شوقي يوسف بهنام* : “معين بسيسو” وتجليات البطولة ؛ رؤية نفسية

shawki  5*مدرّس مادة علم النفس
كلّية التربية – جامعة الموصل
يعد مفهوم البطل Hero او صورته من الموضوعات التي اهتمت بها مدرسة التحليل النفسي لأن هذا المفهوم يعد عنصرا مهما في تكوين صورة الذات وواحدة من عناصرها الاساسية ؛ سواءا اكانت هذه الذات مثالية او واقعية على حد سواء . ونحن نعلم ان موضوع البطل يلعب دورا مهما في الاساطير والحكايات الشعبية على انه المخلص والمنقذ لشعبه او لفتاته او لجيله او للعالم كله . ويكفي ان يكرس استاذنا الدكتور علي زيعور حلقة خاصة عن موضوع البطولة في مشروعه الكبير عن التحليل النفسي للذات العربية وهو بعنوان ” البطولة والنرجسية في الذات العربية ” (1) . وكتاب الباحث الانثروبولوجي ” جوزيف كامبل والمعنون ” البطل بألف وجه ” وهو كتاب مهم من وجهة نظر الانثروبولوجيا الثقافية (2) وكتاب ” البطل في التاريخ ” لمؤلفه سدني هوك (3) وكتاب سايمنتن ” العبقرية والابداع والقيادة (4).. واخيرا لا ننسى جهود طبيبنا الناقد الدكتور حسين سرمك في كتابه الوليد عن جلجامش وصور البطولة (5). ونحن هنا لسنا معنين بالقيام بدراسة مسحية عن مفهوم البطولة او ظاهرة البطل . لأن هذا من شأن الدراسات النظرية أكثر من شأن الدراسات التطبيقية . وقد كان المحلل النفسي الهنغاري ” اتو رانك ” وهو من حلقة فينيا لمدرسة التحليل النفسي من الرواد في دراسة ظاهرة البطل والبطولة وبحوثه المنشورة في مجلة” إيماجو ” التي كان فرويد قد اقترح بتاسيسها عام 1911 والاسم من اقتراح المحلل ساخس (6) وقد ساعد رانك حيث اهتمت هذه المجلة بدراسة الاساطير والحكايات الشعبية والمنجز الابداعي على مختلف اشكاله . لقد قدم استاذنا علي زيعور في كتابه السالف الذكر عرضا لما سماه ” بعلم البطولة ” مقترحا الى ان يكون لمفهوم البطل مبحثا معرفيا خاصا به ومستقلا عن غيره من المباحث . ولسنا في معرض تقييم لهذا الكتاب بل مجرد إشارة لجهوده فحسب في هذا المجال .
ليس من الغريب على بسيسو وهو الرجل الذي تمدد على الصليب .. صليب الالم والحزن ان يتحدث عن البطل رمزا وواقعا . فتارة يكون هو البطل واخرى يكون رمزه سلما لذلك … اعني لتحقيق صورة البطل لدية . فمنجزه الشعري مشبع بالصورة البطولية الرمزية والمباشرة ؛ شعراء ، سراق ، قتلة ، ملوك ، خصيان ، مناضلين وغير ذلك الكثير .. الكثير . هذه السطور لن تكون مسحا شاملا لهذا المنجز الذي لا استطيع الا ان اقول عنه بأنه منجز جميل . وبسيسو مهووس بنماذجه البطولية المختلفة ، تناولنا عددا منها في حلقات اخرى من هذا المشروع . ونحن ، هنا ، رسم معالم اخرى لتلك النماذج . ولكن يمكن القول انها نماذج سلبيه ، صب بسيسو جام غضبه وسموم كراهيته نحوها . سميناها نماذج بطولة لان بسيسو عدها صورا للاخر الذي يناصبه العداء دائما . السلطان .. الملك .. وما يمثله من رموز مختلفة . انه يريد ان يقول ان هذه النماذج مهما تمادت في غيها ومهما اتسعت رقعة وجودها ، لابد ان يأتي يوما تتهاوى على يد بسيسو او نماذجه المضادة .. النبيلة .. الصادقة .. حليفة الاطفال والمهمشين والمعذبين . وقد اختار بسيسو نماذجه الماركسية نموذجا لذلك وعدها الاشرف والانبل والاصدق !! . في نصه الاول والمعنون ” جنازة الجلاد ” يكشف لنا شاعرنا عن مشاعره العدوانية المضادة لهذا الجلاد . حقده على الجلاد صورة من صور العدوان المكبوت لدى بسيسو . نعم هو يعده حق مشروع . الا انه يبقى في دائرة العدوان المضاد . يقول بسيسو في قصيدته هذه :-
maein 6اغسلوه بما جرى من دمائه فتراب العطاش اولى بمــائه
وارجـموا نـعشه كـما تـرجم البــومة بالبـاقيات مـن اشـــلائه
وامنعوا الشمس ان تضيء على الخائن حتى في مهرجان فنائه
وإذا سـارت الجـنازة والنــجم مشــيح عــن ركـبها بضـيائـه
فأطـردوا حـافر القـبور عـن الارض التـي ُلطخـت بـدمـائه
واحـرقوا الجـيفة الخبيثة وامـشوا وأطـلوا بـها علـى ابـنائه
ولـتـكن كـومـة الرمـاد الـى الذئـب فـراشـا وللغــراب التـائـه
(الاعمال الكاملة ، ص 58)
*************************
لقد نسي بسيسو عدة اعتبارات مهمة في نظرته او موقفه او توجهاته نحو الجلاد . وبعض من هذه الاهمية هي مستمدة من خلفيته الحضارية او الانسانية على حد سواء . فالجلاد ، هنا ، ميت . اصبح جثة لا غير . وعند خلفية بسيسو الحضارية منظورات ازاء الجثة ؛ منها ” اكرام الميت دفنه ” وهذا النص لم يحدد هوية الميت البتة . كما ان الامتثال بالجثة على الشاكلة التي قدمها لنا بسيسو مرفوض وفق انساق خلفيته الحضارية كذلك . ونسي بسيسو ايضا ان الجلاد قبل ان يكون جلادا هو انسان اولا واخيرا . ولم يضع في اعتباره ؛ الدوافع والاسباب والغايات التي جعلته لأن يكون جلادا . ونسي ايضا ان الجلاد ليس غير رجل مأجور للسلطة وهو يعمل مقابل اجر لا غير . ولم يضع بسيسو في اعتباره ان مقدرات الحياة كان بإمكانها ان تضعه في محله ويقوم بنفس دوره . عند ذاك هل كان بسيسو يرضى بذات المصير الذي رسمه له .. اعني للجلاد ؟؟ . المهم عند بسيسو هو ان الجلاد صار بمثابة الهم الوجودي الاكبر له . لقد انشغل به كثيرا . من هنا هذا الحقد عليه وهذه الكراهية نحوه . صار بمثابة كتلة من الظلم والقسوة والبطش واللارحمة لا غير . يريد ان ينزل عليه ما انزل الجلاد على بسيسو . عدوان وكراهية مضادة له . صورة جلية لفعل الانتقام . ايضا نقول لبسيسو ما ذنب اطفال الجلاد ؟ هل سيكونون جلادين بالضرورة .. البيولوجية منها مثلا ام اعجابا وتماهيا وتوحدا نفسيا ؟؟ حتى يروا مصير الجلاد الاب ومن ثم لن يرغبوا بان يكونوا مثله او على منواله . اليست هذه الصورة توظيف لصورة فرويد عن فكرته حول ” قتل الاب ” الجماعي وهي بذرة عقدة اوديب عنده ؟؟ ام ان بسيسو يرغب في اقتلاع صورة الجلاد من مخيلة ووعي الابناء من خلال هذه الصورة البشعة التي يرسمها له ؟ . يريد زرع مشاعر واتجاهات الكراهية والعدوان والرفض والتمرد لدى الجيل الذي يرغب في بنائه وفقا لتصوراته البروليتارية . اسجل هنا رأيا لا غير ، ذو بعد سايكولوجي هو موقف ابناء الفقراء ازاء الاغنياء والاثرياء في المجتمع … اي مجتمع وبالتالي فان هذا الموقف هو الاساس وراء ظهور الميول الماركسية او الافكار الماركسية وتبني مقولاتها . لماذا نقول صراع طبقي ولا نقول حقد طبقي ؟ الحقد اولا ثم يأتي بعد ذلك الصراع . يظهر الصراع عندما يبدأ النضج والوعي . ولهذا يسمونه الفكر التقدمي لأنه يؤمن بقيم المساواة والعدالة وتوزيع الادوار والملكيات بشكل يعزز مشاعر الظلم والحقد والغيرة . تلك هي الفكرة الاساسية ، في تقديرنا ، التي تداعب خيالات ولاوعي بسيسو . بسيسو يريد لا فقط اقتلاع فكرة او صوره الجلاد بل محوها تماما من الذاكرة الانسانية على النحو الذي يذكره في البيت الاخير عن مصير رماد جثة الجلاد .. الذي اهداها الى الذئب لتكون له فراشا وللغراب التائه !! . هنا .. في هذه الصورة ، تكمن رغبة بسيسو في تغييب صورة الجلاد او جثته او رماد تلك الجثة من ادراج الذاكرة الانسانية على النحو التام . لا ننسى رمزية كل من الذئب والغراب في الرمزية الانسانية على وجه العموم .
