منذ سنين طويلة،وأحسبني كنت في المدرسة الثانوية وقتها،قرأت في كتاب مثير من كتب الناقد الساخر مارون عبود عبارة مثيرة نسبها الى أديب فرنسي شهير. سقط أسم الكتاب ، وإسم الأديب الفرنسي ، من ثقوب الذاكرة وبقيت العبارة ” الشعراء الكبار نادرون :بل أنهم أندر من العلماء الكبار”. وصف ” الكبار” يخيفني ، فالشاعر قد يكون كبيراً في الحجم ، ولا مبرر للأمثلة ! ، وقد يكون كبير المقام ، والأمثلة كثيرة. كما أن تعريف ” الشعراء ” قد يكون محل أخذ ورد ، بالتعريف الواسع ، لا توجد ندرة في الشعراء بين العرب. مؤخرا ، أعلن القسم العربي بهيئة الإذاعة البريطانية عن مسابقة للشعر فتقدم اليها مئات الشعراء من أقصى الوطن العربي الى أقصاه . وعدد الأمسيات الشعرية في الأمة العربية لا يكاد يعادله إلا عدد المؤتمرات على هذه الأمة. فلنعدل ، إذن عبارة صاحبنا الفرنسي الذي ضاع إسمه ولنقل أن ” الشعر الحقيقي نادر “.
من هنا يجئ فرحي كمتذوق يتوهم انه يستطيع التفرقة ، عفويا ، بين النظم والشعر إذا إلتقيت ببيت رائع ، أو مقطع مؤثر ، أو قصيدة نابضة . ومن هنا يجئ حرصي على أن يشاركني الفرح أكبر عدد ممكن من الناس .
إليك إذن أيها القارئ العزيز باقة من الشعر ، الشعر الحقيقي النادر ، من بستان الشاعر العراقي يحيى السماوي .
أنظر كيف تتفجر الغربة شعراً في قوله :
أكاد حتى رفات الميت أحسده
غداة يملك أرض القبر في بـلــدي
وقوله:
وطني؟! يُقال بأن لي وطناً فما
أبصرته.. إلا وقيدي في يــــدي
وأراه أحيانا ينام كطعنـــةٍ
فوق الخرائط.. أو بصوتِ المنشد
قال أبو سهيل : اذهب أيها السماوي فلم يسبقك إلى ” طعنة فوق الخرائط ” أحد!
وأسمع خوف الشاعر إذا عاد إلى وطنه في يوم لا ريب فيه ، بإذن الله ، فلم يعرفه أحد :
أتعرف عاشقا قد كان طفلاً غداة مضى.. وجاء به المـشيب؟!
غـداً آتي.. فلا شفة تغني مواويلي.. وتنكرني الـــدروبُ
وتطفـأ ضحكة كحفيف زهرٍ ويومـئُ نازل ” هذا غريــبُ “!
وفي الغربة يقدم الشاعر النازح أروع التحيةِ الى الوطن المعطاء الذي أستضافه شقيقا قريبا من شغاف القلب.
يقول عن مكة المكرمة:
حجَـت لها قبل الأنام سماؤها بحجيج ســجَيل على سُلابهــا
أرض تكاد لفرط عزة رملهـا يروي عطاشى الماء وهِجُ سرابها
قال أبو سهيل : ولم يسبقك أحد من شعراء أم القرى ولا من حولها في “حجيج السَجيل ”
ويقوا عن أبها الحسناء :
نسلت من الشجر الوريق ضفيرة ومن الجبال الشاهقات ســريرا
ومــن النجوم قلادة بدويــة ومن الغيوم الطيبات بخـــورا
قال أبو سهيل : لا يُقدر الشطر الأول من البيت الأول قدره إلا أهل الخليج الذين يتحدثون ، حتى بلغتهم العامية ، عن فتاة ” تنسل شعرها “.
ماذا عن قلب العاشق في الغربة؟!
يدعي شاعرنا أنه لا يستطيع أن يحب إمرأة ما دام بعيدا عن وطنه ، وأنه سيؤجل الحب حتى العودة :
لو كان لي بيتي ولي وطني لم أتخذ غير الهوى نسبا
إلا أن إدعاء الشاعر يذكرنا بتصريح الأخطل الصغير :
كذب الواشي وخـــاب من رأى الشاعر تــاب ؟!
وصدق الأخطل الصغير !
هذا هو شاعرنا ينظر إلى إبنة العشرين متحسراً :
وأوَاه كم يؤلم هذا الشجن هنا :
قد اعتنقتِ من الدنيا مباهجهـا اما أنا فهموم النـاس أعتــنقُ
لقد شربتُ.. ولكن لا كما شربوا وقد عشقتُ.. ولكن لا كما عشقوا
وهنا :
فإذا إقتلعت الرمح من جسدي غرس الأسى رمحين..والوطن
أفكلما نفّضت مركبتــــي نفضت عليَّ جراحها المُـدُن ؟!
وبعد :
تحية شكر عميق للأديب الصديق عبد المقصود خوجه الذي نشر للشاعر مجموعة ” قلبي على وطني “.
وتحية شكر عميق لنادي أبها الأدبي الذي نشر مجموعة الشاعر الأخرى ” من أغاني المشرَد ”
أما أنت أيها الطائر الجريح فقد أوشكت عيني تدمع وأنا أقرأ :
غداً إذا غفوتَ…من يا ترى يسقي حقول الورد من بعدي ؟!
لا أدري يا أخي…
لا أدري !
جربت عاج الموسرين..فجربـي طين الفقير.. وإن جفاه بريـقُ
أغويتني بالحسن.. وهو طريدتي فطرقتُ.. لكن صدني المطروق
فرقت ما بيني وبيني فاجمــعي بعضي إلي.. أضرني التفـريق
قال أبو سهيل : لا يلومن كهل أحب إبنة العشرين إلا نفسه !
وإليك هذا المشهد الطريف في الطائرة :
كشفت لترشف قهوة فإذا الدجى صبحُ طري الضوء غض المنهل
وجه يفيض عليه نهرُ أنوثــة ونسيمُ غاباتٍ.. وشقرة ســنبل
صرخ شاعرنا في المضيف :
بالله يا هذا المضيف.. لحظــة ! زدني ! ولا تبخل عليَ.. فأجمـل !
لا لن أخضَ يدي.. سأشرب “دلة” إن كنت في فنجانها ستصب لـي
لا أدري ما فعل المضيف ، ولا ما فعلت ” الدلة ” ولكني أعرف أن هذه الأبيات تكاد تكون الابتسامة الوحيدة في “ليل الشجن ” كما يقول شاعرنا محمد الفهد العيسى.
*****************
من كتاب “صوت من الخليج “