بعد أن لمح فيلب السكّينَ الملقاةَ بين الشجيرات الصغيرة حدث التغيير في حياته . انتقل ذهنه من الخيال الجامح الى الممكن المرعب .توقف ، حين ذاك ، واستدار برأسه ليخطف نظرة عجلى , بعدها ، تراجع الى الخلف قليلاً حملق فيها ، ظلَّ هكذا إذ كان عليه أن يتيقن من أنه ليس بوهمٍ .أجل، كانت حقيقية ،ولبرهةٍ بدت شكلا وحيدا قادراً على اختراق طوق رعبه الكئيب المسيطر. وقبل ذلك ، كان ادراكه المرعب وطيف الألم البدني ، شديد القسوة ، يهيمنان على افكاره ، يمثلان سلطةً قسريةً لا مفر منها . بدا الأمر كما لو أن سيلاً من الأفكار يراوده ، يتكرر ، بدايته كلمات ستافرد الأخيرة التي تفوه بها يوم امس 0 ” وبالتالي سأراك في المكتبة بعد إداء صلاة ليلة الغد . حينئذٍ لا تجد مَن تقدّم له الشكر سوى لنفسك . كلما تبدت قضبان قفصٍ يطوقه . اعتبره اذهنُه شفرةً تشير الى طرد ستافرد له كما تشير أيضاً الى سجنه الخاص به . أخلد الى السكون ، فتوقف سير تفكيره ، لكنه سكون لم يدم طويلاً ، عاد بعده الى ما كان عليه من التفكير، فمنذ تعيين ستافرد بموقع ” التلميذ المفوض الرئيس للدار”غدا فيلب ضحيته المفضلة ، ليس كما يرى بعينه بل كذلك كما يرى جميع الناس . كان جونز يقول :
” لا يحبك ستافرد أبداً ، أليس هذا صحيحاً؟ ”
ويضيف براون
” أتقدر أن تًعلِن استياءك منه ؟ ”
ويروح الأثنان في غمرة الضحك .
تتراكم اساءات ستافرد طوال الفصل ، تتجلى سلسلةً من العقوبات الصغيرة ، تتوجها عقوبة الضرب في دار الكتب . كان الألم شديداً — أشدّ مما كان يتحمله من قبل ، بدا الآن واضحاً بانه سيتكرر . استلقى على فراشه ليلة البارحة لكن شقًّ عليه النومُ . لم يقدر على تناول فطوره ، لم يقدر على تناول غدائه ، لكنه لم يقدر أيضا أن يخبر أحداً بذلك ماعدا جونز وبراون .
ها هو الآن ، اخيراً ، يسير وئيداً منفرداً في وسط الغابة الرطبة خلال احدى امسيات العطلة، ها هي السكّينُ تتفجر الآن في افكاره التي تهاوت ثم توقفت ، تمثلت في ذهنه بتلك التي يشاهدها الناس في التلفاز ، بتلك التي يتخلى كثير من الناس عنها الى الشرطة . انحنى ، التقطها ، كانت بطول قدم ، نهايتها حادة جداً ، وهي في غمدٍ رائعٍ . إنبثق الآن الخيال الجامح . جنحَ مباشرةً الى الشفرةِ . قوةٌ غامضةٌ وضعتها امامه ، قوةٌ تأمره باستعمالها . كان دائما يمتع بالخيال الجامح : خيال الانتقام ، خيال الجنس ، خيال السلطة الطاغية . وهو يعيش عزلةً بعيدة الغور مع تلك الخيالات .
هنا كصوتٌ آمرٌ مطالبٌ .
متى وأين؟
يا الهي ، ينبغي عليَّ استعمالها عند منتصف الليل ، ولا أحد بمقدوره الكشف — فجأةً ، توقف سير تفكيره . وبطريقةٍ متأنية غيّر افكاره . لكن على الرغم من ذلك الجهد ، عاودته افكاره السابقة كشيء لا مناص منه . بطبيعة الحال ، لن يوظفها لتلك المهمة ، أليس كذلك؟
إذن ، ما الذي سيحدث إن قام بالعمل؟
فقد قدرة التصور لفترةٍ وجيزةٍ . مع ذلك ظل أمرٌ واحدٌ واضحاً : سيكون هناك صخبٌ هائلٌ ، هو اشدّ ما يكون على الإطلاق . ماذا سيحدث لو أن لا احد يقدر أن يدل عليه؟
سوف لا يتعرض للضرب ثانيةً ، أليس كذلك؟
سيكتم الصخبُ المريعُ ذلك الضربَ . سيتغير نمطُ حياته . . سيتغير كلّ شيء .
لا أحد يعرف أن لديه سكّيناً ، ولا يمكن لأحدٍ الادعاء بذلك بعد أن يكون قد ضاع مسار العمل الذي ينوي عليه . بعد صلاة ذلك المساء كان قد امعن النظر فيما هو مقدم عليه .
استحوذت افكاره عليه بشدةٍ . لذا ، عندما اراد أن يخلد للنوم ، صعد السلم ، تعثر بشخص دون ان ينتبه .
” آه ،عليك اللعنة يا جيفوس ، لماذا تعجز عن رؤية طريقك؟ ”
” آسف . . .آسف . . . ”
هناك غرفة مخصصة لكل طالب . لديه الآن غرفته . . في تلك الليلة وبعد انطفاء النور استلقى على السرير صامتاً ، يغلفه الظلام ، يحثُّ نفسه على البقاء مستيقظا ، لكنه استغرق في النوم .
كانت ساعته تشير الى الثانية صباحاً عندما استيقظ للمرة الثانية , هي آخر فرصةٍ لقول لا ، نعم . . لكن نعم . مازال محتفظا بقراره وعازماً على تنفيذه .
لا خسارة تترتب عن ذلك العمل .
أيحصل على السكّينِ؟ أيحصل على المصباح اليدوي؟ أيحصل على منشفة حمام في المنزع؟ فتح باب غرفته ، سار بضع خطوات في الممر ، توقف ، أصغى الى ماحوله . لم يكن هناك أيُّ صوتٍ .
( احذر ، لا بصمات ) .
يقف ، الآن ، جوار سرير ستافرد وهو نائم على ظهره ، يصغي الى ايقاع تنفسه الهادئ المنتظم . أدار مصباحه ، أضاء مساحة حنجرته ، وبحركة خاطفةٍ غرز السكين ذات الشفرة الحادة ، بالكاد أحس بها وهي تنغرز . . . اخرج المقبض، وضع المنشفةَ والسكينَ على مساحة الحنجرة ، عاد مسرعاً الى غرفته ، اعاد المصباح الى مكانه ثم آوى الى فراشه .
تذكَّر كلَّ هذا على نحوٍ جليٍّ . . , والعاقبة ؟ حسن ، صخبٌ مروّعٌ ، صدمةُ تجتاح المدرسة ضجةٌ تعصف بالبلاد ، الصحفُ ، مدير المدرسة ، الشرطة ، البصمات . ما الهدف؟ لقد أنجز تواً هدفه . من الواضح أن لا أحد أخبر الشرطة بانه الولد الذي يقف في الجانب الاخر من ستافرد ، وحتى لم يكترث ابواه عندما اخبره بأنه سيترك الصف .
أنا عرابّه ، أنا ودود معه ، أحافظ دائماً على اهتماماته ، ولعدة أعوامٍ احتفظنا بصداقة متينة . في ليلةٍ من الأسبوع السابق زارني ، تناول الغداء معي ، أخبرني بكل ما يتعلق بأمره. قال انه غالباً ما كان يستسلم لليأس ويفكر في تسليم نفسه للشرطة . أخبرته أن يبعد عنه مخاوفه . أكدت له أن سره سيكون ، تماماً ، في مأمن . حسن ، أتحافظ على السرَّ؟
*روائي انكليزي . ولدعام 1920