يكمل رسم معالم جنازة جلاده هذا . انه يقول :-
ايها الهالك الممدد في الكهف يلوك الطـريح مـن انفاســه
أنسيت َ الجلاد لما تزل ترعش عنق المشنوق في أمراسه ؟
أنسيت َ الجـلاد لـما تـزل تسمع صـوت الفناء من أجراسه ؟
والوحول التي شربت الا تذكر يا من نقشت َ جدران كاسه
أنـت َ ميت ٌ إن لم تثر ثورة الـريح وتهـوي بسقفه و أساسه
وتعـيد المنهوب من هذه الارض التـي تستغيـث من اغراسه
فتـدب الجـياع تحـرث بالكـف ثـراها المحـروم مـن أعـراسه
(الاعمال الكاملة ، ص 58)
***********************
هنا دعوة الى الجلاد لكي يفتش في سجل اعماله ويرى المآسي التي كان هو سببها ووراءها . وما كان يفعل مع الذين يقوم بجلدهم وتعذيبهم واراقة دمائهم ظلما وبهتانا . نسي بسيسو ان الجلاد ، كما يقال ، عبد مأمور .. لا حول له ولا قوة . لم هذا اللوم والعتاب والتقريع . ؟؟ . انه ميت الآن . ما الفائدة من مخاطبته بهذا الخطاب الطويل . اليست هذه مفارقة سايكولوجية لم يعي لها شاعرنا ام ان هناك غرض آخر يرسمه له بها ؟؟ . انه في تقديرنا خطاب الى كل من يرغب او يشتهي ان يكون جلادا للشعوب . انه سجل لتاريخ الجلاد ومآثره البطولية . ولكن اي بطولة . انها بطولة على حساب الغير لا من اجله . الامر مختلف في الحالتين تماما . أترغب يا هذا بان تكون جلادا . إذن هذا هو مصيرك المرتقب لا بل المحتوم وبالضرورة . ايها الجلاد .. ايها المأجور لهذه السلطة او تلك ان لم تثر ثورة الريح وتعيد الامور الى نصابها الصحيح سيكون رماد جثتك فراشا للذئب وللغراب التائه . سوف تلغى من ذاكرة التاريخ . وسوف ينكرونك الجميع حتى اولادك عندما يرون جنازتك . سوف تحل عليك اللعنة الكبرى . انها لعنة التاريخ . مسكين من يلعنه التاريخ ويمحوه من ذاكرته . كم منسي ظهر في التاريخ . سوف تكون واحدا منهم . يا لتعاستك ايها الجلاد المسكين . تمرد واثأر لنفسك وللجياع وان لم تفعل فستدب الجياع تحرث بالكف ثراها المحروم من اعراسه . انها فرصتك الاخيرة . فالحتمية التاريخية لا بد ان تسير كما هو مخطط لها شئت ذلك ام ابيت .. الجياع هم اصحاب الثرى وهم احق به من غيرهم . انها الفرصة الذهبية . ما عليك الا ان تنتهزها .
في النص الذي يحمل عنوان ” في الاردن جلاد يحلم ” يعيد بسيسو صورة الجلاد مرة اخرى . ولن اركز كثيرا على زمكانية الفكرة بل على رمزيتها فحسب . اعني انني لن اركز على ما يحمله النص من وقائع واحداث عاشها الشاعر واختبرها وعناها بصورتها المحددة اكثر مما اريد التركيز على الفكرة الاساسية التي يقف عندها بسيسو . نحن نعلم ان الاردن مكان معلوم في العالم . وما يحدث به مثلما يحدث في بلد مثله هذا العالم . كانت صورة الجلاد في النص السابق صورة لكل الجلادين في العالم . لكن الجلاد في الاردن له صلة وصل مع بسيسو . من هنا واقعية الجلاد في الاردن بينما يبقى الجلاد رمزا وفكرة وصورة لا غير للجلادين المحددين إن كانوا في الاردن او اي بلد اخر يسمح للجلاد بان يظهر على مسرح الاحداث . ذلك هو الفارق في الصورتين . نحن هنا ازاء جلاد حقيقي وواقعي بينما هناك نحن بإزاء جلاد رمزي بكل ما تحمله المفردة من معنى . لنرى واقعية هذا الجلد في البلد … !! . يقول بسيسو عن جلاده الاردني ما يلي :-
في الاردن جلاد يحلم
بربيع الفجر والشعب الاخضر
غُصنا يُكسر
في حبل المشنقة الاصفر
بالأردن يمسخه ضفدع
في مستنقع
في الوحل الابيض
والوحل الازرق
مقصلتك لن تصبح ذاك الزورق
فالأردن والشعب الاخضر
كفراشة اعصار تبرق
(الاعمال الكاملة ، ص 110)
****************************
يؤكد بسيسو منذ الوهلة الاولى ان جلاده الاردني يعيش خبرة الحلم . ولكن ليس الحلم بمعناه الليلي بل هو حلم يقظة لا غير . انه اذن ليس غير سراب ووهم . ليست مهمتي ان احدد هوية هذا الجلاد الاردني . الباحث في التاريخ المعاصر والذي عايش بسيسو وعايش همومه وهموم قضيته قد يتمكن من تحديد تلك الهوية . مهمتي تقتصر على متابعة صورة بسيسو لرمزية الجلاد لا غير . ويكمل بسيسو رسم صورة جلاده هذا على هذا النحو فيقول :-
في الاردن جلاد يحلم
بالأردن يحلم في قمقم
سجن أبدي لا ُيحطم
سجن كجهنم
لا النار تموت ولا تهرم
(المصدر نفسه ، ص 110)
*************************
ذلك هو حال هذا الجلاد إذن . لا يزال يحلم في المستحيل ان صح التعبير . يريد بسيسو ان يقول ان هذا الجلاد يعيش في حلم دائم .. بل في وهم دائم .. وهم لن يخرج منه البته . ان دائرة تفكيره تشبه القمقم . بسيسو هنا يعيد الى الاذهان فكرة المارد المسجون في القمقم (7) . والذي يحرره الصياد . إذن هذا الجلاد مثل ذلك المارد المسجون في القمقم . السجن في القمقم هو عقوبة لذلك المارد الشرير . جهنم هي الاخرى ذلك السجن الذي لا تنطفأ ناره ابدا … الجلاد ، بهذا المعنى مارد شرير خالد في نار جهنمه . بالمقابل يحلم الشاعر بحلم من نوع مختلف عن الحلم الذي يحلمه جلاده الشرير . لنرى بماذا يحلم بسيسو :-
وأنا أحلم
بالريش سينمو كالغابة
بالمارد طار
بالزنزانة
ويد السجان
تدمي مفتاح الزنزانة
وفم السجان
من جوع يمضغ قضبانه
في الأردن جلاد يحلم
ميت يحلم
ويجوع ويمضغ اكفانه
(المصدر نفسه ، ص 111)
**************************
هناك تباين نوعي بين الحلمين . حلم الجلاد وحلم بسيسو . كلاهما لهما الحق في ان يحلم كما يشاء . الحلم وفق فرويد تحقيق لرغبة مكبوتة في اغوار اللاشعور . الجلاد يحلم حلما يعبر عن رغباته المدفونة ازاء الشاعر وقضيته بينما الشاعر يحلم بحلم يعبر عن رغباته ازاء هذا الجلاد الشرير الذي وقف موقفا عدائيا ازاء الشاعر وقضيته وقضية شعبه . كلاهما يريد احتواء الاخر والانتقام منه . كلاهما يرى انه على حق بحلمه . في النص رغبات مدفونة في لا وعي كليهما . نحن نتساءل عاش كل منهما افراح وسعادات تحقيق الحلم ؟؟؟ .
في قصيدته المعنونة ” طائر من الرماد ” يعيش بسيسو احزان الخيبة وهموم الفشل لكونه شاعر لم يتمكن من تحقيق رسالته ازاء ذاته وازاء قضيته . انه اذن وبهذا المعنى بطلا مزيفا بنظر ذاته على الرغم من الآخرين لم يدركوا تلك المعاناة التي مرت بالشاعر من تلك الخبرات . لنرى كيف يصور لنا بسيسو تلك الصورة عن الذات فيقول :-
الشاعر الذي مضى كغيمة ،
وغاب ثم عاد …
كطائر من الرماد
كحزمة من دخان
يعض في عيون ملهميه
في كتاب ،
(المصدر نفسه ، ص 159)
************************
تلك إذن هي عودة الشاعر .. عودة نشم منها عبق الفشل ورائحة الخيبة . والمفردات التي يستخدمها الشاعر ، غيمة .. دخان .. رماد .. كلها كلمات تدل على العدمية والضياع واللامعنى . وواحدة من رمزيات الرماد انه اشارة الى عدمية الحياة الانسانية نظرا لهشاشتها !! (8) . الشاعر يعيش هشاشة الحياة وهشاشة خبرته الحياتية . ذهب من اجل قضية .. وها هو يعود ليسرد تلك العودة . انها مثل عودة خيالنا دحبور عندما عاد وهو يجر اذيال فشله .
قصائد الزمان يا حبيبتي
وعبرة الزمان …
ويطعم الفراش للجراد
والدر للخنزير والورود للكلاب
(المصدر نفسه ، ص 159)
************************
اذن هنا نجد الاخفاق متجليا في مسيرة الشاعر مع الزمان . لم يستطع ان يؤدي رسالته على النحو الذي ينبغي ان يكون . الحياة مقلوبة . في النص استلهام لبعض اقوال المسيح عندما قال لتلاميذه ” لا تلقوا درركم للخنازير ….” . التاريخ يمضي على السياق الخاطئ . الخنزير لا يدرك قيمة الدر والكلاب لا تستطيع ان تأكل الورود . من الخسارة ان نطعم الجراد فراشات .. بسيسو هو الفراشة وهو الدر وهو الورد . انه يعيش حضارة الكلاب والخنازير والجراد .. يجتر بسيسو احزانه عندما يتذكر بواكير رحلته في بناء رسالته بكل ابعادها . فيقول :-
الشاعر الذي مضى على ضفائر الرياح
وكان تحت قبة الظلام ،
في وداعه الصباح
الشاعر الذي مضى محاربا
وعاد يسحب الجناح
الشاعر الذي رمى على المقابر السلاح
وعاد يلقي الشوك في عيون ملهميه ،
يلعق المداد …
ويمضغ الاوراق
ويغمد الحروف في الاحداق
(المصدر نفسه ، ص 159-160)
****************************
نرى في هذا المقطع صورة للعودة الخائبة والفشل المرة . انها صورة من صورة الانسحاب نحو الذات والتقهقر اليها . فشل في تحقيق الطموح . انطلق بسيسو في رحلته على ضفائر الرياح . ما دلالة ذلك ؟ الدلالة تعني انه كان ذا طموح عالي .. متفائل .. حالم .. ذا افق مفتوح . لكن حركة التاريخ خيبت امله في شيئ . لم يبقى لبسيسو سوى حبيبته التي ترافقه او تنتظره او قد تخلت عته … ولنقل ، ان امكن ، مع قضبان الذات السميكة .. الكون كله يسخر او سخر من بسيسو واحلامه .. الاشجار ازاحته عن اغصانها .. صورة عميقة لمشاعر الرفض والنبذ من قبل الآخر . لن نحدد هذا الآخر . نتركه لبسيسو ذاته . كان مثل الغيمة في رحلته الأولى وها هو يعود مثل طائر من رماد !! . اي صورة يرسمها لنا بسيسو لعودته الى ذلك الذي كان ينتظره ويتمنى حضوره البهي .. البطولي .. المشرق .. لكن عودته خيبت كل الظنون به .. وضعته في براثن الشك .. انها وصمة الفشل وعاره . حتى الصياد او الصيد الذي يحمل رمزين هما قتل الحيوان (رمز تحطيم الجهل ) وقتل النزعات المشؤومة ؛ ثم البحث عن الطريدة ، الذي يرمز الى المطاردة الروحية ، صار عند بسيسو رمزا للمجتمع الذي يرفض ابنائه الخائبين والفاشلين . البصق دلالة على الامتعاض وعدم الرضا والرفض . هذا هو موقف او صورة بسيسو في نظر الآخر .. انها صورة تثير الشفقة وما الى غير ذلك ..
في قصيدته المعنونة ” البطل في الساعة الخامسة والعشرين ” يصور لنا الشاعر احزان الملك المخلوع .. الفاقد لشرعيته .. انه بطل ولكن بطل مزيف لأنه عدو الشاعر اولا واخيرا . الملك يمثل السلطة .. ذلك العائق او كاتم صوت الشعر وخانق انفاس الحرية .. ولن نقارن بين القصيدة وصورة بطل رواية الروائي الروماني ” كونستانتان جيورجيو ” . هذه المقارنة اتركها للعاملين في مجال الادب المقارن . وعلى الرغم من انه لا يمكن تجاهل التخاطر النفسي بين قصيدة بسيسو وتلك الرواية لأن بسيسو لا يمكن ان يعنون قصيدته هذه من دون دراية بمضمون الرواية تلك . لنقرأ القصيدة ونرى صور البطولة وتجلياتها . يقول بسيسو :-
الملك مات ،
ألف فارس طلا الغبار وجهه ؟
وفر منه سيفه ،
أتى يقول
(المصدر السابق ، ص 221)
*************************
هنا نحن ازاء اعلان طالما انتظره كل الذين يكرهون الملك . كل من كان الملك مصدر كدر بالنسبة اليهم . الف فارس ادعى انه قتل الملك . ان قتل الملك امنية لكل الذين يفكرون بالانتقام . انها بطوله تلك العملية الجبارة التي من خلالها يتم تصفية الملك . بتلك التصفية سينتهي الظلم والاستبداد وسوف تفتح ملايين الزنزانات ويخرج كم من المظلومين في سجن الملك .. انها لحظة حاسمة في تاريخ الشعوب ان ترى الملك وهو يتهاوى ساقطا .. مقتولا بيد بطل ما .. انه المخلص .. المنتظر ذلك الذي يحلم به الاطفال والفقراء والمجانين !! . ترى بماذا بشر احد الفرسان في ذلك الاعلان التاريخي :-
بأنه رآه ، سيفه في كفه ،
يموت
خمسون طعنة ، سبعون
ألف طعنة في صدره ومن يكذب السيوف
(المصدر السابق ، ص 221)
*************************
الجميع رآه يموت والسيف في كفه . وجسده مثخن بالطعنات . هنا دلالة على الحقد المكبوت الذي يجمله المجتمع ازاء هذا الملك . تخيل جسد يتحمل الف طعنة !! . انها صورة مبالغة بعض الشيء ولكنها تحمل دلالة الكراهية والضغينة والحقد . الا اننا نجد في المقطع التالي مفارقة يكشفها لنا بسيسو .. ان هذا الملك المطعون بألف طعنة .. ملك كاذب .. الجميع يعيشون خدعة .. ملك يتخيل انه ملك .. فرسان هيأ لهم انهم قتلوا الملك ..” وما قتلوه وما طعنوه وما …. ولكن شبه لهم ” .. الجميع يعيش خدعة كونية كبيرة . سوف يظهر الملك الحقيقي وليس الملك المزعوم :-
وذلك المجنون يقرع الاسوار ،
كاشفا عن صدره ،
يصيح أنه الملك
وكاذبون ألف مرة ، فما هلك
وأنه قد باع نعله وتاجه وعاد
(المصدر نفسه ، ص 221)
***************************
بسيسو يطرح لنا فكرة الملك الذي اخفق في ادارة مملكته فكان نتيجة ذلك الاخفاق هو الهرب والفرار من مواجهة شعبه . المجنون هنا هو الملك إذن . كل الفرسان الذين ادعوا انهم قتلوا الملك وطعنوه لم يكونوا من الصادقين إذن . كان المقتول هو الشبيه بالملك وليس هو بكذلك .. الفرسان هم ضحية الخداع والظن والتمويه . وبسيسو يريد ان يضعنا في إشكالية هزيمة الملك ومحنة فشله . كم من المجانيين كانوا قد تصوروا بأنهم ملوك لأزمنتهم ولأوطانهم ؟؟ . ها هو مجنون بسيسو واحد منهم . يعيش بسيسو مثل مجنونه في بحر من الخداع والكذب والرياء . كل ما من حوله هو كذلك . ها هو يقول :-
كذّابة قصائد الرثاء ،
أدمع الاجراس ،
شهقة الإزميل في الحجر
الملك مات تحت خيمة الرايات ،
قبره هناك ،
تمثاله ، يفر من نحاته ، سجانه ،
من ساحة المدينة
(المصدر نفسه ، ص 222)
*************************
هنا اقرار لموت الملك ؛ سواءا اكان حقيقيا ام ذلك الدعي .. اعني المجنون الآتي من خلف الاسوار . كل ما من حول الشاعر هو محض كذب ورياء وخداع .. ينتقل بسيسو من قصائد الرثاء حتى شهقة الازميل . انع إشارة لما يحدث في المدينة وما في المدينة من حيثيات ووقائع وتفاصيل لحظوية ويومية . تمثال الملك إذن اصبح بمثابة عامل لرهاب اجتماعي إن صح التعبير . صار رمزا للظلم والاستبداد والطغيان . صار ايضا بمثابة الرقيب الاجتماعي القهار .. الكل يفر ويهرب منه .. لم يعد عملا فنيا يتمتع بالشروط الجمالية واسسها الذائقية . حتى النحات .. اعني نحاته صار يهاب ويخاف منه . حتى السجان الذي يعمل لحسابه وتحت مشورته .. هو الاخر يخافه ويهابه . مرت اعوام واعوام والملك ما يزال هو هو .. يمارس طغيانه وظلمه واستبداده وساديته . لنرى كيف يصفه بسيسو .. ها هو يقول :-
في كل عام حينما تدق ،
تلك الساعة اللعينة
وكم رأوه والدماء ، من جراحه تسيل
يدق باب القصر ،
جرعة من النبيذ للقتيل …
وكم رأوه يطعم التمساح ،
في بحيرة الورد
ويفتح الاقفاص للأسود
وذلك المجنون دائم الصياح
إنه الملك …
(المصدر نفسه ، ص 222)
**************************
صورة الملك وهو في لحظات الاحتضار النفسي او الواقعي . الامر في الحالتين هو هو .. انه يعيش عذابات الانتهاء .. النهاية المحتومة التي يواجهها او ينتظرها او التي ينبغي ان يلاقيها . ينبغي ان يلقي حتفه شاء ام ابى . الدق على باب القصر هو اسلوب دفاع طفولي وغير ناضج وهو يرمز الى التشبث بمكانته الميتة بينما هو يغوص ببركة من الدماء .. دماءه هو . اطعامه للتمساح وفتح اقفاص الاسود هو اخر ما يمتلكه من اساليب الدفاع والمواجهة . من جانب آخر نرى ان مأساة الملك المحتضر مقترنة بأوهام ذلك المجنون . لعل المجنون هو الشاعر نفسه وقد جن من الصراخ والصياح بأنه الاحق بالمملكة من الملك . لقد بح صوته من خارج الاسوار . لا احد يسمعه ولا احد يصغي اليه . ليس غير مجنون يصرخ مع نفسه . المجنون رمز للشاعر او للاخر الذي يرفض الاستسلام لطغيان الملك . بسيسو في المقطع الاخير يؤمن بحتمية التاريخ … نهاية الظلم .. نهاية الدكتاتورية .. نهاية الملك . ها هو يصور لنا تلك اللحظة الحاسمة من لحظات تاريخ الشعوب فيقول :-
وتقفز السيوف كالأسماك ، كاذب
عدونا على اسوارنا رماه …
الملك مات ملء درعه ،
ولم يبع جواده وسيفه الذهب ،
إن لم يمت ، لابد أن يموت ،
فليرمه أحبكم اليه بالسهام
ولتنحروا قصائد الرثاء كل عام
(المصدر نفسه ، 222)
************************
اذن ها هي دعوة بسيسو الى الشعب .. الى كل فارس يحمل سيفا وممطيا جوادا .. ان يقفز ويجهز على الملك . لا بد ان يموت الملك .. رغم كل الشائعات والدعاوى التي يطلقها الاعداء . لا بد من ان يموت .. فليرمه الاقرب اليه بالسهام . لقد باع الشعب وباع القريب والبعيد . افلا يستحق الموت إذن ؟ ليقتل وليموت ولتنحر قصائد الرثاء .. لا رثاء بعد على ملك ينبغي ان يموت !! .
صورة جميلة اخرى يقدمها لنا بسيسو للملك الخائن لقضايا شعبه عند عودته في قصيدته المعنونة ” الهودج والكلاب ” :- فيقول :-
ما فات فات
ما للجراد ، وللعناكب ذكريات
طوي الكتاب ،
ملك الرماد ، يعود من غزواته
ملك الرماد
من أرض واق الواق ،
تصهل حول هودجه الكلاب
(المصدر نفسه ، ص 224)
************************
ولع بسيسو بل هوسه في توظيف رمزية الحشرات والحيوانات الكريهة والمرعبة واللامرغوبة انما هو ، في تقديرنا ، هو للتقليل والحط من قيمة الشخصية المراد تسليط الضوء عليها . ملك الرماد .. ملك لا اساس له في بنية الوعي الجمعي .. معنى ذلك انه مرفوض من ذلك الوعي . وبدلا من ان يحيطه الشجعان والشرفاء واصدقاء الاطفال والفقراء .. ها هو تحيطه شلة من الحيوانات والحشرات .. فهودجه تحمله كلاب وهي تصهل !! . هل تصهل الكلاب ؟ نعتقد ان بسيسو يسخر من عودة ملك الرماد هذا ومن كلابه التي تصهل ولا تنبح . لنرى كيف يصور لنا بسيسو هذه الكلاب فيقول :-
صرخوا ، وقد سرقوا القطوف له ،
وغشوا الخمر ، وابتلعوا الدفوف
صقر المنابر ، ناطح الكلمات ،
أبرع من مشى فوق السيوف
الثلج ذاب
(المصدر نفسه ، ص 224)
***********************
كل شيء في خدمة الملك . الشعب وما لديه وما يملك . الكلاب هنا هم حرس الملك الامناء .. الاوفياء .. حاشيته المقربة دون الشعب . كانوا … اعني كلاب الملك هم رقباء له .. عيون حارسة له .. حافظة لأسراره .. تمكنت من الهيمنة على الرقاب .. رقاب الفقراء واصحاب القصائد والاصوات المبحوحة …
الثلج ذاب
***********
يمكن ان يرمز ذوبان الثلج الى نهاية هذا الملك ونهاية هيمنته . نرى في المقطع التالي ان بسيسو يرى بصيص من الامل في افقه المغلق !! .
لِمَ هذه الابواق تستلقي
على الاسوار ، يملأها الذباب
شدوا السروج على الكلاب !
الان وقت الشد يا ملك الرماد ،
صاحوا ، وقد حزموا حناجرهم ،
وفوق رؤوسهم ،
صهل الغراب !
(المصدر نفسه ، 224)
***********************
انها صورة لمصير الطاغية الحتمي . انه وقت الشد .
” شدوا السروج على الكلاب ”
***************************
مثل شعبي دارج في بيئاتنا العربية يقال او يضرب عندما تضيق ساحة التقييم ومسرح القدرات والامكانيات . السرج للجياد وليس للكلاب . ولكن عندما تقل الجياد او تندر فالضرورة تلعب دورها في مسرح الاحداث . عندها تتصدر الكلاب المبادرة . وما من شك ، في تقديرنا ، ان بسيسو ، ينطلق من هذا المثل ليعطي لنا رؤيته لمسار الاحداث في واقعه .. ايا كان هذا المسار . نترك تحديد هذا المسار لبسيسو نفسه . يقود هذه الحشود من الكلاب المسعورة غراب قد صهل ولم ينعق !! . بسيسو يغير الوظائف والادوار والشخوص للسخرية من حركة التاريخ ومسار احداثه والحط والتقليل من شأن مسار تلك الحركة . ان ابطال بسيسو هم نماذج للبطولة المزيفة إن صح التعبير . كانت هذه النصوص عينة صغيرة لا غير .
الهوامش :-
1- د. زيعور ، علي ، 1982 ، قطاع البطولة والنرجسية في الذات العربية ، الحلقة رقم 6 ، دار الطليعة ، بيروت ، لبنان ، ط1 .
2- كامبل ، جوزيف ، 2003 ، البطل بألف وجه ، ترجمة : حسن صقر ، دار الكلمة للنشر والتوزيع ، دمشق ، سورية ، ط1 .
3 – هوك ، سدني ، 1959 ، البطل في التاريخ ، ترجمة : مروان الجابري ، المؤسسة الاهلية للطباعة والنشر ، بيروت ، لبنان ، د .ت .ط .
4- سايمنتن ، دين كيث ، 1993 ، العبقرية والابداع والقيادة ، ترجمة : د. شاكر عبد الحميد ، المجلس الوطني للثقافة والفنون والاداب ، الكويت ، سلسلة عالم المعرفة ، ع 176 .
5- وهو من مؤلفاته قيد النشر .
6- د. الحفني ، عبد المنعم ، 1995 ، المعجم الموسوعي للتحليل النفسي ، مكتبة مدبولي ، القاهرة ، جمهورية مصر العربية ، ط1 ، ص 77 .
7- راجع رمزيته في معجم الرموز للدكتور خليل احمد خليل ،منشورات دار الفكر اللبناني ـ بيروت ، لبنان ، 1995 ، ط1 ، ص 133 .
8- د. خليل ، المصدر السابق ، ص 80 .

تعليقات الفيسبوك

شاهد أيضاً

| نصير عواد : حضور الجنس وغياب الحب في رواية “الحُلْو الهارب إلى مصيره” .

 نمهّد بالقول ان الرواية العراقيّة لم تعرف عملا روائيّا انشغل بالقتلة والعاهرات والمثلييّن والغلمان واللواطييّن …

حــصــــرياً بـمـوقـعــنــــا
| أحمد خيري : الكتابة وفضيلة أن نكون اجتماعيين “قراءة في كتاب اعترافات بلا كمامات” .

قد يكرّس المثقّف موهبته لحملِ رسالةٍ ما، أو تمثيلِ وجهة نظرٍ ما، أو موقفٍ ما، …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *