ناطق خلوصي : تجليات ذاكرة الحرب في ” تراتيل العكاز الأخير “

natek 4يصح القول بان أفضل ما يكتب عن الحرب ـ أية حرب ـ وأكثره اقترابا ً من الحقيقة ، هو ذلك الذي يظهربعد أن تضع تلك الحرب أوزارها حيث يهدأ الفكر وتصفو الذاكرة لينساب خزينها بمعزل عن هدير القصف ودوي الانفجارات ورائحة الدم ودخان الحرائق ، وبعيدا ً عن انفعال العاطفة الآني . ومن الواضح ان الأحداث الكبيرة تترك بصماتها على وعي المبدع ولا وعيه معا ًفتختزن ذاكرته من تفاصيلها ما يظل في انتظار لحظة التفجر، التي قد تأتي متأخرة ًأحيانا ً ، لتأخذ طريقها الى ما يكتب .
ما من حدث كبير مثل الحرب يترك بصماته على المبدع لاسيما حين يعايشها ميدانيا ً أو يكون قريبا ً منها . فليس غريبا ً إذن أن يقع القاص والروائي ” محمد علوان جبر” تحت سطوة ذاكرة الحرب العراقية ــ الايرانية على الرغم من مرور أكثر من ربع قرن على انتهائها ، لتأتي مجموعته القصصية ” تراتيل العكاز الأخير ” وهي تحمل رائحة تلك الحرب وبصماتها، فأين تكمن لحظة تفجر الكامن في ذاكرة الحرب لديه ؟
لقد كانت تلك الحرب فاتحة حروب ما زالت أهوالها ومواجعها ومآسيها تلاحق العراقيين حتى الوقت الراهن ، وبالتالي فإن في أجواء الحرب التي يعيشها العراقيون الآن ما يتوفر على أكثر من عامل لتحفيز ذاكرة المبدع لاستذكار تفاصيلها واسترجاع أحداثها لاسيما حين يكون شاهدا ً على تلك الأحداث وهو ما حصل لمحمد علوان جبر .
تضاف هذه المجموعة ، التي صدرت عن ” دار ومكتبة عدنان ” مؤخرا ً، الى مجموعات القاص الثلاث : ” تماثيل تمضي .. تماثيل تعود ” و ” تفاحة سقراط ” و ” شرق بعيد ” فضلا ً على روايته الأولى ” ذاكرة أرانجا ” . وهي تقع في مئة صفحة من القطع المتوسط وتضم ثلاث عشرة قصة قصيرة سنتوقف هنا عند عدد منها .
أزعم ان أقرب الناس الى نفس المقاتل في زمن الحرب أمه وزوجته، فليس غريبا ً أن يهدي القاص هذه القصص المسحوبة من زمن الحرب الى شريكة حياته فيقول : ” الى سيدة القلب وأيقونة المسرات . الى .. من شاطرتني .. الحلم والألم والأمل والاشراق . اليك يا سيدة هذه الحكايات .. اليك دون غيرك أيتها الروح التي لا تتكرر . ” مثلما يهدي خمسا ً من قصصه الى أسماء قريبة من نفسه على ما يبدو .
mohammad alwan 9تستهل المجموعة بقصة ” حافرو الخنادق ” التي تتناول عملية التمهيد للحرب ( وهي أقصر قصص المجموعة ) وكأن القاص أراد بهذا التمهيد الأولي أن يهيىء ذهن القارىء لاستقبال القصص التالية التي تشكل الحرب جوهر مضمونها في الغالب وإن جاء ذلك بشكل غير مباشر في عدد من القصص . ويتجلى البعد الانساني في قصص المجموعة كلها ، لكنه يتمثل بشكل خاص في قصة ” تراتيل العكاز الأخير ” التي تحمل المجموعة عنوانها عنوانا ً لها ، لخصوصيتها التي تمنحها مثل هذا التميز ، وهي واحدة من أجمل قصص المجموعة وقصص الحرب معا ً وأكثرها اكتنازا ً بالتعبير . ويلاحظ ان القاص يحرص على صياغة عناوين ذات ايقاع خاص ومتميز لقصصه : ” ضوء أزرق أسفل الوادي ” ، ” صهيل العربة الفارغة ” ، ” دخان المظلة ” ، ” غبار حلم آخر ” ، ” جسر الملائكة ” و ” مطر بلون الرثاء ” ، وهي صياغات تميل للتجريد .
على الرغم من كون قصة “تراتيل ” قصيرة فانها كبيرة في معناها ومحتواها ودلالاتها والايحاءات التي تومىء اليها , وهي تنمو بهدوء آسر ولكنه شديد الإيلام .أعترف بأنني قرأت هذه القصة أكثر من مرة ليس تعبيرا ً عن اعجابي بها حسب ، وإنما أيضا ً بسبب الرغبة في استبطان ما تخبئه بين طيات سطورها من دلالات ، فوجدت انها ترتكز على مبدأ الحلول أو التناسخ أساسا ً . بطلة القصة أرملة رجل رحل قبل سنة وكان قد فقد ساقه اليسرى في الحرب فتم تعويضه بطرف صناعي ظل يتعايش معه سنوات طويلة . تفاجأ الأرملة بمجيء صديق لزوجها كان هو الآخر قد فقد ساقا ً في الحرب وتم تعويضه بطرف صناعي ، فيطلب منها الساق التي تحتفظ بها تذكارا ً ماديا ً هو آخر ما تبقى من زوجها الراحل ما يلبث أن يستحيل الى هاجس روحي يذكرها به : ” أمضيت الليلة الأولى والليالي الأخرى التي أعقبت رحيله ، وأنا أمسك الشيء الوحيد الذي تبقى منه. كنت أشعل الشموع وأركن طرف الساق اليسرى دون أن أنزع الحذاء الجلدي الأسود الذي كنت أديم مسحه جيدا ً قبل أن أجلس قبالة الشمعة والساق … ” ويبدو واضحا ً لمن يقرأ هذه القصة كأن روح الزوج الراحل قد حلت في جسد صديقه : ” جلبت له ماءا ً ، ودون أن يستأذنني أخرج علبة سكائر من نفس النوع الذي كان يدخنها زوجي .. نفث الدخان بالطريقة ذاتها، كدت أمنعه من مواصلة التدخين ، لولا النبرة ذاتها التي كان يديم فيها طلبه الملّح ” وهي ترى شبها ً كبيرا ً لوجه الرجل بوجه زوجها الراحل وفي طريقة كلام كل منهما . وتظل أسيرة ذكرى زوجها الراحل ولفرط تعلقها به فانها تتعامل معه كأنه ما زال حيا ً من خلال اهتمامها بالطرف الصناعي الذي خلّفه وراء وظل صلة ارتباطها معه : كائن مادي ما يلبث أن يستحيل الى هاجس روحي يعايشها ولا يغادر ذاكرتها حتى عندما طلب الرجل الطرف الصناعي منها : ” لكني قاطعته لأوقف شلال الذكريات التي بدأت تتدفق عبر كلمات يخرجها بصعوبة كما كان يفعل زوجي حينما يكون حزينا ً , ” ويظل تشبثها بذكرى زوجها قائما ً حتى بعد موافقتها على اعطاء الطرف الصناعي للرجل : ” وكم تمنيت أن أخبره بأن نتفق على أن يعيدها إليّ لتبقى معي ليلة في الشهر على الأقل . “. لقد كانت تغطي الطرف الصناعي بشرشف أبيض يبدو مثل كفن في ايماءة الى موت الزوج ولكن حرصها على وضع الطرف الصناعي على السرير يومىء الى اعتقادها بأنه ما زال حيا ً ، وانها رأت في صديقه بديلا ً له وقد أفصحت عن رغبتها فيه كما لو انها ترغب في زوجها الراحل وتتوق اليه ، فها هو صوتها يحتد محتجا ً على صديق زوجها ، حين قال انه جرب طرف زوجها الصناعي ووجده kh mohammad alwan 5ملائما ً له وانه قاده الى بيتها دون تخطيط مسبق منه : ” وما الضير في أن يقودك الطرف كل يوم الى بيتي ؟ ” ليتجلى مبدأ الحلول بأجلى صوره هنا .. ان هذه القصة مفعمة بالرموز ودلالتها الموحية . ففي اشارتها الى توقف مركز تأهيل الجرحى عن منح الأطراف الصناعية ما يومىء الى توقف الحرب ، لكن في وجود كوم الأطراف الصناعية تحت شجرة السدر ما يومىء الى ان آثارها الموجعة تظل قائمة ً حتى بعد انتهائها . ولشجرة السدر التي تكوم الأطراف الصناعية تحتها دلالتها الخاصة . فهي ليست محض شجرة مثل أية شجرة أخرى ، فثمة اعتقاد بأنها شجرة مقدسة . يقول الرجل : ” وفي أغلب الأحيان تنبعث من الشجرة رائحة نعرفها ، تخترقنا بسرعة ونبقى طوال ساعات ونحن نعب من تلك الرائحة التي تقودنا الى أماكن قصية .. تبقى ملتصقة بأجسادنا المتعثرة .. رائحة لا تشابهها رائحة أخرى . ” ويرتبط بدلالة الشجرة الموحية وجود “حمامات بيض يحلقن قريبا ً من رجال بأطراف صناعية ” ، الحمامات التي ظلت تلاحقها وهي في غرفة نومها : ” تمددت على السرير وأذناي تلتقطان أصوات هديل حمامت وخفق أجنحتها وهي تقترب من شباك غرفتي تخترقه بسهولة لتحط قريبا ً مني وبعضها يحط على جسدي ” في ايماءة الى الرغبة في السلام التي اعتمد القاص الحمامات البيض رمزا ً له . ورغم ان القاص حاول التعتيم على أحداث الحرب المباشرة فإن ذاكرة الحرب تمردت عليه في هذه القصة فيقدم مشهدا ً يشي ببشاعة الحرب من خلال صوت الرجل : ” صدقيني نكاد نشم رائحة الدخان الذي يتصاعد من الأماكن التي تتزلزل فيها الأرض ، وكيف كنا نتطاير قبل أذرعنا وسيقاننا ” .
ويتواتر حضور الحرب في قصص أخرى من المجموعة مثل” ضوء أزرق أسفل الوادي ” التي تنطوي على صفحات من دفتر مذكرات أيام الحرب . يعرض المقاتل فخري على أخيه الذي يكبره سنا ً دفترا ً باللغة الفارسية كان قد عثر عليه في ملجأ ايراني في ظل تبادل المواضع بعد توقف القصف ” الذي استمر ليوم كامل ولم يبق على شيء” ويطلب اليه أن يترجم ما فيه فيجد نفسه ” منساقا ً مع الكلمات التي تبتر لتبدأ تحتها تخطيطات صغيرة عصية على فهمي ، عدا بعض اللوحات التي تشبه الرموز أو وجها ً بشريا ً بدا الرعب واضحا ً عليه ، أو نارا ًتتصاعد من جبل معتم ” ،وفي هذا الخليط من الرسوم والكلمات ما يفصح عن حالة القلق والتوتر التي يعيشها صاحب الدفتر في ظل القصف . انه يخاطب حبيبته البعيدة عنه ويلخص وجهة نظره عن الحرب من خلال ذلك” حبيبتي … لا شيء أقسى من الحرب . أكاد أسمع نبضات قلبك . أحسك أقرب الي من وحشة الجبل ، المرارات كلها تجتمع هنا ، هم بقصفون ونحن نفصف .. هكذا الى ما لا نهاية .” ويبدو واضحا ً تعاطف المقاتل العراقي مع غريمه لأنه يحس بأن محنتهما مشتركة وما يصفه صاحبه من أهوال الحرب ليس غريبا ً عنه هو أيضا .
أما قصة ” صهيل العربة الفارغة ” فهي من تجليات ذاكرة الحرب هي الأخرى : قصة قائمة على الاسترجاع ، حيث يسترجع بطلها أيام الحرب عندما كان مقاتلا ً ، فتشكل مشاهدة المحطة العالمية ، التي يمر بها الآن ، عامل استفزاز لذاكرته عندما كان يستقل القطار الذاهب الى البصرة للالتحاق بوحدته المقاتلة ، فتركض ذاكرته سنوات الى الوراء ويرى نفسه في المحطة العالمية من جديد : ” وكما داهمته رائحة الأشجار ، داهمته الصور الضاجة …….. سفره الطويل الموحش بعد انتهاء الاجازة كان يبدأ من هنا ” ، فتبدو له عربات القطار مثل نعوش حديدية ، ووسط حالة الغليان النفسي التي يمر بها تنبعث صورة أمه لتكون معادلا ً لتأزمه فهو يعرف انه في طريقه الى مجابهة الموت فـ ” اللواء الذي هو ذاهب اليه يعسكر في البصرة وهو يشترك الآن في معركة شرسة كما سمع من الراديو والجنود في المحطة قبل أن يتحرك القطار . ” كل هذه العوامل استفزت روح الرفض في داخلة ليؤججها ما قالته له الشابة التي كانت تجلس الى جواره : ” لماذا تذهب إذن ؟ ” وحرضته للعودة الى بيته . فاتخذ قراره الحاسم : ” هبط من القطار، وعبر الى الجهة المقابلة حيث يقف في مكان قريب من بوابة الخروج ، القطار العائد الى منطقة العلاوي في بغداد ” ليصل بذلك الى ذروة موقفه الرافض للحرب .
حقا ً ان قصص ” مجموعة تراتيل العكاز الأخير ” جديرة بالإعجاب !

تعليقات الفيسبوك

شاهد أيضاً

| مهند النابلسي : سينما ارتجالية وشهرة مجانية وشخصيات سطحية:وصف دقيق لتحفة ترفو”الليلة الأمريكية”-1973/الفيلم الفائز باوسكار أفضل فيلم أجنبي لعام:1974 .

*يلعب Truffaut نفسه دور مخرج سينمائي يُدعى Ferrand ، الذي يكافح ضد كل الصعاب لمحاولة …

| عبدالمجيب رحمون : كيف نتواصل بالحكي؟ أو الرواية والحياة عن رواية “عقد المانوليا”

لماذا نقرأ؟ وكيف نقرأ؟ هذان السؤالان الإشكاليان اللذان طرحهما الناقد الأمريكي “هارولد بلوم” لم يكن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *