طه جزاع : حكاية مقال صحفي تاريخي للساخر الكبير “مدني صالح” (ملفات/17)

taha jzaaإشارة :
احتفاء بتراث الفيلسوف العراقي الراحل الدكتور “مدني صالح” ، وبمساهماته الفذّة في الثقافة العراقية والعربية ، تبدأ اسرة موقع الناقد العراقي بنشر هذا الملف الخاص عنه ، والذي تدعو الأخوة الكتّاب الأحبّة إلى المساهمة فيه . وسيكون الملف مفتوحاً من الناحية الزمنية على عادة أسرة الموقع حيث لا يتحدّد الإحتفاء بالفكر بمساحة زمنية معينة .

المقالة : 
مدني صالح : يجد الحمار جميع مفردات لائحة حقوقه في مؤسسة النظام والتقدم وشيئا من مفردات لائحة حقوق الإنسان،ولا يجد الإنسان شيئا من مفردات لائحة حقوقه في مؤسسة الفوضى والتخلف ولا شيء من لائحة حقوق الحمار!

حين اتصل بي الزميل العزيز علي حسين لإعلامي بالتهيئة لملف الخميس الذي تصدره جريدة المدى الغراء عن الأديب المتفلسف الراحل مدني صالح،أوضح لي إن الأمر تأخر كثيرا،ملوحا بذلك إلى حديث جرى بيننا قبل أكثر من عام حول هذا الملف الذي يحتفي عادة بكبار أعلام العراق من المفكرين والسياسيين والأدباء والفنانين والمثقفين، وبعد هذا الاتصال الجديد سارعت لمهاتفة بعض الزملاء الأعزاء من الكتاب والأكاديميين ورجوتهم الاتصال بزملاء آخرين ممن لديهم الاستعداد والقدرة للكتابة عن مدني صالح مفكرا وأديبا ومتفلسفا وإنسانا .
ومما اذكره في هذا المقام إنني كنت قد أقمت مهرجانا على الورق للمدني الصالح منتصف العام 2013 بعد نشري لمقال عن (لائحة حقوق الحمار) التي وضعها أستاذنا الراحل منتصف العام 1996 وكانت غايته من ذلك أن نقيس بموجبها حقوق الإنسان على ما يتوفر من رعاية واهتمام بالحمار والحيوان عموما،وقد عقب عدد من الأصدقاء والكتاب والصحفيين والقراء،وعلقوا وذكروا في تعقيباتهم وتعليقاتهم بعض المعلومات عن مدني صالح، وجدت إنها تمثل إضافة للمقال،ومن ذلك ما استذكره الزميل الدكتور لقاء مكي عن الأيام التي درس فيها الفلسفة على يد مدني : قال لنا مرة في الدرس انه لم يعد يطالب بحقوق الإنسان،بل بحقوق madani saleh 3الحيوان،فلحيوانك عليك ثلاثا : أن يأكل حتى يشبع،وأن تجد له مثوى يهجع فيه،وأن لا تحمله فوق طاقته،وقد وجدنا ونحن نسمع للراحل الكبير إنها وان كانت مطالب واقعية ومشروعة وتبدو يسيرة، ألا إننا – نحن معشر البشر – محرومون منها لاسيما في أيام الحصار القاسية. أما الكاتب والصحفي القدير زيد الحلي فقد قال : لقد كان قلمك بارعا في رسم صورة أقرب إلى أدب القصة لسيرورة مبدع غادر الدنيا غير آسف عليها ولم يأخذ منها شيئا إلا العز ونقاء الضمير وصلابة الموقف وسداد الرأي وحكمة التاريخ ،ومثل مدني صالح لا يأسفون على شيء لأنهم أصحاب كلمة حق،وكلمتهم نور،فرس جموح تكره الظلام.وعقب الإعلامي والكاتب عبد الهادي مهودر بالقول : كان مدني صالحبالكاد يجد له مكانا في الباص المزدحم،رأيته مرات عديدة على هذا الحال،بسيطا متواضعا والناس لم تكن تعرف قيمته فتتدافع معه،لائحته كانت أجرأ وأروع ما كتب عن حقوق الإنسان حينها مع إن عنوانها يشير صراحة إلى الحمار،هكذا يحتج الفلاسفة والعظماء،واستذكاره وفاء ما بعده وفاء.أما الكاتب حامد الكيلاني فقد عقب قائلا : كنت أراه ويراني أسبوعيا في جريدة الجمهورية،يقرأ موضوعه وأساعده في آخر الملاحظات والتصحيحات،بسيط جدا جدا مثل الحقيقة،لا يحب أن يثقل على أحد، ممكن أن تصفه بأسماء المدن،تليق به تسمية بغداد،كم كان يشبه ما يكتب، مدني صالح لن يغيب عن ذاكرتي،أحيانا تزاحمني جملة في الكتابة،أعرف إن مدني جاء لزيارتي،ألا يستحق فيلسوفنا نصبا في بغداد لا يتزاحم لمنعه أو فيما بعد لتهديمه أحد ؟. ويصف الكاتب والصحفي حمزة مصطفىمدني صالح بأنه توأم علي الوردي لكن في إطار ما هو فلسفي اجتماعي،حيث إن الوردي ركز على البعد الاجتماعي المباشر فيما يتعلق بالشخصية العراقية وتحولاتها وتناقضاتها،بينما منحها مدني صالح عمقا فلسفيا هو أقرب إلى السهل الممتنع وذلك بتشخيص الكثير من أمراضنا بروح ساخرة ناقدة.
وعن حجم الكلمات التي كانت تميز خط مدني – كما أشرت إلى ذلك في مقالي – أضاف الكاتب جمال المظفر شيئا بقوله : انه سرد ممتع عن شخصية مهمة كشخصية وعبقرية مدني صالح،كلماته تذكرني بكلمات الكاتب المبدع مظهر عارف حيث كانت الورقة تتضمن تسع أو عشر كلمات لطول حروفه.أما الصحفي علي الزيداوي فقد عقب بالقول : انه واحد من القلائل الذين علينا أن نمنحهم شيئا يسيرا مما نملكه في ذواتنا المحاصرة لينتقل بنا إلى عوالم ثقافية أكثر رفضا وتحديا بعد أن زحف التصحر على كل شيء،وصرخة الحمار لا أظنها المارد الأوحد الذي سوف يخرج من القمقم كل الذي فقدناه. ويستذكر الأكاديمي الأستاذ الدكتور عبد الغفار القيسي رحلة له مع مدني بالقول : أتذكره في باص نوع ريم أثناء عودتنا من جامعة الكوفة حيث كان مناقشا لأحد طلبة الماجستير في الفلسفة وكنت أنا من الحضور،أتذكره متواضعا لا يكلف أحدا ولا يثقل على أحد. وقالت الصحفية والقاصة سناء النقاش : كنت من أشد المعجبات به وأقرأ كل ما يكتبه في جريدتنا التي نحب الجمهورية،وكنت في البداية أستحي أن أتكلم معه لصغر سني وفي ذات مرة سلمت عليه وناقشته في أحد المواضيع وكانت البداية للقاءات أخرى وما زلت أتذكر الموضوع وقد كتبت عنه في مجموعتي القصصية.
كان ذلك المقال معنيا بما كتبه مدني صالح في منتصف تموز 1996 ونشر في جريدة (المصور العربي) ويومها رجوته العودة للكتابة الصحفية بعد صمت طويل وعزوف طويلين وزهد في الحياة وضوضائها وخطبائها ومهرجاناتها ومهرجيها،وكان في تلك الأيام قد ركن سيارته المرسيدس القديمة في مراب بيته بعد عطلها وتقاعسه عن تدبير إصلاحها حتى نبتت الحشائش من تحتها وبرزت من بين مقاعدها ونوافذها وشقوقها،وعند انتهاء الدوام كان يطيب له أن يمشي مسافات طويلة وقد تأبط صحيفة طواها عدة طيات حتى أصبحت بحجم علبة سيكائر،فيقطع المسافة من كلية الآداب في الباب المعظم مرورا بكلية الفنون الجميلة في الوزيرية فشارع المغرب ثم الاعظمية ويعبر جسر الأئمة متجها إلى مراب السيارات العامة في الكاظمية ومن هناك يستقل حافلة أهلية ليصعد إليها نفرا من الأنفار وصولا إلى بيته في الغزالية. ولم يكن يتوقف في مشيه إلا نادرا،وأن صادفه زميل أو أحد المعارف فسرعان ما يصرفه ويمضي إلى غايته سريعا مستعجلا،لا يكاد يلتفت يمينا ولا شمالا،غير إن الذي يراقبه يشعر انه مشغول جدا في الحوار مع نفسه وربما في الحوار مع آخرين يستحضرهم في سيره الطويل لعل من بينهم فيثاغورس وسقراط وأفلاطون وأفلوطين والفارابي وابن سينا والغزالي وابن رشد وابن خلدون،وعلي الوردي الذي كان يقطع مثله جسر الأئمة من مسقط سكنه في الاعظمية إلى مسقط رأسه في الكاظمية،ويعبر الجسر نفسه في العودة إلى مسقط السكن عبورا تاريخيا لا خرافة فيه ولا عصبية،كما وصفه صالح ذات يوم معلنا بأنه مهد لعلي الوردي تمهيدا يليق بالفاتح الثقافي المجدد والانقلابي الخطير وفتح له أبواب المدينة الآمنة العاصمة هيت،وفتح له جميع أبواب الدور والمقاهي والدواوين والبساتين وأعلنه جليسا مؤنسا ومحدثا نافعا ممتعا ساحرا بالبلاغة والبيان وبالتجديد،ومن الجهابذة الفراهدة الأساطين،على جميع تخوت المقاهي بين الشاقوفة إلى الدوارة وبين الدوارة إلى الشاقوفة،وصدرا على أرقى الكرويتات في الدواوين!. وكان مدني يقصد بذلك الفصل الذي كتبه عن الوردي في كتابه أشكال وألوان الصادر في العام 1956 وهو عام مبكر في شهرة الوردي من دون شك،ولم يكن مدني ليفعل ذلك ويفتح له أبواب هيت ودورها ودواوينها ومقاهيها وبساتينها لو لم يكن متأكدا من أصالة هذا الفاتح المجدد.. كاظمي أعظمي بغدادي عراقي يعبر جسر ألائمة من مسقط سكنه في الاعظمية إلى مسقط رأسه في الكاظمية ويعبر الجسر نفسه في العودة من مسقط الرأس إلى مسقط السكن عبورا تاريخيا لا خرافة فيه ولا عصبية.
في تلك الأيام التموزية،استجاب مدني صالح للعودة إلى الكتابة الصحفية،وسلمني مقالا مطولا يبدو أكبر بكثير من حجمه الطبيعي حين النشر،إذ انه كان معتادا على الكتابة في أوراق مخططة منزوعة من الدفتر المدرسي الاعتيادي،وكان يلجأ أحيانا إلى ربطها مع بعض بالمخيط باستخدام خيط من خيوط الأكياس القوية،وكان أيضا لا يكتب أكثر من ستة أو سبعة كلمات في السطر الواحد،وربما ليس أكثر من جملة واحدة على طول الصفحة وعرضها،فقد كانت كلماته كبيرة جدا،ولا تستغرب إن وجدت أحيانا كلمة واحدة استطالت فصارت بطول سبابتك،وعليك أن تتخيل كم صفحة يتطلبها مقال واحد من مقالاته الطويلة ؟ أما حين يخطئ في كلمة أو جملة ويريد تصحيحها فأنه يكتبها من جديد على قصاصة ورق صغيرة ويقوم بلصقها بالصمغ على الكلمة أو الجملة بعد التصحيح!
كان المقال الطويل الذي سلمني إياه للنشر يحمل عنوانا مثيرا وموحيا وشجاعا هو (لائحة حقوق الحمار!) قدم له بالقول: مع تحية المودة والإعجاب في الأدب إلى جورج جرداق وزكريا تامر ودريد لحام،وفي هذا المقال حقيقة كبيرة أوجزها مدني صالح بجملة واحدة هي إن الحمار يجد جميع مفردات لائحة حقوقه في مؤسسة النظام والتقدم وشيئا من مفردات لائحة حقوق الإنسان،ولا يجد الإنسان شيئا من مفردات لائحة حقوقه في مؤسسة الفوضى والتخلف ولاشيء من مفردات لائحة حقوق الحمار!
كان من الواضح إن مدني قد لجأ في مقاله ذاك إلى اللغة الرمزية المبطنة،وأستخدم الحمار لغايات أبعد،هذا الحمار (الذي لا يزني ولا يسرق ولا يعبث ولا يرابي ولا يضارب ولا يحتكر ولا يقامر ولا يحارب ولا يتاجر ولا يخون ولا يكذب ولا يغش ولا ينافق ولا يتدافع على التغالب ولا يتغالب على الجمع والادخار وليس بذاخر لغد طعاما مخافة غد لكل غد طعام) . ثم يدعو إلى مراعاته وحسن معاملته (وخفف عنه آلام الإذلال المبرح وآلام الاستنزاف والاستغلال والأغلال،وان له عليك تهيئة أسباب العافية والأمان وتحريره من ربقة المخاوف كلها بلا استثناء وألا فقد أسأت الإدارة والتدبير،ومن أول أسباب حسن الإدارة أن يكون أول اهتمامك بقوى الإنتاج في المؤسسة وتهيئة أسباب الراحة للعاملين الذين منهم هذا الباسل الحكيم الصابر الذي يرضى منك بالقشور ويشكر لك عليها النعمة حتى حين يكون هو أحق منك باللب وحتى حين تكون أنت أولى منه بالقشور)!
وتحولت قضية لائحة حقوق الحمار منذ ذلك المقال التاريخي الساخر،إلى صرخة وفلسفة ودعوة للدفاع عن لائحة حقوق الإنسان تحت ذريعة الدفاع عن حقوق الحمار في كل زمان ومكان يهان فيه الإنسان قبل الحمار!

عن صحيفة المدى

تعليقات الفيسبوك

شاهد أيضاً

د. قصي الشيخ عسكر: نصوص (ملف/20)

بهارات (مهداة إلى صديقي الفنان ز.ش.) اغتنمناها فرصة ثمينة لا تعوّض حين غادر زميلنا الهندي …

لا كنز لهذا الولد سوى ضرورة الهوية
(سيدي قنصل بابل) رواية نبيل نوري
مقداد مسعود (ملف/6 الحلقة الأخيرة)

يتنوع عنف الدولة وأشده شراسة ً هو الدستور في بعض فقراته ِ،وحين تواصل الدولة تحصنها …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *