حيدر علي سلامة : إشكالية نظرية البلاغة الجديدة بين بيرلمان وعلي الوردي

haidar ali salama 2المتتبع لطبيعة ما يُكتب ويُنشر ويُعاد نشره حول فكر وفلسفة عالم الأجتماع العراقي العلاَّمة الراحل علي الوردي (1913-1995)، سيلحظ سيطرة شبه تامة للنزعات الأرثوذكسية والتقليدية في التعاطي والكتابة والبحث في مجمل مؤلفاته الأجتماعية واللغوية والمنطقية وما شابه. حيث يبدو واضحا أن أهم ما يميز ذلك النتاج الثقافي والفلسفي للنخب المثقفة والأكاديمية المختصة، هو وجود حالة من العزلة الكاملة بين نصوصهم والكشوفات الراهنة في علوم اللغة والمنطق والأبستمولوجيا الاجتماعية social epistemology، وعن الطفرات الحاصلة في مجالات نظريات الثقافة والأنتروبولوجيا واللسانيات السوسيوثقافية sociocultural linguistics. وقد أخذت هذه الهوة في الاتساع اللامتناهي بين النصوص المكتوبة لتلك النخب؛ وبين الثورات العلمية المتلاحقة، الأمر الذي انعكس سلبا على طبيعة منشورهم الثقافي والأكاديمي الذي تحول إلى منشور توتولوجي ايديولوجي، سيما فيما يتعلق بتحليل الأفكار الاجتماعية والسياسية والدينية في أدبيات العلاَّمة الراحل، إلى الدرجة التي يصبح فيها من الصعوبة بمكان أن نجد قراءة واحدة متفردة في أستعمالها لمنطق التحري والتحقيق والبحث inquiry – إذا ما استثنينا أبحاث ودراسات ومؤلفات الناقد العراقي الأستاذ الدكتور حسين سرمك حسن، الذي يُعد أول مفكر عراقي دعا إلى تأسيس فلسفة اجتماعية ثقافية وشعبية تتجاوز أسلوبيات الأبحاث السوسيولوجية التقليدية والمعيارية/والمؤِدلجة لنظريات الوردي، من خلال تطبيقه لمناهج العلوم الإنسانية وأبرزها ابستمولوجيا التحليل النفسي ونظرياتها السايكو-ثقافية والتاريخية بهدف إعادة قراءة وتأويل أطروحات وفرضيات العلاَّمة الوردي حول جينالوجيا ازدواجية الثقافة العراقية بدء من أصولها وانتهاء بالذات. وستكون لنا عودة مفصلة تتعلق بطروحات المفكر الأستاذ حسين سرمك حسن حول الوردي في المستقبل القريب–  تسعى إلى تقديم تأويلات جديدة لأفكار العلاَّمة، خاصة تلك المرتبطة منها بعلاقة الوردي بكل من حقول المنطق والفلسفة واللغة، وعلوم البلاغة وتحليل الخطاب النقدي.

alwardi 11من هنا، تأتي هذه المحاولة لاستئناف سؤال المقاربات الأبستمولوجية والمنطقية والحجاج البلاغي بين الخطاب السوسيوثقافي عند العلاَّمة الوردي؛ والخطاب السوسيوقانوني ألحجاجي عند الفيلسوف وعالم القانون البلجيكي شاييم بيرلمان Chaïm Perelman (1912-1984). حيث من الملاحظ على منطلق كل منهما، أنه تركز على نقد وتفكيك سلطة المنطق التقليدي/والشكلاني عند كل من الفيلسوفين أفلاطون وأرسطو، وذلك بهدف إعادة اكتشاف مفهوم ” الحجاج البلاغي argumentation rhétorique “،سيما وان كل من الوردي وبيرلمان، عمل على نقد وإعادة قراءة وتحليل ذلك المنطق حسب منهجه الخاص و رؤيته وثقافته المختلفة وسياقاته المتباينة، لكن دون أن يحول ذلك عن وجود نقاط تقارب مشتركة بينهما. ففي الخمسينيات من القرن الماضي نشر بيرلمان كتابه الذائع الصيت  Traité de l’argumentation : La nouvelle rhétorique  الصادر في عام 1958، الذي أعلن فيه عن قطيعته التامة مع مفاهيم البلاغة القديمة المتأسسة على المنطق الافلاطو-ارسطي وتدشينه لثورة راديكالية من خلال نظرية البلاغة الجديدة. ونشر الوردي في الفترة ذاتها أيضا خمس مؤلفات تناول فيها العلاقة الأشكالية والجدلية بين المنطق الافلاطو-ارسطي والبلاغة القديمة وبين صناعة وتشكيل السلطات الشمولية السياسية من جانب؛ والثقافية والدينية(الوعظية)من جانب آخر، وهذه الكتب كانت هي: وعاظ السلاطين 1954؛ أسطورة الأدب الرفيع 1957؛ الأحلام بين العقيدة والعلم 1959. ولقد شكل ظهور هذه المؤلفات الاجتماعية والفلسفية آنذاك “ثورة منطقية وصدمة حداثية جديدة” في الحياة السياسية والقانونية والثقافية العراقية التي سيطرت عليها “معايير وآثار التشريعات القانونية للسلطة العثمانية” ومخلفاتها اللاهوتية الممتزجة بالفلسفة والمنطق الافلاطو-ارسطي والبرهان البلاغي démonstration rhétorique، فقد كان هذا “الأبستيم المعرفي/المنطقي” مسيطرا سيطرة تامة على ابسط وأدق ممارسات وقيّم وعادات الحياة الثقافية اليومية الماكروفيزيائية/والميكروفيزيائية.

لهذا، وجه العلاَّمة الوردي اهتمامه صوب تحليل وتفكيك ذلك “الأبستيم الميتافيزيقي المطلق” الذي شطر الذات العراقية إلى نصفين: نصف يحيا في ظل ثقافة لاهوتية وعظية أفلاطونية وميتافيزيقية مطلقة؛ ونصف يحيا في تحولات حداثوية وسياسية لم يألفها من قبل، وربما كان هذا هو احد أهم الأسباب التي أدت إلى تشكيل منطق الازدواجية اللغوية واللسانية والسيميوتيكية والتي أنتجت بالضرورة “ازدواجية الشخصية”. لهذا، سعى الوردي إلى التحري عن الأسباب الكامنة خلف تلك الازدواجية، فأكتشف أنها تتمثل في سيادة أشكال منطقية ولسانية باثولوجية راسخة تُعيد إنتاج أبنية ثقافية ثابتة وقارّة بالضرورة في “اللاشعور الثقافي السائد”. وحينما تحقق الوردي عن أعراض تلك الأشكال المنطقية المرضية، لاحظ أنها مبثوثة ومبوّبة ضمن أدبيات الخطاب الإسلامي عامة؛ والمؤلفات التعليمية والمنهجية والدينية التي سيطر عليها “منطق أرسطو الاستدلالي/ألبرهاني”. أضف إلى ذلك، أن العلاَّمة الوردي شخص أيضا أعراض تلك الأشكال في كتب الشعر العربي والأدب الكلاسيكي وأدبيات اللغة والنحو وما شابه، والتي أنتجت ممارسات لغوية باثولوجية مرضية ذهنية.

perleman (2)لقد تركزت مقاربات الوردي في مجمل مؤلفاته وأبحاثه الاجتماعية على أساس تقويض مركزية اللوغوس الافلاطو-ارسطي، كما كان ذلك دأب بيرلمان الذي عمل هو الآخر على تفكيك سلطة المنطق الأرسطو طاليسي ألبرهاني الشكلاني، وذلك بهدف إعادة اكتشاف وتفعيل “الحجاج البلاغي” في نظريته الخاصة بالبلاغة الجديدة التي زعزعت منطق العقلانية الغربية منذ ارسطو إلى ديكارت والذي شُيّد على مبادئ وأسس المنطق البرهاني/الاستدلالي، بدء من أنظمة التشريع والقضاء والقانون، وانتهاء بألانظمة اللسانية و القيّمية والأخلاقية والسياسية. وهنا، نلاحظ كيف التقى كل من بيرلمان والوردي في هذه النقطة المفصلية في تاريخ الفلسفة والعلوم الإنسانية، سيما وأنهما عملا على تعرية جينالوجيا “ابستيم الثقافة المطلق” المنحدر من تاريخ الفلسفة العقلانية اليونانية الافلاطو- أرسطي، سعيا منهما للانتقال إلى تشكيل “الابستيم الثقافي النسبي والتاريخي” المتأسس على بلاغة المُخاطَب/والخطاب السفسطائي الذي عمد كل منهما على تقديم قراءات وتأويلات فلسفية ونقدية جديدة ومبتكرة له، في الوقت الذي كان ينظر فيه كل من الفكر الغربي والفكر العربي إلى السفسطائيين بوصفهم مروجين لشكل من أشكال البلاغة الاغوائية/السحرية الخالية من أي فلسفة متأسسة على حقائق عقلانية قبلية، لهذا كانت بلاغتهم تقف بالضد من كل قيّم الأخلاق والمثل الإنسانية العليا والمطلقة – بحسب تاريخ التهم الافلاطو-ارسطية -. وهنا، انكبَّ بيرلمان على إعادة النظر في تاريخ تلك الفلسفة السفسطائية المنكوبة والمسحوقة تحت سلطة البلاغة العقلانية ومعاييرها النظرية المجردة والمموضعة، وهذا ما عمل عليه وبشكل متواز العلاَّمة الوردي، الذي لطالما كان يذكر مرارا وتكرار مقولته المشهورة في كل مؤلفاته حول “من كبرى خسائر التاريخ هو انهزام الفلسفة السفسطائية ونهايتها المبكرة” على يد سلطة افلاطون وارسطو.

من هنا، يمكننا القول انه مع هذه القطائع والتحولات الفلسفية والمنطقية المذكورة أعلاه، جرى اكتشاف “دازاين المتكلم” في بنية وانطولوجيا الحياة اليومية، هذا المتكلم الذي طالما تم مصادرته وجرى تخييله وتصوره فقط من خلال اقيسة منطقية قطعية ارسطوية لا تهتم إلا بما هو استدلالي و عقلاني و برهاني ثابت بالضرورة، محكم البناء ومنزه عن الزلل والخطأ والالتباس والغموض والتحول، وبالطبع، هذا ما لا تتوفر عليه اللغة الطبيعية اليومية الرازحة تحت سيطرة الأنساق الشمولية والأيديولوجية. لهذا، اعتبر  بيرلمان أن “البلاغة الجديدة” هي بيان ثوري وراديكالي ضد تواريخ الأنظمة الشمولية في الغرب، كما اعتبرها علي الوردي في الوقت نفسه، نظرية سياسية جديدة ضد طغيان البلاغة النخبوية للأنظمة العثمانية التقليدية وضد سلطة الجلاوزة السياسيين ولدوغما الوعاظ الدينيين، وبهذه الطريقة يُعاد النظر في تاريخِ تاريخَ الكتابة التاريخية للفلسفة من جهة، ولأنظمة القيم والأخلاق والعدل والقضاء والسياسة من جهة أخرى.

(*)باحث من العراق- مختص في فلسفة الدراسات الثقافية/ومابعدها

تعليقات الفيسبوك

شاهد أيضاً

| إبراهيم أبو عواد : فلسفة التاريخ في التفاعلات الرمزية للعلاقات الاجتماعية.

1      توظيفُ فلسفةِ التاريخ في التفاعلات الرمزية للعلاقات الاجتماعية يُعْتَبَر مُحاولةً لتفسيرِ مَصَادِر المعرفة …

| د. زهير الخويلدي : الفنومينولوجيا من حيث هي علم صارم حسب ادموند هوسرل.

مقدمة درس ادموند هوسرل الرياضيات أولاً، ثم كرس نفسه للفلسفة من أجل التأمل في أسس علمها ومعناها. أول …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *