في رواية ( تراجيديا مدينة ) للروائي زيد الشهيد يشترك راويان معاً في سرد أحداث يومية من حياة مدينة السماوة الفراتية ، أو أحداثاً من تاريخها القريب ، ولكل راوٍ آلية سرده الخاصة ، الراوي الأول يتناول الأحداث نصياً ، وهو في الغالب يمثل صوت أو ضمير الكاتب المحتجب ، وهذا ما تستر عليه الراوي النصي من بداية الرواية وحتى إلى قرب منتصفها ، حيث ظل طوال تلك المسافة السردية يُخفى شخصيته وراء ضمير جماعة المتكلمين ( كنا مجموعة أصدقاء . ص / 36 ) أو ( ( نهاراً نروح نتسكع في شارع الرشيد . ص / 36 ) أو ( تكررت زيارتنا لكربلاء . ص / 39 ) بعد ذلك حانت اللحظة الحاسمة مقترنة بحدث حاسم هو مقتل والد الطالب الجامعي المثقف يوسف ليكشف الراوي النصي هويته باستخدامه ضمير المتكلم المفرد ( غبّ وقت قصير ، وحالما رفع حبيب كبنك دكانه وتوجه لسماعة الهاتف يرفعها ويتصل بعامل البدالة يطلب منه ربطه ببيتنا . ص / 104 ) ومع ذلك ظل الراوي النصي يراوح ما بين الصيغتين . أما الراوي الثاني ، وهو الراوي الصوري ناصر الجبلاوي الذي يتناول الأحداث صورياً من خلال عدسة كاميرته . وقد شهدت مهمته تطوراً من الفوتوغراف إلى السينما ، إلا أن السرد الصوري ظل مرتبطاً بالفوتوغراف بينما السينما لم تتطور لتصبح أداة توثيق تاريخية ، وظل دور ناصر فيها لا يتعدى إجادته تشغيل جهاز العرض في دار السينما الوحيدة في المدينة .
وبينما كان الراوي الأول / الراوي النصي يتحرك على وفق توجيهات الكاتب باعتباره ضميره الثاني ، ظل الراوي الثاني / الراوي الصوري يتحرك بهدي من توجيهات وإيعازات مخرج ذي شخصية مجردة ، وطبيعة افتراضية تمت أنسنته في كيان غائب / حاضر في وقت واحد ، غائب لأنه لا يُرى ، وليس له كيان ملموس وقابل للتوصيف ، وحاضر لآن له صوتاً مجسداً في نص مقروء ، وموجه إلى شخص محدد بعينه هو المصور ناصر الجبلاوي ، وهذا المخرج هو التاريخ الذي ليس بمقدور المصور الإفلات من إيعازاته وتوجيهاته ما دام كلاهما ( المخرج والمصور ) عاشق لمهمته التوثيقية و التنويرية .
ألراوي النصّي :
ولأن الصورة الفوتوغرافية ( التقليدية ) تحاور العيون بلغة الألوان / الأبيض والأسود وتدرجات الأسود ، معبراً عنها بأبجدية الضوء والظل ، وتدرجات الظل ، وببلاغة اللقطة / اللحظة المجمّدة ، فإن نقل النص الصوري إلى نص كتابي بحاجة إلى مترجم ينقل النص الأول من نظام الصورة إلى نظام الكتابة ، وهذه المهمة سيضطلع بها الراوي النصي لتكون بذلك مهمته مزدوجة :
– نقل الحدث مباشرة من موقع إنتاجه
– نقل الحدث – نقلاً غير مباشر – من نظام الصورة إلى نظام الكتابة
ولذلك فإن كل النصوص الصورية التي التقطها ناصر الجبلاوي ستخضع لإعادة إنتاج نصية من قبل الراوي النصي . ولذلك أيضاً فإن خطاب الراوي النصي هو المهيمن وهو الذي يغطي سرد الأحداث وتقديم الشخصيات ووصف المشاهد .
يتقلب الراوي النصي في عدة صور ومظاهر ، فهو راو مفارق حيناً ، وهو مشارك في أحيان أخرى ، وهو راو براني يكتفي من تغطية الأحداث بوصف مظاهرها الخارجية ، وفي أحيان أخرى هو راو جواني يتسلل إلى باطن الشخصيات ويستخرج كوامنها وخفاياها الدفينة . وهذا الراوي – كما بينا سابقاً – يتخفى في بعض الأحيان وراء الجماعة ويستعير أدواتها الخطابية وصياغاتها النحوية ، ولكنه في أحيان أخرى يعود راوياً فرداً يتحدث عن نفسه وعن ما يدور حوله بضمير المتكلم .
ألراوي الصوري :
وتمهيداً لمهمة الراوي الصوري ناصر الجبلاوي في سرد أحداث المدينة من خلال الصورة الفوتوغرافية ، وتسويغاً أيضاً لتكليفه بهذه المهمة ، فالراوي النصي يفتتح الفصل الأول من الرواية بالتعريف بالمصور ، ومدى حبه لمهنته ، والمهمات التاريخية التي قدمها للمدينة الفراتية صورياً ، والمهارات التي اكتسبها بجهده الخاص ، أو بدعم من مصور محترف في بغداد ، وصولاً إلى نضوج الموهبة وانتقالها من هواية إلى حرفة .
ومع الفصل الثاني بدا الإنحسار في دور الصورة الفوتوغرافية ومع انحسارها بدأ الإنحسار في دور الراوي الصوري ، وقد اقترن هذان الإنحساران مع دخول السينما إلى المدينة وهيمنتها على الفضاء الصوري . وبالرغم من أن فضاء الصورة السينمائية يبدو ضمن اهتمامات ناصر الجبلاوي أو في أقل تقدير على تماس معه ، إلا أنها لم تتسبب في تغليب دوره على الراوي النصي ، بل على العكس فقد تراجع دور ناصر مع تبدل شكل ومهمة الصورة من فوتوغرافية لها دور وقوة الوثيقة التاريخية إلى سينمائية ترفيهية ليست لها أية علاقة بتاريخ المدينة ، فتاريخيتها تقتصر على دخولها الأول كواجهة فنية استعراضية إلى المدينة لأن السينما في هذا الفصل تعني السينما العالمية التي اقتحمت أفلامها حياة المدينة الساكنة وتركت أثرها على سلوك وتصرفات شبان المدينة وفتيانها . ومع انحسار دور الراوي الصوري صار الراوي النصي يعوّض عنه مؤدياً دور الصورة المتحركة وهو يصوغ أحداث الواقع أو خيالات الأحلام التي كثيراً ما راودت عقول شبان المدينة التي نشطها ولعهم إلى حد الهوس بأبطال السينما وأدوارهم فصاروا يحلمون بتحقيقها على أرض مدينتهم المبتلاة بالخمول والتقاليد .
والفرق ما بين ناصر ، أو ما بين صور ناصر في الفصلين الأول والثاني ، أن الصورة في الفصل الأول لم تكن مجرد وثيقة تاريخية للذكرى ، بل كانت صوتاً في صيغة صورة يثير المشاعر ويحرك سكون الواقع الخامل والخانع ، ولكن دوره في الفصل الثاني لا يعدو أن يكون مصوراً وموثقاً فحسب دون أن تقترن تينك المهمتين بأهداف ثورية ، وقد تجلت دوافعه في الإستعراض الصوري المجرد من أية أهداف ثورية باقتصار هدفه من تصوير إحدى التظاهرات على ( إلتقاط أكثر من صورة للشاب المتحدي . ص / 184 ) وهذا الشاب هو لفتة جواد متجاوزاً دوره القديم بتغطية الفعاليات الجماهيرية صورياً من أجل إبرازها كقضايا حقوقية ومطلبية . وقد تنبهت الفتاة المثقفة الثائرة بنت المؤمن إلى تراجع ناصر عن دوره التاريخي وغياب الصوت الثوري عن صوره فنصحته أن تلتقط صوره ( صرخة أم رمي ولدها في أتون بطالة قاهرة فصار قلبها يعتصر كل يوم لرؤيته طاقة معطلة وساعداً مكسوراً . ص / 173 ) وما اعتذار ناصر لبنت المؤمن إلا إقرار بتراجع دوره وانحساره ( إبتسم لها إبتسامة من تأثر بكلامها وأعلن الإعتذار . ص / 173 ) . هذه الصورة النمطية للمصور الفوتوغرافي التي صار يجسدها ناصر الجبلاوي في الفصل الثاني تكررت في الفصل الثالث ، وهذا ما صار يقتنع به ناصر لنفسه ويكتفي منه لموهبته ، وهذا أيضاً ما صار يريده أصدقاؤه منه ( تجوال على الجسر الحديدي الجديد والتقاط صور للذكرى . ص / 253 ) . ولعل السبب في هذا التراجع غير مرتبط بالمصور بقدر ما هو مرتبط بالبيئة المعدة للتصوير والتي فقدت حماسها السياسي واندفاعها الثوري جراء الإخفاقات المتكررة في تحقيق الأهداف وجراء التقلبات الدراماتيكية التي أنهكت المدينة حتى صار ناصر الجبلاوي لا يجد من ثوريي الأمس من يصورهم فصار يصور ( غير المنتمين ) وهم الذين خرجوا من تحت غبار المعارك السياسية سالمين ( ص / 218 ) . كما أنه لم يعد يبحث بدأب عن اللقطة ويشد إليها الرحال ، بل أن الباحثين عن اللقطة الفريدة هم الذين يقصدونه ليلتقطها لهم إلا ما ندر ، ومن بين تلك المرات النادرة التي حمل فيها كاميرته بحثاً عن صورة نادرة دخوله مركز شرطة الخناق ليلتقط صورة لمفوضها الجديد رشاش جاسب ( ص / 228 ) . كما أنه صار يستأذن اصحاب الشأن قبل التقاط الصورة كاستئذانه الشرطي لالتقاط صورة للموقوفين في سجن الخناق ( ص / 230 ) وكان قبل ذلك يستل اللقطة استلالاً من بين براثن اصحاب الشأن كما يستلها من بين براثن الصدفة .
ما بين التاريخي والتخييلي :
وتاريخ السماوة في الرواية ليس هو تاريخ أحداثها الكبرى المرتبطة بشخصياتها العامة فحسب ، بل هو تاريخ أبنائها المتفوقين والمغمورين ، وتاريخ الصور في أستوديو ناصر ، وتاريخ المجرمين والمرتشين والعشاق ورواد السينما والباعة والثوريين من كل الاتجاهات ، وكل أولئك صاروا من حيث لا يدرون أبطال الرواية . إنه تاريخ أحداث زيارة الملك فيصل الثاني للمدينة ، وبناء الجسر الحديدي وانقلاب 8 شباط من عام 1963 واستقبال عربات قطار الموت وإدارة المدينة من قبل القائمقامَين عبد العزيز القصاب وعلي حيدر وحث الدكتورة نزيهة الدليمي بنات المدينة على التعلم والاستنارة ، وزيارة الفنانَين الشعبيين ناصر حكيم وسعدي الحلي . مثلما هو تاريخ كاظم قصير ، ومحمد علي ، وعدنان ، وعبد الباقي ، وحبيب ، وشاهناز وأمها ، ويوسف ، وشميران ، وشراد هديب ، وسلطان شاهر ، وقاسم زين الدين المحامي ، وشتيوي الياور ، وعبد الله العساف ، وحميد النجار ، وبنت المؤمن وسواهم الكثير .
إن ( تراجيديا مدينة ) ليست رواية بالمعنى التقليدي ، فهي لا تتابع حدثاً أو أحداثاً بعينها وصولاً إلى نهاية ما ، وهي لا تمنح البطولة لشخص أو أشخاص معينين ، بل هي تمنحهم أدواراً دون أن يكون هناك تمايز ما بين دور وآخر ، مهما طالت أو قصرت المهمة السردية المرتبطة بكل دور لا سيما أنه حتى الشخصيات التي قد يبدو أن دورها هامشي ، وأنها قد ظهرت ، ثم اختفت إلى الأبد سرعان ما تفاجئنا بعودتها لتكمل دورها ، أو لتؤدي دوراً آخر غير متوقع ( وسنأتي على تفصيل ذلك فيما بعد ) . كل تلك السمات تجعل هذا العمل السردي يتوافق مع راي بعض النقاد من أن الرواية الحديثة جنس أدبي لا قواعد له ، وأنه ما زال مفتوحاً على كل الممكنات . ومع ذلك يمكن القول أن ( تراجيديا مدينة ) هي مزيج إجناسي من المذكرات أو اليوميات ، ومن الرواية التاريخية والسير ذاتية والتسجيلية . وإذا ما صح اعتبار الإهداء الشخصي الذي يوقّع به الكاتب نسخاً من كتبه إلى زملائه وأصدقائه ، إذا صح اعتباره نصاً حافاً أو نصاً موازياً ، فاني سأسمح لنفسي أن أجنس ( تراجيديا مدينة ) باعتبارها بوحاً ، مستعيناً بنص الإهداء الشخصي الذي ذيّل به الكاتب نسخة من كتابه لي واصفاً فيه روايته بأنها بوحٌ ، بالرغم من أن هذا النوع من النصوص الحافة أو الموازية تبدو إلتفافية ، بمعنى إنها غير مستقرة دائماً ، فما يكشفه عبرها الكاتب لصديق قد يتملص عنه ، وقد يهدي بسواه لصديق آخر ، كما أنه ليس هناك من يؤكد صحة مرجعيتها باستثناء كاتبها ومن تقع النسخ الموقعة بين أيديهم .
حصة إبن خلدون السردية :
وبحثاً عن مدخل تاريخي إلى مشاكل المدينة الإجتماعية المتراكمة منذ عهود بعيدة ، والتي نمّتها وغذتها حالات الإقصاء والإهمال ، يتحايل الراوي على منطق الزمن ، فيستعيد منه إبن خلدون ، ويجعل له حصة في تاريخ المدينة الحديث ، فكبير موظفي الدولة العثمانية في المدينة / القضاء ، قائمقامها عبد العزيز القصاب يتكيء على مقدمته في تفسير مشاكل المدينة الاجتماعية المستعصية والبحث عن حلول لها ، والحلول لا تأتي من النص التاريخي فحسب ، بل تتعداه إلى لقاء فنطازي في مكتب القائمقامية ما بين إبن خلدون والقصاب ، وعلى هامش اللقاء تتسع دائرة التخييل لتفترض مواقف مبتكرة يُحسن الراوي في استجلابها من ذاكرة خصبة ومجنونة . والغريب في هذا اللقاء أن إبن خلدون لا يتصرف كضيف – كما يفترض المقام السردي – على الذي استدعاه محتاجاً إلى مشورته ، بل إنه يتصرف كما لو كان هو رب الدار فيستقبل القائمقام في مبنى قائمقاميته ليكون فيها هذا الأخير هو الضيف ، وفي ذلك دلالة لا تُخفى في كون دروس التاريخ ما زالت فاعلة ومؤثرة في تشخيص أزمات الحاضر ، وما زال مدرسوها والباحثون فيها – بالرغم من توالي الأزمان – محط احترام وتقدير . وبعد اجتياز النص مرحلة التخييل التي تضم بدايات اللقاء ما بين الضيف / المضيف ، والمضيف / الضيف وما تتطلبه تلك البدايات من موجبات اللياقة والمجاملة ، يُستكمل باقي اللقاء مقتبساً من مقدمة إبن خلدون ، وهذا الإقتباس لا زيادة فيه ولا نقصان عن المرجع التاريخي المعروف . وللراوي حضور في هذا اللقاء يعبر عنه بخروجه عن المرجع ليثبت رأيه متمماً ومعقباً على رأي إبن خلدون ، حتى ليبدو النصّان ( نص المرجع ونص الراوي ) متداخلين وملتحمين من حيث النتيجة التي سيخلصان إليها والتي وقف عند حدها إبن خلدون مكتفياً بالتلميح ، ثم جاء الراوي ليتمها معبراً عنها بوضوح .
بعد حالة الذوبان الروحي ما بين القائمقام / الشخص ، وإبن خلدون / ألنص / المقدمة ، يعود الراوي إلى نصه بإنهاء حالة الإندماج والذوبان ، وذلك بإيقاظ القائمقام من غيبوبته بعد أن تبينت له أبعاد المعضلة التي يعيشها في إدارة المدينة . والاسترشاد بتنبؤات إبن خلدون ونصائحه وتحليلاته لا يقتصر على قائمقام المدينة العثماني ، بل إن الراوي يتخذها دليلاً لفهم سلوكيات النظم السياسية المتعاقبة تجاه المدينة وأهلها ليخلص إلى أن الفجوة بين الطرفين ( واسعة ، بمثابة هوة كبيرة بين حكومة بنظام مريض ، ومواطن بلسان مقطوع . ص / 48 ) .
ومثلما كانت مقدمة إبن خلدون دليلاً استرشادياً للقائمقام يرسم له ملامح طريقي الخطأ والصواب ، كانت المقدمة كذلك ليوسف إذ فتحت له – إضافة إلى بوابة الحب – بوابة الوعي وحب المعرفة ، كما كان ظهورها كنص مع الظهور التخييلي لصاحبها إبن خلدون اوسع في المرة الثانية مع يوسف جراء العلاقات التخييلية المتداخلة ما بين المقدمة / النص من جهة ، وما بين صاحب المقدمة إبن خلدون وشميران ويوسف من جهة أخرى .
هذا الإستدعاء الفنطازي لشخصية تاريخية خارج فضائها السياقي ولمرتين ثنتين ، وإدخالها طرفاً مشاركاً في الأحداث تمّ على ما يبدو من أجل تحقيق ثلاثة أهداف :
في الإستدعاء الأول : كان الهدف هو البحث في الماضي عن حلول للحاضر .
في الإستدعاء الثاني : كان الهدف هدفين أثنين :
– الأول : هو تحقيق التواصل المعرفي ما بين يوسف وعلم الإجتماع الذي لم يكن قد اكتشفه يوسف بعد .
– ألثاني : هو تحقيق التواصل العاطفي ما بين يوسف وشميران .
ويبدو أن فنطازيا الإستدعاء لم تكن في المرتين قد حققت أهدافها ، ففي المرة الأولى كانت ( المقدمة ) قد نجحت في عرض وتوصيف المشكلة للمستدعي / القائمقام إلا أن المشاكل المتراكمة عبر الزمن جعلت الحلول معقدة ، بل مستحيلة ، لذلك آثر المستدعي الإستقالة . وفي المرة الثانية لم تفلح ( المقدمة ) ولا صاحبها في إيصال يوسف إلى أهدافه العلمية ، لأن النظام السياسي القامع كان قد سبقه إلى أحلامه وأجهضها . وقد انعكس الفشل في هذا الجانب على الجانب العاطفي ، ليُنهي علاقة يوسف بشميران قبل أن تبدأ .
ألأحداث دوال الزمن :
في القسم ( 7 ) من الفصل الأول ، وهو القسم المخصص لإنشاء الجسر الحديدي بين ضفتي الفرات يتقاسم الراوي النصي مع الراوي الصوري السرد كل على طريقته الخاصة ، الأول نصياً والثاني صورياً ، ويبدو التقاسم مخططاً ومدروساً بين الراويين وليس اعتباطياً ، فالأول يمهد لمحكية الجسر بسرد تاريخي للظروف التي دفعت لأقامة الجسر ولمراحل بنائه وللمهارات والتقنيات التي استخدمت في البناء ، ويمتزج التاريخي بالتخييلي إمتزاجاً يصعب فرز أحدهما عن الأخر ، ثم من نقطة ما من المحكية يمهد الراوي النصي الطريق لدخول ناصر الجبلاوي بكاميرته إلى المشهد المفتوح ليقدم قراءته الصورية ، ولكن النص الصوري الذي يقدمه ناصر هو إعادة قراءة موسعة لنص الراوي ، فعين الكاميرا تتبع خطوات الراوي النصي ، وتضيف إلى روايته ما كان قد خفي عنها ، ففي حين كان الراوي النصي قد أشار إلى جنسيات الفنيين والمهندسين العاملين في الجسر والأدوات المستخدمة في إنشائه ، جاء الراوي الصوري ليفصّل ويوسّع من إطار الصورة ، مصوراً بدلات العمل وألوانها وأشكالها ، والسقائف وأنواع السيارات والحاويات والرافعات والأعمدة والإضاءة والغواصين وصب الدعامات الاسمنتية . وتنحرف عدسة الراوي الصوري عن قلب المشهد لتصور – وهذا ما فات الراوي النصي – القائمقام وهو يتابع سير العمليات والناس الذين جاء بهم الفضول لمشاهدة عمليات البناء الغريبة على مدينة لم تشهد من قبل عمليات بذات التقنيات . وتنتهي مروية الجسر بعودة الراوي النصي لإكمال ما توقفت عنده عدسة الراوي الصوري ، فإذا نحن في عام 1958 ، وهو عام افتتاح الجسر ، ويتنبه الراوي النصي بأن الجسر لم يكن مجرد واسطة انتقال ما بين ضفتي النهر ، بل هو واسطة انتقال ما بين زمنين ( ص / 51 ) . وفي ( تراجيديا مدينة ) تُستثمر تقنية تهشيم السلسلة الزمنية المستقيمة بالعودة إلى ما وراء الأحداث وليس بالعودة إلى ما وراء السنوات باعتبار أن الأحداث الكبرى في مدينة صغيرة ومهمّشة هي العلامات الزمنية الفارقة ، ولعل حادثة بناء الجسر الحديدي وافتتاحه هي أبرز امثلة هذه التقنية الزمنية الإستعارية ، وهذه الحادثة ستكون محطة زمنية فارقة ما بين زمنين تشكل هي فيهما الزمن الثاني ، بينما الزمن الأول هو زمن الجسر الخشبي القديم ، وأية إشارة لاحقة إلى الجسر الخشبي ستعني أن أحد الراويين عادَ ، أن أن كليهما قد عادا بالسرد إلى ما قبل عام 1958 وهو عام افتتاح الجسر الحديدي . وعلى هذه المسطرة يمكن قراءة مروية يوسف زمنياً ( ص / 54 ) والذي كثيراً ما رآه ناصر الجبلاوي ( يمشي متماهلاً ، متهادياً ، قادماً من صوب القشلة وعابراً الجسر الخشبي . ص / 54 ) أو ( استدار ، واصل سيره نحو الجسر الخشبي . ص / 94 ) . وعدا اتخاذ الجسر الحديدي كمحدد زمني ، فكثيراً ما تتحدد محطات التاريخ بالإشارة إلى أحداث فارقة أو علامات مميزة بدلاً من الإشارة إلى السنوات والأشهر ، مثل الإشارة إلى الصحف التي كان يستعيرها يوسف من المكتبة المركزية ( الأهالي / إتحاد الشعب / صوت الأحرار ) والإشارة إلى عناوين بعض الأفلام السينمائية العالمية ( أم الهند / ذهب مع الريح / بور سعيد المدينة الباسلة / سلاسل أفلام رعاة البقر وطرزان وهرقل الجبار ) وكذلك الإشارة إلى بعض مؤلفات ستيفان زيفايج وعلي الوردي ، وكل تلك الأسماء صارت علامات زمنية غير مباشرة للفترة الزمنية التي تغطيها مروية يوسف وسواه من شخصيات الرواية .
طقوس واستعدادات السرد الصوري :
وللسرد الصوري الذي يمارسه ناصر الجبلاوي تقنيات ومهارات واستعدادات وطقوس ، فناصر يتعامل مع كاميرته ، ومع المادة المصورة معاً بحرفية وفرتها له مرحلة التعلم والمران العملي والممارسة العملية والميدانية ، وبذائقة شفافة وحساسية مرهفة تولدان عادة مع الموهوبين ، وتنموان وتتطوران فيما بعد بالدربة والمران ، ولا تُكتسبان بالدرس لمن يفتقدهما أصلاً . فكل صورة له مرتبطة بسياقها ، ومنه تكتسب طقوس التقاطها الخاصة وأبعادها ، بل وحتى رموزها الخفية . فالصور الفوتوغرافية التي التقطها للسجناء السياسيين الذين نقلهم الإنقلابيون عام 1963 بقطار الموت من بغداد إلى السماوة أشبه بشريط سينمائي ناطق وضع وفق سيناريو صارم فلم تفت كاتبه ومخرجه كل حركة وكل لقطة ( عدسة ناصر الجبلاوي تتوجه حالما يدخل من باب المحطة ، ويجتاز فناءها ، ثم يخرج إلى الرصيف ، فتصور عربات حديدية مشرعة الأبواب . ص 20 ) ثم تتوجه العدسة لتصوير السجناء العسكريين برتبهم التي تتراوح ما بين المقدم والجندي ، والسجناء المدنيين ببدلاتهم الأنيقة التي لوثتها زيوت وأتربة عربة القطار ، ويختار ناصر الجبلاوي مشاهد معينة تجسد التضامن الإنساني لأهل المدينة مع الركاب / السجناء فيمنحها عناية استثنائية عبر عنها باللقطة من موضع الزوم ( عدسة الكاميرا توجهت لأكثر المتحمسين لأطعام وإرواء الجائعين والعطاش من السجناء ، فانصبت بحالة الزوم على وجوه عديدة من شباب المدينة يطعمونهم ، ويسقونهم ، ويُسمعونهم كلمات تثمين وحماسة وإكبار . ص / 20 ) . وبالرغم من أن ناصر ما زال يتذكر ملاحظات أستاذه صاحب الأستوديو الأهلي في بغداد بأن ( اللقطة البارعة ، والصورة المتميزة هي ما تأتي خارج الإستعداد والتهيؤ والتحضير . ص / 161 ) إلا أن استعداداته لتغطية المناسبات صورياً كانت تتناسب مع عظم المناسبة ، فضمن طقوس الاستعداد لاستقبال إحتفالات ذكرى عيد العمال العالمي بدأ ناصر أولاً بتأمين إحتياجات التصوير التقنية ، ومن ثمّ استطلاع المواقع التي ستتحرك فيها التظاهرة من أجل تحديد مواقع تحرك الكاميرا وتحديد الزاوية المناسبة لكل لقطة ( … وضع فلماً بست وثلاثين صورة ، وقبل يوم أستطلع أماكن ستخترقها التظاهرة يحسبها استراتيجية ، أماكن سيعتليها ليلتقط ما يؤرخ للمدينة ص / 99 ) . أما التقاط صورة لشاب مثقف مثل يوسف فهي تحتاج إلى تخطيط واستعداد مسبقان يتناسبان مع شخصية صاحب الصورة ويضمنان كمالها بذاتها ، ومن أجل ذلك فعليه تضمينها رموزاً تقليدية وشائعة يسهل التقاطها وفهمها ، هكذا خطط ناصر واستعدّ لالتقاط صورة استثنائية لشاب إستثنائي يتداخل فيها رمز الكتاب ، ثم موقع الكتاب على مقربة من الصدر ، والصدر في الفكر الشعبي مستودع الحكمة ، مع وجه مرتفع ومستدير دلالة على السمو والرخاء ( اللقطة تكون هكذا : أرفع يده حاملة الكتاب ، وأجعلها على صدره كما لو أنه يحتضنه ، ثم أرفع وجهه المستدير وأدعوه للنظر إلى الحافة السفلى لدعاية الكوكاكولا المتدلية من مظلة مقهى قاسم . ص / 56 ) وستمر على هذا النص ثلاثين صفحة ليكشف لنا الراوي النصي بأن الكتاب الذي كان يحمله يوسف في الصورة الفوتوغرافية هو مقدمة إبن خلدون ، ولعل ظهور صفحة غلاف الكتاب بعنوانها المميز على صورة فوتوغرافية ليوسف معلقة في واجهة زجاجية لاستوديو ناصر الجبلاوي هي رسالة ، ولكن هذه المرة ليس لناصر علم بها ، إنها رسالة سرية تحمل سرها في إعلانها ، وهي غير موجهة لكل من يمرّ بواجهة الاستوديو ويراها ، بل هي موجهة إلى شخصية بعينها ، وهي شميران الفتاة المسيحية المثقفة والطالبة الجامعية التي كانت قد كلفت يوسف بإعادة كتاب المقدمة إلى المكتبة المركزية التي كانت قد استعارته منها ( ص / 82 ) .
والصورة الفوتوغرافية ليست مجرد لوحة صامتة باللونين الأبيض والأسود ، بل هي لوحة ناطقة بصوت مسموع يلتقطه ناصر ويوصله إلى الراوي النصي عندما يستحوذ في حالات معينة على قدرات الراوي العليم . وعن هذه الآلية إنتقل إلى المروي لهم صوت مأساوي من صورة تاريخية كان إلتقطها ناصر حين ذهب لمحطة القطار لالتقاط صور لركاب قطار الموت بعد تحول الصوت / الصورة إلى ملفوظ نصي – وقد سبقت الإشارة إلى تلك الحادثة – حيث اختار من بين كل الحالات المأساوية حالة سجين مصاب بالربو يحاول زميله جاهداً إسعافه ( تستقر العدسة على مشهد رجل ممدد على الأرض ، يرتفع صدره وينخفض ، وشخص يحتضنه ، ويضع رأسه على فخذه ويردد جزعاً : ماذا أفعل لك يا أخي ، لعن الله الربو . ص / 21 ) ، وفي نموذج آخر تنقل الصورة صوت بائع الرقي محمد وراش ، بل إن الصورة نجحت في متابعة ترددات الصوت وهو ينتشر ويملأ فناء السوق ( صوّر محمد وراش يطعن الرقيّة الموصلية بسكين لامعة النصل ، ويرفع شيفاً أحمر يقطر سائلاً خضلاً ، هاتفاً بصوت جهوري يملأ فناء السوق المسقف : أحمر دم الركّي . ص / 69 ) . والطريف أن صور ناصر للشباب المأخوذين بصرعات الملابس الوافدة تمكنت حتى من التقاط الصوت المنغم المميز لأحذيتهم وهي تصعد وتنزل على اسفلت الطريق ( ص / 70 ) .
شخصيات مستبدلة ومستعادة :
سبق التلميح إلى أن الشخصيات التي يبدو من قلة ظهورها أن دورها ثانوي أو هامشي ، وأن هامشيته توحي بأن اختفاءها بعد ظهورها الأول هو اختفاء قطعي ، لكنها سرعان ما تفاجئنا بظهورها ثانية لتكمل دورها الأول ، أو لتستبدله بدور آخر غير متوقع ، ولعل أطرف شخصية أدت دوراً مستبدلاً أو متحولاً هو المكوجي فرهود الذي يؤدي دوره من خلال مهنته التقليدية في مجتمع تقليدي ، وما أكثر من يمارسون هذه المهن في الرواية ، ولكن فرهود يتجاوز الدور المحدد له ضمن إطار مهنته بتطفله على علاقة الحب ما بين يوسف وشميران والتي أبدعها وأنضجها خيال يوسف الجامح إلى الحد الذي صار يتخيل نفسه مع حبيبته يجاهران بها علناً على مرآى من الناس في مجتمع مغلق وتقليدي لا يسمح بأية علاقة ما بين الجنسين ، ولعل مضي الخيال بالعلاقة إلى أقصاها مظهر من مظاهر التمرد في أضعف مراحله على إنغلاق المجتمع ، وقد أغضب العاشقين تطفل فرهود ( هو يقول : يا لهذا الحشري البائس لا أحد يسلم من عين فضوله ، وهي تقول : كم أبغض دناءة المتطفلين . ص 86 ) وظل المكوجي يضايقهما بتطفله الذي لم يتجاوز حدود النظرات حتى أوشكت أن تحين ساعة العقاب ، وكاد يوسف ( أن يندفع إليه ليشبعه ضرباً . ص / 89 ) ولكن عقاب فرهود لم يأتِ من يوسف ، بل من أقرب الناس لفرهود ، زوجته ، بالرغم من إنه عقاب لا علاقة له بتطفله على العاشقين ، فقد كان تعنيفها له على بوار مهنته التي لا تُقيتُ عائلته ، إلا أن الراوي النصي – وهو في هذا الحيز من الرواية راوٍ عليم – قد انتقم بهذا التعنيف للعاشقين ، وكفى يوسف شرّ القتال . كل تلك اللقاءات الحميمية وما تمخض عنها من صراعات وصراعات مضادة لم تكن سوى أضغاث أحلام عاشها يوسف بخيال جامح ومقموع في حب من طرف واحد ، وما تطفل فرهود إلا جزء من مشهد حب تقليدي ممسرح لا يكتمل إلا بوجود معارضين وشامتين وحُسّاد في مجتمع مغلق ومقموع يجيد صناعة الأعداء والحاسدين مثل إجادته لصناعة قصص الحب . هذه الانتقالة لفرهود من دور المكوجي إلى دور المتطفل مرتبطة بأحلام يقظة يوسف ، فهو قد اختار فرهود من بين كل أهل المدينة ليزيحه عن دوره ، ثم يعيد صبّه في الدور الذي يتطلبه مشهد أية قصة حب عذرية . وعندما يغادر يوسف أحلام يقظته مستعيداً كامل وعيه يعود فرهود إلى دوره الطبيعي ( إنتبه – يوسف – إلى أنه عبر الجسر ، وسلك الدرب المفضي للبيت ، كان فرهود المكوجي جالساً على كرسي في مقدمة دكانه ، لم يكن الرجل ينظر إليه بفضول ، ولم يكن في الواقع حشرياً ، ألقى يوسف عليه التحية فتلقى أحسن منها . ص / 95 ) .
أما يوسف ، فقد مرّ دوره في مراحل تطورية عديدة ، أو هكذا أوحت مرويته بعد خضوعها لعمليات قطع وربط متباعدة ، فقد ابتدأت في الفصل الأول بقصة حبه الوهمية لشميران ، وانتهت بمقتل والده ، وإلقاء القبض عليه ضمن من يُشك في اقترافهم الجريمة ، وبإلقاء القبض على يوسف إنقطعت أخباره تماماً حتى ليظن القاريء ان مرويته تكون قد ختمت بهذا الحدث على طريقة النهايات المبتورة . وبعد أكثر من ستين صفحة ، عادت أخبار يوسف إلى الظهور مجدداً في القسم ( 7 ) من الفصل الثاني الموسوم ب ( بور سعيد .. المدينة الباسلة ) وقد أوكل إليه دور جديد إضافة إلى دور العاشق الذي كان قد اضطلع به في الفصل الأول ، والدور الجديد هو دور الشاب المهموم بقضايا سياسية قومية تقوده إلى التوقيف في مركز شرطة المدينة ، ولكن سرعان ما يتبين لنا بأن التغيير الجديد في شخصية يوسف والذي أضفى على دوره طابعاً جديداً ، هو في الحقيقة ليس جديداً بل هو ثمرة لعبة الزمن السردية وما توجبه من تقديم وتأخير في الأحداث ، فحادثة توقيف يوسف في قضية سياسية كانت قد تمت قبل حادثة مقتل أبيه ألذي كان عليه أن يتعهد أمام مأمور شرطة القضاء ( بعدم تكرار ولده لفعل لا يخدم المملكة . ص / 169 ) . ولكن ظهوراُ متباعداً آخر سيكون ليوسف بشخصية ألبِسَتْ لبوس السياسة عنوة دون إرادتها أو رغبتها عندما اعتقلته مفارز الحرس القومي في شباط 1963 بشبهة انتمائه لتنظيم يساري وهو يومئذ طالب جامعي في بغداد ( ص / 221 ) . ومع قرب وصول الرواية إلى نهايتها يتبين بأن الربط ما بين الجريمة الجنائية ممثلة بمقتل ابي يوسف ، والجريمة السياسية التي نُسبت إليه بانتمائه إلى تنظيم يساري هو ربط مقصود تعمده مأمور الشرطة الفاسد ليتخلص من الشاب المثقف ، محققاً هدفين في وقت واحد ، الأول : إبعاد الشبهة عن القاتلَين الحقيقيين شراد هديب وشتيوي الياور ، والثاني : إراحة الجهات الأمنية من معارض سياسي . ولا بدّ من ملاحظة إن الإرباك في اللغة تسبب في تمييع الأحداث في مروية يوسف ذات البنية المقطعة ، والحلقات المتباعدة وذلك بخلط أحداث السجن السياسية مع أحداث السجن الجنائية ، إضافة إلى الخلط ما بين فضاءين مكانيين ( بغداد والسماوة ) وفضاءين زمانيين ( فترتي الدراسة الجامعية والفترة التي سبقتها ) . ومن الواضح أن ثمة إشكالية بنائية تعانيها لغة السرد لا سيما في اصطناع الصياغات اللغوية والبلاغية المبالغ بها والتي تتسبب في تقعّر المعنى وتُفقد النص عفويته وسلاسته .
أما شراد هديب القاتل ذو الشخصية الذئبية المريبة الذي لا يترك في مواقع جرائمه أثراً يدل عليه ، فقد كان ظهوره هو الاخر متقطعاً ومتباعداً ، وفي كل ظهور له كانت أخباره تضفي على شخصيته ملمحاً مميزاً وربما مختلفاً من دون أن تنزهه من أخطائه العظيمة ، وفي كل ظهور له أيضاً كان النص يلتقط خبراً من أخباره ليختفي بختامه اختفاءاً تاماً ، ثم ليعادو الظهور من جديد . فبعد أن قدم له الراوي الصوري ناصر الجبلاوي تعاريف صورية سريعة جاءت على جوانب من شخصيته التي لا تخلو من ظرف إلى الحد الذي جعلت الجبلاوي يضحك منه ( يضحك حتى تدمع عيناه . ص / 56 ) . بعد هذه اللقطة الصورية الظريفة اختفى شراد هديب ، وانقطعت أخباره تماماً . ثم عاد ليظهر ظهوراً خاطفاً ومفاجئاً بصحبة المقاول شتيوي الياور في يوم مقتل الحاج سلطان شاهر ( ص / 103 ) . ثم انقطعت أخباره ثانية لتعود في ختام الفصل الثاني ( ص / 198 ) بشكل مكثف لتكشف ما كان قد خفي على مدى أكثر من مئتي صفحة من الرواية من هذه الشخصية المركبة والموغلة في الجريمة إلى الحد الذي تبدو معه مقارنتها بصورته الظريفة التي قدمها الجبلاوي عنه بأن هناك تحولات وتبدلات طرأت على طبيعة الشخصية وضعت كل صورة من الصورتين على طرف نقيض من الأخرى .
وبالرغم من أن سطوة التاريخ كمُخرج تبدو وكأنها قد تراخت عن ناصر الجبلاوي في الأقسام الأخيرة من الرواية ، وأنه ظل يتصرف كمصوّر مستقل غير مذعن لأية إرادة خارجية . إلا أنه ظل يتصرف وكأنه الوكيل المخوّل بالتعبير عن إرادة التاريخ الغائب ، فهو يحتفظ بصور فوتوغرافية لكل شخصيات المدينة ، وتلك الصور هي المدلول الورقي لدال من لحم ودم وذكريات ، ومع نهاية كل شخصية منحرفة من شخصيات الرواية / المدينة كان ناصر يرفع مدلولها الورقي من خزانة استوديو التصوير الزجاجية ، ويعلقها في غرفة التحميض المظلمة ، فإذا ما أشعل في الغرفة ضوء التحميض الأحمر بدت الوجوه الشاحبة لأصحاب تلك الصور وكأنها تغرق في الدماء البريئة التي أهرقوها أو تسببوا في إهراقها . هكذا نفذ الجبلاوي إرادة التاريخ بصورة كل من المفوض الفاسد رشاش جاسب والمقاول الفاسد شتيوي الياور والقاتل المحترف شراد هديب ليُنهي – من جهته كراوٍ صوري – بهذا العقاب الدلالي الصارم فترة من فترات تاريخ المدينة . أما الراوي النصي ، فقد أنهى – من جهته – الرواية بالتذكير بمصائر رفاق فتوته وشبابه ، فمنهم من مات محبطاً ، ومنهم من هاجر ، ومنهم من ظل ماكثاً في مدينته ، ومنهم من دفعه الإحباط لإحراق كل ملفات الماضي قبل موته ، أما يوسف – الشخصية المحورية – فقد حولته السجون وجلسات التعذيب إلى قاموس لا يضم سوى كلمتين : زهوٌ ورماد .
( * ) تراجيديا مدينة – زيد الشهيد ألمؤسسة العربية للتوزيع والنشر – 2014