قاسم طلاع: أوكتافيو باث

من الأصفر إلى الأحمر ثم الأخضر
إلى هناك حيث الضوء،
في دوامة زرقاء تظهر الكلمة.

اوكتافيو باث المولود في  الحادي والثلاثون من شهر مايس عام 1914 هو كاتب مكسيكي يعتبر واحد من أشهر من كتب الشعر والمقالة الأدبية في تاريخ الأدب المعاصر. صار معروفا عندما صدر له عام 1950 كتابه متاهات العزلة ” Das Labyrtinth der Einsamkeit ” هذا الكتاب الذي ترجم إلى أكثر لغات العالم لا زال أكثر الكتب قراءة.
بعد أن أنهى دراسته الثانوية التحق بجامعة المكسيك لدراسة القانون والفلسفة. في السابعة عشر من عمره أسس مجلة أدبية ( 1931 ) بعدها بسنتين أي في التاسعة عشر من عمره صدر له أول ديوان شعري ” Luna Silvestre ” قوبل بإعجاب من قبل نقاد الأدب. في عام 1936 سافر إلى اسبانيا بدعوة لحضور اللقاء العالمي للكتاب ضد الفاشية مساندة للجمهورية الاسبانية التي كانت في حينها تعاني من الحرب الأهلية وبقى هناك حتى عام 1939 تعرف خلالها على الشاعر بابلو نيرودا  وعلى فاليو جيزار  Vallejo Cesar، وعلى ميغويل هيرناندس  Miguel Hernandez، الذي لقي حتفه في واحدة من سجون الدكتاتور فرانكو وقد نعاه باث بكلمة مؤثره. وفي طريقه إلى المكسيك، بعد خروجه من أسبانيا، عبر فرنسا حط رحاله في باريس وتعرفه على رموز السريالية حينذاك. عند عودته إلى المكسيك عمل في صحف الحركة العمالية ( 1939 ـ 1943 ) وفي هذه السنة أنهى كل علاقة كانت له مع الحزب الشيوعي المكسيكي احتجاجا على اتفاقية عدم الاعتداء التي ابرمها ستالين مع هتلر في الحرب العالمية الثانية ووجهة نظره حول  الواقعية الاشتراكية في الأدب، التي أثرت على علاقته مع الشاعر بابلو نيرودا، أيضا، الذي كان في ذلك الوقت قنصلا لبلاده ( تشيلي ) في المكسيك وكان اوكتافيو في حينها قد أظهر تعاطفه مع الحركة التروتسكية. إلا أن أهم حدث كان بالنسبة له، في تلك الفترة هو لقائه مع الحركة السريالية، التي كان أقطابها قد اختاروا المكسيك ملجأ لها أثناء الحرب العالمية الثانية، فكان لقائه مع كل من أندريه بريتون وبنيامين بيريت وآخرون وكان يشارك بين حين وآخر في نشاطات هذه الحركة بحيث تركت بصماتها في بعض مما كتبه خصوصا في الخمسينيات من القرن الماضي وعمقت تجاربه الشعرية.
وكان انخراطه في السلك الدبلوماسي قد مهد له الطريق للتعرف على أكبر ثقافتين خارج المنظومة الغربية، الأولى هي الثقافة اليابانية عندما كان سفيرا لبلاده هناك بعد النصف الأول من القرن العشرين حيث انكب على دراسة الشعر الياباني وخصوصا أل ” الهايكو ” إلى جانب الأشكال الأخرى من فن الشعر، التي كانت قد أثارت إعجاب الشاعر المكسيكي خوزيه خوان تابلادا Jose Juan Tablada ، وكان باث قد خصص الكثير من كتاباته حول هذا الشاعر، التي توجت في الآخر بإصدار ديوان يضم مجموعة قصائد لمجموعة من الشعراء حمل عنوان ” Renga ” ( 1972 ) بصياغة أسبانية متكاملة، كون أن ” Renga ” واحد من أكبر القوالب الشعرية اليابانية والتي لها ارتباط مباشر مع فن أل ” الهايكو “. أما فيما يخص الثقافة الهندية فقد كان يعرف عنها الكثير قبل وصوله إلى الهند كسفير لبلاده، لهذا نرى أن المؤثرات الهندية أكثر وضوحا وعمقا من اليابانية، وكان ديوان ” Ladera esta ” الذي صدر عام 1968 باكورة مؤثرات هذه الثقافة الذي ضم  نصوصا كانت قد كتبت في الهند، أفغانستان  وسيلان ( سيريلانكه )، والتي عكست بوضوح مؤثرات التاريخ والثقافة والأسطورة، التي كان باث قد بدأ بقراءتها منذ بداية الستينيات من القرن الماضي حول الحضارة الهندية.
استقال من منصبه كسفير لبلاده ( 1968 ) في الهند احتجاجا على المذابح التي قامت بها الحكومة المكسيكية آنذاك ضد مظاهرات الطلبة في العاصمة المكسيكية، وبقى بعيدا عن بلده متنقلا بين بلد وآخر محاضرا في الشعر ( 1968 ـ 1970 ) ـ انكلترا في جامعة كامبردج( Cambridge ) وفي الولايات المتحدة الأمريكية جامعة أوستن/ تكساس ـ ، ولم يعود إلى المكسيك إلا بعد مرور سنتين على هذه الحادثة على أثر انتخاب رئيس جديد للمكسيك وإطلاق سراح السجناء السياسيين، وكان أول نشاط ثقافي قام به بعد هذه العودة تأسيس مجلة ” Plural ” التي انتشرت بسرعة وأصبحت واحدة من أهم المجلات الأدبية في قارة أمريكا الجنوبية آنذاك وبقى مديرا لها حتى عام 1976 ومتنقلا، ضيفا محاضرا، بين جامعة هارفارد وجامعة كاليفورنيا في سانتياغو ابتداء من عام ( 1971 ـ 1974 ) حيث عاد ثانية إلى المكسيك.

