عبدالزهرة الركابي : الشاعر العراقي حسب الشيخ جعفر في ديوانه الجديد: تواطؤاً مع الزرقة (ملف/9)

abdulzahra alrikabiإشارة :
في عيد ميلاده الثالث والسبعين ، يسرّ أسرة موقع الناقد العراقي أن تقدّم هذا الملف احتفاء بالمنجز الإبداعي الفذّ للشاعر الكبير “حسب الشيخ جعفر” وإجلالاً لمسيرته الإبداعية الرائعة . وتدعو أسرة الموقع جميع الكتّاب والقرّاء إلى المساهمة في هذا الملف بما لديهم من دراسات ومقالات وصور ووثائق تتعلق بمسيرة مبدعنا الكبير . وسيكون الملف مفتوحاً من الناحية الزمنية انطلاقاُ من حقيقة أن لا زمان يحدّ الإبداع . تحية لشاعرنا الكبير حسب الشيخ جعفر .

المقالة : 

الشاعر حسب الشيخ جعفر، في مجموعته (تواطؤاً مع الزرقة) والتي ضمت 123 نصاً، وكما هو معهود منه، جعل من طابع هذه النصوص أو القصائد صوفياً ومترعاً بالحنين الى الماضي، ربما جاءت إهداءاته للنصوص، تعزيزاً وتقديراً لأدباء وأشخاص ومثقفين، لهم من الذكريات معه، أو أن مثل هذا الإهداء جاء من باب الإعجاب أو حتى من باب اللقاء الحُلم، أو أن مواقفهم الشخصية تجاهه استحقت الإهداء.

الشاعر عبر نصوصه هذه، يتخذ من التعفف والفضيلة كجوهر في إعلان صوفيته و(رهبنته)، فهو يبتدع الصور ثم يتحرك في إطارها، يلتقط الصور ويكون حركتها وديناميتها، لا يتخفى وراء صوره، بل يوجهها الى مشتهاه ومبتغاه، فهو ينعزل في صوره هذه، لكن هذه الصور تتحرك في الاتجاهات التي يرنو إليها الشاعر، ويكاد أن يقول، هذه نبضاتي وتداعياتي وانكساراتي!

«غير أني، وقد عدت، بعد الإجازة،

من رحلة ما،

التقيت بها، في فراشي، راقدة

فاستعنت بجارية البيت، اقترحت

أن أنام الى جانب مارية

فإذا استدارت؟

فكن حدياً وتوخ السكون!».

تضوع نصوص المجموعة برائحة الحياة اليومية، وهي بالتالي تدوين ليوميات الشاعر وذكرياته في الماضي عندما كان في موسكو، أو في الماضي القريب أو حتى استعارة الماضي البعيد، والتي ينحو فيها الشاعر منحى صوفياً كما أسلفنا، بيد أنه في انعزاله وابتعاده، قد اتخذ من هذه العزلة للتأمل الروحي، لسبر غور عالمه المتخيل، عالمه الذي ينتشر توجعاً بين محطات ذكرى، تبدأ من مدينة مسقط رأس الشاعر مدينة العمارة، وترحل به الى موسكو حيث يتعانق معها أيديولوجياً لسنوات عدة، قبل أن يعود الى بغداد التي يرحل منها الى عمّان منكسراً ومحبطاً.

الشاعر الكبير حسب الشيخ جعفر والناقد الأستاذ فوزي كريم
الشاعر الكبير حسب الشيخ جعفر والناقد الأستاذ فوزي كريم

لا يجد في عزلته المستمرة سوى شرابه أنيساً، فيجعل منه شريكاً في عزلته وغربته ونصوصه الضاجة بالحزن والفجيعة والاستذكار، وليس هنا الشراب إلا رمز الشاعر في إعلان التمرد والرفض والمعارضة، تمرد صامت ينطقه عبر مفردات هذا النص أو ذاك، لكنه يعلن في أكثر من نص، إنه رمزه الروحي، هذا الرمز الذي يتجسد في مفردات وجمل وإعلانات وإحالات وتوصيفات «إبتع كونياكاً، بينما البيرة الفاترة، رائحة الجعة، أرهقها سكر وسعال، أضعاث خمور، كان خمارة يتهاجى بها الشعراء، أغرك السُكرُ مني، ستذوق خمراً لم يذق منها سواي».

فالشاعر هنا في تجسيد رمزه الآنف، لا يتردد في أن يتموضع في (خمارة) أو يكون في (كأس جعة) أو في (السكر المرهق)، والشاعر هنا لا يطرح نصه ويمضي، بل يتموضع وحيداً، معلناً من خلال نصه ورمزه الذي يضوع رائحة رفضه الصامت.

«والطريق

في اتجاهين:

برج الكنيسة والقبو

(رائحة الجعة، السمك المتجلد

والجُدُر المغضبه)

فإلى أين ؟«.

دائماً وفي أكثر من نص من نصوص الشاعر، نرى تساؤله: (الى أين؟)، ومثل هذا السؤال أو التساؤل، يعرض لنا صورة عن حيرة وضياع وقلق الشاعر، فالمحطات والمفترقات كثيرة في طريقه، وكلما أراد الخروج والانطلاق من صومعة العزلة والانكفاء، حتى دهمته مصدات مانعة، فيعود القهقرى، فتبدو نصوصه في المجموعة مترددة وخائفة، تتمرد في الصمت، بيد أن هذا التمرد يشع تظاهراً في هذه النصوص.

ولذلك، فإن كل مظاهر التمرد والرفض والمعارضة، تتمثل لدى الشاعر في الصور الشعرية التي تعكس حنينه الى الماضي، الماضي المترف آيديولوجياً، ومن هذا فكل نصوص الشاعر تقف وراءها أغراض سياسية مؤطرة بالتداعيات الذاتية والحياة اليومية، والتوصيفات الاستذكارية، وربما تكون التوجعات الذاتية، هي مرآة للاحباطات السياسية والآيديولوجية بالنسبة للشاعر.

«قصر هرم

يتحوطه الدرب الأغبر

لم يقطنه إلا الصمت الأصفر

منذ انتحرت في القبو

السيدة المخبولة وارتحل الخدم…».

يمنح الشاعر ذكرياته في موسكو حيزاً واسعاً في نصوصه، وهذه الذكريات بقدر ما هي أثيرة على الشاعر، بقدر ما هي تعيد الشاعر الى أوجه الأيديولوجي عندما كان طالباً، فالنصوص وسيلة معبرة عن الذكريات والطموحات السياسية، وهي أيضاً معبرة عن تداعيات وإحباطات الشاعر في الوقت نفسه، وهي بالتالي رجع بعيد، مثلما هي تمثل انكساراته وتوجعاته في الحاضر، هذا الحاضر الذي ظل يقيده بالترحال والضياع، وعلى العكس من رحلته الى موسكو، كانت رحلة الاغتراف الأيديولوجي والقرب من المنهل والأستيقاظ في واقع (الحلم)، الحلم الذي كان ينتشي به عندما كان في صباه في ريف محافظة العمارة، هذا الحلم الذي ربما تبدد لديه، عندما يرحل الى عمان، ثم يعود الى بغداد، حاملاً أثقال إحباطه المتجدد وسيل من الذكريات.

«وتلمست منها يداي

كتفاً، ذراعاً،

وهي تضحك…

لم يزل منها على جلدي احمرار فم

وزرقة عضة متجدده!».

kh hasab 15في هذا النص، يكشف الشاعر انتقال رمزه الروحي الآنف إلى رمز جسدي (زرقة عضة متجدّدة)، وبهذا الانتقال يكون الشاعر، قد بلغ من الإحباط مبلغاً كبيراً، وليس من المستبعد أن يكون وراء هذا الانتقال، هو الإعلان عن هزيمته، الهزيمة الروحية أولاً، والهزيمة الجسدية آخراً، وهو في الوقت نفسه يعلن عن تحوّل في رموزه، مثلما يعلن عن اضطراب رؤيته، هذا الاضطراب الذي جعله في تيه الترحال والانتقال، قبل أن يعود الى انعزاله وتقوقعه من جديد، ربما يكون ترحاله الأخير رحلة بحث جديدة، لكن عودته الى بغداد من جديد أيضاً تمثل عودة مهزوم.

بحسب الشيخ جعفر، لا يستطع الخلاص من عالمه المنعزل، ولا يستطيع أيضاً، من خلال هذه العودة الانقطاع عن التساؤلات.

«فلماذا الخروج، ولا أحد في انتظارك،

لا أحد أو فتاة

قد تضاحك نظرتك الغائمة

بتلافيف (فلسفة) قاتمة

أو تقاسمك الرشفة المرتجاة؟

فلماذا التأفف مبتئساً؟

ولماذا الضياع؟».

تطغى على لغة النصوص،الاستذكارات والإهداءات، وكأن الشاعر أراد أن يجعل من همه تناصّاً مع الذين ذُكرت أسماؤهم في هذه الإهداءات، ويأتي مثل هذا الأمر أيضاً من باب المواساة والتعزية وجبر الخواطر، إلا أن عمق هذه الإهداءات والاستذكارات، جاء في التي كانت موجهة الى الراحلين، كما هو الإهداء في ذكرى الجواهري، فهذا الاستذكار كان مناسبة لمزج هم الشاعر مع هموم الجواهري في حياته، مثلما هي مناسبة لتجديد وإثارة هذه الهموم من خلال هذه الذكرى.

«في أيّما بلد

قيل: (الفراتان ماتا في العراق) فهل أبقت لنا الضفة الزوراء من أحد؟».

هذا التساؤل المهموم، يكشف الصور التي تنوعت بها هذه المجموعة، كما يكشف مرة أخرى عن وجع الشاعر والمتمثل في الخيبة والإحباط، وعلى هذا المسرى والاتجاه، يأتي إيقاع نصوصه في المضمون والانتقالات الصورية في الرمز والمدلول معاً، ليشكل الشاعر في مجموعته هذه، أضافة شعرية أخرى الى تجربته الشعرية، التي توزعت بين القصيدة المدورة والنص اللمحة (القصير)، ليعزز بالتالي ألق الشعر العراقي الحديث في موجته الستينية، والتي أعقبت موجة رواد الشعر العراقي الحديث، وقد كان ولا يزال حسب الشيخ جعفر شاعراً مهموماً في تعزيز بناء القصيدة الستينية الحديثة في التواصل والابتكار.

ربما تكون مجموعة حسب الشيخ جعفر هذه، صورة تعميمية وتخصيصية في آن، أي أنها طرحت الخاص والعام، بصورة المأساة والفجيعة والاستذكار، فكانت نصوصاً قصيرة وذات لمحة معبرة ومجسدة كل الهموم والأوجاع والرثاء.

«جاء الخريف الشيخ حطاباً بلا فأس

كما يخلو الهنود الحمر،

في الشفق البطيء،

إلى رماد حرائق أخرى».

حسب الشيخ جعفر، يحاول استنهاض الشعر الستيني الى ربيع الألق والسمو والتعفف، بيد أنه يعترف بمجيء الخريف، هذا الخريف المتوزع في مدلولاته ورموزه إحباطاً وانكساراً وحنيناً! الى الحد الذي يجعلنا نحن أيضاً نتساءل: عن أي خريف يتحدث الشاعر، عن خريف الشعر لديه، أو عن خريف الشاعر نفسه، أو عن خريف الوطن؟!

يُذكر أن الشاعر حسب الشيخ جعفر من الجيل الشعري الستيني في العراق، وقد حصل على شهادة الماجستير من معهد غوركي للأدب بموسكو، ولدى رجوعه الى العراق عمل في الاذاعة والتلفزيون، ثم نزح في التسعينات الى الاردن بسبب تردي الاوضاع في العراق، ومن مجموعاته الشعرية (نخلة الله) و(زيارة السيدة السومرية) و(عبر الحائط في المرآة) و(مثل حنو الزوبعة) و(أعمدة سمرقند) و(رماد الدرويش) و(الريح تمحو والرمال تتذكر) و (ربما هي رقصة لا غير)، كما ترجم من الروسية قصائد بوشكين وبلوك وماياكوفسكي وأخماتوفا وحمزاتوف وغيرهم.

تعليقات الفيسبوك

شاهد أيضاً

د. قصي الشيخ عسكر: نصوص (ملف/20)

بهارات (مهداة إلى صديقي الفنان ز.ش.) اغتنمناها فرصة ثمينة لا تعوّض حين غادر زميلنا الهندي …

لا كنز لهذا الولد سوى ضرورة الهوية
(سيدي قنصل بابل) رواية نبيل نوري
مقداد مسعود (ملف/6 الحلقة الأخيرة)

يتنوع عنف الدولة وأشده شراسة ً هو الدستور في بعض فقراته ِ،وحين تواصل الدولة تحصنها …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *