الأدب شعور باللغة و إحساس بها و إبحار في أعماقها و كشف عن أسرارها و عبقريتها ، ليس الادب تعقيدا للخطاب ، و بناءات متجافية جافة. و لقد رأينا و أحسسنا بالخسارة التي سببتها الاعمال المتجافية و المعقدة لكثير من ادب الحداثة التي لا زال تأثيرها السلبي مستمرا ، متسببا في عزلة الأدب ، و افتقاره للشعبية و التأثير على الجماهير .
إن الخطوة المهمة التي قطعتها نظرية النقد المعاصرة في العقود الاخيرة بالانتقال بجرأة من المناهج الوصفية كالبنيوية و التفكيكية غير الفعالة الى المناهج الاكثر تماسا مع ظاهرة الابداع و الجمال متمثلة بالاسلوبية ، هذه الخطوة اطلّت بواقعية اكبر على عملية الابداع و مظاهره الخارجية في النصوص . و لحقيقة معاناة الاسلوبية من اشكاليات تبعدها عن جوهر الادب و حقيقة جماله ، بيناها تفصيلا في مقالنا ( نقد النقد الاسلوبي ) كانت الاسلوبية التعبيرية هي الاقرب من ظاهرة الابداع و الجمال اللغوي .
في ديوان ( طيف الأصيل ) للشاعر العراقي ضمد كاظم وسمي ، نجد لغة تعبيرية عالية ، حيث نجد الإمتاع حاضرا ، و الهدف و اضحا ، و الأسلوب الفني العالي جليا . حيث تتجلى هذه العناصر في مواطن كثيرة و مواضع بارزة في النص ، إذ يمكن تلمّس أسلوبيات إمتاعية و جمالية و إبداعية كثيرة في الديوان ، الا انّا سنركّز هنا على أسلوب فذ و عالي المستوى في اللغة التعبيرية في الديون هو أسلوب إحضار الكليّ بالجزئي .
الجمالية المتحققة في احضار الكلي بالجزئي تعتمد في جزء كبير منها على عملية القراءة و التلقي ، بمعنى آخر انّ هذا الاسلوب من الاساليب التي تعتمد في امتاعها على المتلقي و عملية القراءة .
ان استحضار الكلي بالحديث عن الجزئي يخرق منطقية التخاطب في ثلاث جهات ، الاولى من جهة القول و الثانية من جهة اللغة و الثالثة من جهة المفهوم ، فالخرق الحاصل على مستوى الكلام ، يتحقق بكون القراءة تصدَم بان درجة الصفر الكلامية التي تنتجها قراءة الجملة التخاطبية تؤجّل ، و الخطّ البياني للفهم يرتدّ الى نقطة البداية في عملية هدم للفهم و بناء جديد فيكون لدينا خطابين حاضرين في تركيب تعبيريّ واحد كما هو مبين بالشكل التالي :
اثناء عملية التلقي ينطلق الفهم مع اول الكلام من نظام واسع من الاحتمالات الدلالية ، و مع كل مفردة اضافية يتضيق حقل الدلالة و يتشخص المراد اكثر فاكثر ، حتى يصل الى نقطة الصفر و هو الجملة التامة المفيدة الواضحة الدلالة ، الا ان ما يحصل في استحضار الكلي ، انه بعد توقع المتلقي ان الحديث كان عن الجزئي المعين و انه احكم الفهم و الفكرة ، لكنه بعد الاقتراب من درجة الصفر الدلالية ، يحصل ارتداد و توسع و عودة الى الاحتمالية الدلالية فترتد عملية الفهم الى المرحلة الاولى حينما يصبح التعبير و الخطاب عن الكلي ، هذا الشكل من التعبير فيه خرق واضح و صادم للتخاطبية و التداولية ، وهو المحقق لاسلوب جمالي تعبيري و موّسع و معَظّم لطاقات اللغة و كاشف عن عبقريتها .و يصاحب ذلك اهتزاز كبير في مرجعيات اللغة و حقول المعنى و علاقة اللفظ بالمعنى ، كما انه يولد توسع ملحوظ في المفهوم لموضوعات الحديث من جزئي و كلي .
ديوان ( طيف الاصيل ) ، مجموعة شعرية للشاعر و الباحث العراقي ضمد كاظم وسمي ، إصدار دار الصداقة للثقافة والنشر الالكتروني سنة 2010 ، يحتوي الديوان على ستة عشر نصا متوسط الحجم من قصائد نثر و تفعيلة . في هذا الديوان نجد إستحضار الكلي بالجزئي متكررا كثيرا ، ففي قصيدة اسرار الوردة ، و بعد حديث الشاعر عن وردته و انوثتها الى ان يقول :
( تساقط أيها الثلج
فوردتي ليست في آجامها
فلتت من أناملي
كسمكة مزقت شباكها )
الى هنا القارئ ينتقل بالنص الى حقول جزئية للوردة و الانثى و المشاعر الوجدانية و الخيبة و الحزن الخاص في تلك العلاقة المرسومة ، و يحسّ القارئ انه امتلك زمام الفهم و النص و انه اقترب من درجة الصفر الدلالية و ليس من احتمالات اضافية ، الا انه بعد ذلك يقول الشاعر :
( شعرة رمادية تعانق روحي
فشعرت باختلاج الغروب
وصرير الأبواب يقايضني )
هنا يحصل ارتداد و اهتزاز في التلقي و دخول للشك في ذهن القارئ ، يجعله يقلل من ايمانه بما توصل اليه من فهم و من حقول ، بعدها يقول الشاعر :
( عبوس السماء
وعويل الأشياء
والزمن المتدحرج كرأس
فوق مقصلة الأيام
يستهوي اللصوص
خلف الجدران
هنا يحصل قطع عند المتلقي انّ الخط البياني الذي رسمه و تلقاه لم يكن هو القصد الواقعي فتتوسع الدلالة و تعود الاحتملات كما الاول ، و ترتد عملية الفهم الى نقطة البداية ، وهنا تحصل الصدمة و الابهار . ثم يقول الشاعر :
( وقلبي يقفز
خارج أضلعي
لكنني اختبئ
داخل قلبي !
من خلف القضبان
يشايع اللصوص
نعش وردتي
التي قضمت الظلام
بنور أوراقها المتطايرة
وثلمت )
وهنا يحصل خرق لمرجعيات اللغة و التلقي ، بانزياح لغوي و انزياح نصي ناتج عن التوسع و الارتداد الصادم لاحتملات الدلالة ، و ينتقل الكلام من الجزئي و الوردة الى الكلي الانتمائي و الانساني ، فيكون للمفردات معان غير معانيها اللغوية و لا معانيها النصية ، بمعنى اخر يحصل هنا انزياح مزدوج على مستوى المرجعية اللغوية للمفردة و على مستوى المرجعية النصية لها . وهذا الاسلوب يحقق صدمة و ابهارا و امتاعا جماليا واضحا .
و في قصيدة ( طيف الاصيل ) بعد ان تحدّث الشاعر عن زهرته العبقة بخطابات وجدانية و يقول لها :
( كيف ادخل
خدرك المنمق؟
فامزق عنه الاوهام
بعدما رمزت حقائبك
و شددت رحالك
للسفر البعيد
فأدميت قلبي العميد )
لكنا نجده انه بعد ذلك يقول :
رمتِ ان تريهم النظرة
فهتفوا
الى مهافي الفترة )
هنا يحصل ارباك فهمي بكسر التوقع و يحصل اهتزاز في مجال الدلالة بعد شعور القارئ بالاقتراب من صفر القراءة ، ثم تتوسع الدلالة اكبر في قوله :
( دللتهم على شعاع الشمس
في ضحى الجمال
فعكفوا على
خفافيش الكهوف )
وهنا يحصل ارتداد في نظام الاحتمالات و تعود القراءة الى مربعها الاول فيتحول الكلام من الجزئي الى الكلي الذي يدل على الشمس و الجمال و الكلي الذين عكفوا على خفافيش الكهوف ، و بهذا الارتداد تحصل الصدمة و الابهار و يتحقق الامتاع .
و بهذا الاسلوب السلس العذب ، و العالي الفنية تنتظم قصائد ضمد كاظم وسمي في لغة تعبيرية فذة و مميزة في ديوانه ( طيف الأصيل ) الذي أبدع فيه الشاعر بقصائد نثر كما هو مبدع في قصائد الموزون و القافية .