منح أوكتافيو الكثير من الجوائز الأدبية كان أهمها جائزة ( Miguel Cervantes ) صاحب الرائعة ” دون كيشوت ) وجائزة السلام للكتاب الألماني وكانت أهم الجوائز التي منحت له هي جائزة نوبل في الأدب، التي حصل عليها عام 1990 تقديرا للنصوص الشعرية ( الطويلة ) التي حملت عنوانا ” البحث عن وسط” وهي قصائد ثلاث ( أو ثلاثيته المشهورة ) حملت العناوين التالية: حجر شمس، أبيض، Von der Kladde zur Klarheit، كتبها في فترات زمنية مختلفة وقد قارنها الكثير من نقاد الأدب بما كتبه ت.س. اليوت من قصائد.
مات اوكتافيو باث في العشرين من شهر نيسان عام 1998.

ليلة مؤرقة

في الساعة العاشرة مساء في المقهى الانكليزي
لم يكن غيرنا نخن الثلاث
هناك
في الخارج تسمع خطوات الخريف الرطبة
خطوات عملاق أعمى
خطوات غابة متجهة صوب المدينة
قادمة من الضباب
بآلاف من الأذرع وآلاف من الأرجل
وجه من بخار إنسان دون وجه
الخريف يزحف إلى قلب باريس
بخطوات أعمى واثقة
شيء ما في حركة يقترب إلينا
قال واحد منا

الناس يسيرون في الشارع الكبير
بعضهم ينتزعون وجوههم خفية
صخور منها ينساب الزمن
بيوت مترامية الأطراف عظام في غرف
صلدة
آه عظام لازالت تعاني من ألحمة
عاهرة جميلة مثل البابا
تعبر الشارع
تختفي
في جدار له لون الخضرة
يعاد غلقه من جديد
كل الأشياء أبوابا
يكفي ضغطا بسيطا للأفكار
وتكون الحياة أمامك
شيء ما في حركة يقترب إلينا
قال واحد منا
تمر الدقائق
قرأت الإشارات على جبين هذه اللحظة
الأحياء على قيد الحياة
يسيرون يطيرون يسقطون يتحطمون
الأموات أحياء
تطاردهم الرياح هنا وهناك تفرقهم
عناقيد العنب تتساقط في أحضان الليل
المدينة تفتح صدرها مثل قلب
مثل زهرة ثمرت التين
في حنين
حنينا بعد غياب
شيء في حركة يقترب إلينا
قال الشاعر

حياة معروفة

برق أم سمك
في ليل البحر،
وثمة طيور وبرق
في ليل الغابة.

العظام برق
في ليل الجسم.
آه أيها الغابة، كل شيء ليل
والحياة برق.

استمرار

I

سوداء هي السماء
صفراء هي الأرض
صياح الديك يمزق الليل
الماء ينهض ويسأل عن الساعة
الهواء ينهض ويسأل عنك
حصان أبيض يمر

II

مثل غابة في فراشها من الأوراق
تنامين أنت في فراشك من المطر
وتغنين في فراشك من الرياح
وتقبلين في فراشك من ومضة ضوء

III

روائح لا تحصى عنيفة
أجسام مع أيدي كثيرة
على نبتة غير مرئية
لون واحد أبيض
لا غير

IV

تكلمي أصغي السمع أريد جوابا
ما يقوله الرعد
تفهمه الغابة

V

ادخل عبر عيونك
تخرجين من خلال فمي
تنامين في دمي
استيقظ على جبينك

VI

سأتحدث معك بلغة الحجر
( تردين علي بمقطع كلاما أخضر )
سأتحدث معك بلغة الثلج ( الجليد )
( تردين علي بمروحة من النحل )
سأتحدث معك بلغة الماء
( تردين علي بزورق من وميض برق )
سأتحدث معك بلغة الدم
( تردين علي ببرج من الطيور )

جسمان

جسمان وجه لوجه
يكونان أحيانا موجتين،
والليل يكون بحرا.

جسمان وجه لوجه
يكونان أحيانا حجرا،
والليل أرض مقفرة.

جسمان وجه لوجه
يكونان أحيانا جذورا،
في الليل يتشابكان.

جسمان وجه لوجه
يكونان أحيانا سكينة،
والليل ضوء برق متألق

جسمان وجه لوجه
يكونان نجمتين، يسقطان
في سماء فارغة.

هنا

خطواتي في هذا الشارع
صدى
في شارع آخر
حيث
اسمع خطواتي تسير عبر هذا الشارع
حيث
لا يكون غير الضباب حقيقة.

غيوم

انظر… تطلع إلى الجزر البيضاء في السماء
انظر… تطلع إلى الريش الأبيض لطيورها،
كيف تطير بين ضفائر جليدية،
انظر، كيف تبحر وتمضي،
كطيف أرخبيل عابر.

جزر السماء، ليس إلا نفحة تتأرجح
في نفحة
ـ بقدم خفيفة، خفيفة مثل الهواء
هناك تطأ  الساحل، لا تترك غير اثر
شبيه بظل الرياح فوق الماء!

ومثل الهواء بين الأوراق
تضيع ( الغيوم ) في فروع من البخار
وكما هو الهواء غير شفاه دون جسد،
جسد دون وزن، قوة دون ضفاف!

Trowbridge Street

1

الشمس وسط النهار
البرد وسط الشمس
شوارع خالية
عربات واقفة
الثلوج لازالت غير موجودة
ريح تهب ريح
شجيرة حمراء
لازالت تحترق
في ريح قارصة
أتحدث معها في ذات اللحظة التي أتحدث فيها معك

2

أنا في غرفة مقطوع عن اللغة
أنت، مثلي أنا، في غرفة أخرى
أو كلانا
في شارع، ذلك الذي عبر نظراتك مقفرا من المكان
في غفلة
ينهار العالم
ذكريات
مشتتة تحت خطواتنا
أتعثر في وسط هذه السطور
التي لم تكتب

3

الأبواب تفتح وتغلق لذاتها
الهواء
يدخل في بيتنا ويخرج
الهواء
يتحدث مع نفسه في ذات اللحظة التي يتحدث هو معك
الهواء
دون اسم في طريق لا نهاية له
غير معروف من يكون على الجانب الآخر
الهواء
يدور ويدور في راسي الفارغ
الهواء
يجعل كل شيء يلمس هواء
الهواء
بإصبع من الهواء يبعثر ما أقول
أنا هواء ذلك الذي لم تعد تنظر إليه
لا أعرف كيف أفتح عينيك
أو أغلق الباب
الهواء صار قويا.

4

الساعة تأخذ شكل الراحة
الراحة تأخذ شكلك
أنت مثل شكل الينبوع
ليس من ماء وإنما من زمن
فوق منبع نافورة الضوء
تتقافز أجزاء مني
كنت ـ أنا، أكون ـ أنا، أنا ـ لا زلت غير موجودا
حياتي لا وزن لها
الماضي يتبخر
المستقبل قليل من الماء في عينيك

5

الآن تأخذ شكل الجسر
تحت قوسك تبحر غرفتنا
من عند حاجزك نرى أنفسنا نمر
وأنت تتماوج في الريح مثل ضوء
على الشاطئ الآخر تنمو الشمس
معكوسة
جذورها مدفونة في السماء
ونحن بإمكاننا أن نخفي أنفسنا بين أوراقها
من فروعها نصنع لنا موقدا للنار
النهار صالح للسكن

6

البرد يترك العالم يتجمد
المكان من زجاج
الزجاج من الهواء
مجرد صوت خافت يصنع
فجأة كثير من التماثيل
يضاعفها الصدى ويفجرها
ربما ستسقط الثلوج حالا
وترتعش الشجرة المحروقة
والليل يلتف حولها
في اللحظة التي أتحدث معها أتحدث فيها معك.

تعليقات الفيسبوك

شاهد أيضاً

| كريم عبدالله : كلّما ناديتكِ تجرّحتْ حنجرتي.

مُذ أول هجرة إليكِ وأنا أفقدُ دموعي زخّةً إثرَ زخّة أيتُها القصيدة الخديجة الباهتة المشاعر …

| آمال عوّاد رضوان : حَنَان تُلَمِّعُ الْأَحْذِيَة؟.

     مَا أَنْ أَبْصَرَتْ عَيْنَاهَا الْيَقِظَتَانِ سَوَادَ حِذَائِهِ اللَّامِعِ، حَتَّى غَمَرَتْهَا مَوْجَةُ ذِكْرَيَاتٍ هَادِرَة، …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *