلك السيرة الملغزة والتي “لم يفلح النقاد حتى اليوم من تفكيك كل ألغازها “.
كالآخرين من هم – الذين من حولهِ –الأطفال في سنهِ آنذاك ، طلبة الجامعات، الشعراء المنافسين لهُ ، أصحاب الأندية المظللة ، أقران التسكع للشوارع الخلفية، وهكذا يمكن أن نقع على جمهرة منهم . وكما يعرف عنه من معاصريهِ “إنهُ كان يرتدي الملابس التي لم تكن في بلده أصلاً ” وهذه غرابة قد تصب في أصل العنوان ومفردة – كالآخرين – ربما هي المعنية بذاتها من غرابة محيرة لم يستفسر منه أحدٍ ،فظلت حياتهُ على هذا النهج وتلك الشاكلة إلى أن نطقت روحهُ قبل الموت بعبارة ” يارب ساعد روحي البائسة ” هذه تفرداته التي يفخر بها أو يستهزأ بها على حد سواء:
ما كنتُ أرً مثلما يرون
لم أستطع أن أجلب آلامي
من نبعٍ معروف
وما كنتُ أنهل أحزاني
من نفس الينبوع
لم تمهلهُ الأيام كي يتطلعَ في آفاقٍ البهجة ، بل ظلَ بعيداً عن روح المتعة ، فغصة المأساة الراسخة في عمق ذاتهِ ، رؤية مناظر مفجعة تؤلمهُ بكل نظرة فيها من التحسر والتنهدات والتي لا تطفئ النار في جوانحهِ ، بل تستعر في وقدَّة متواصلة للإشتعال . لم يرَ أُسرة متكاملة ببهرجتها التي تشع حناناً ، ويكملها العطف الأبوي بكل أشكالهِ ، بل فتح عيناهُ على بقايا لأسرة مشتتة في بيوت متباعدة لايعرف جذرمتبنيها . نعم لم يرَ أو يسمع خفقات قلبٍ يعطف أو لمسة حانية على رأسهِ. لهذا لم يكن باستطاعته أن يجلب من نبع مجهول كل مايراود مخياله حينهُ ، ليس من المعقول أن يتغنى أو يتباهى بأُسرة لا تربطه بحال من القرابة _نبع معروف – أسرة التبني – ليس لهُ صلةٌ بها كي يتأثر بأحزانها ،مستقطباً آلامهُ منها ، كذلك استجلابه الأحزان من ذلك النبع ، وكما قلنا الأسرة التي إحتظنتهُ . فمقاربة أو مقارنة –الألم بـ الحزن وكذلك أجلب بـ أنهل –فهذا الاختلاف والمصدر واحد هو النبع ثم الينبوع :
ماكان بمقدوري أن أبعث
في قلبي البهجة بنفس النغمة
وكل ما أحببتُ
كنتُ فيهِ منفرداً
ليس باستطاعته أن يجلب لقلبه البهجة ، أن يغرس روح الفرح كونه متصدع بعتمة أرهقت كاهلهُ ، فما عاد الفرح يثير الشوق في خلجاتهِ ،ولكثر ماكابد من المصائب والويلات والتصدع الروحي . إن النغمة – ربما قصدها هي السعادة والتي ذهبت عنهُ بعيداً ، لم تلج قلبهُ يوماُ لكثر ماخزَّن من هموم فما عاد يتسع غير نغمة الحزن المواكبة . كانت حياتهُ مقرونة بمخيبات متوالية أفنى عمرهُ في معاقرة الخمر وتعاطي المخدرات التي شلت أطرافهُ ، فما بوسعهِ أن يتنقل كما يشاء ، وما أحب وما هواه ، اختلف عن معاصريهِ . هذا ما نوه عنهُ في قصيدته التي اكتسب من تفردهِ علامة فارقة في سجل يومياتهِ العبثية والتي لم تهدأ يوماً .
كركوك 11-9-2014 .
عدنان أبو أندلس : الشاعر الأمريكي – أُودغار الن بو – في قصيدة – لم أكن كالآخرين .
تعليقات الفيسبوك