محمود سعيد : كاتارزينا بلازينسكا تغوص في أعماق تاريخنا لتضيئ لنا صفحة مجهولة لدينا

mahmood saeed 6هزم الصينيون في معركة حاسمة “طالاس” 751 م واستقر الوضع للإمبراطورية لعباسية في بلاد ما وراء النهر، ووقع كثير من الأسرى الصينين بيد العرب، فكشفوا لهم أسرار صناعة الورق لقاء إطلاق سراحهم. حينذاك اقاموا أول معمل للورق في سمرقند “أوزبكستان الحديثة”. وكانت معظم دول أوربا تستعمل الجلود المدبوغة، إلا دولتا رومانية وبيزنظة فقد كانت تستعمل البردي المستورد من مصر، وكذلك شأن الدولة الأموية. حيث اعتاد التجار جلبه من مصر من عهود غابرة.
ظهر البردي في زمن الفراعنة، وكان اختراعاً مهماً جداً فقد استغل المخترع الفرعوني وجود البردي الكثيف في المستنقعات الهائلة في الفيوم والدلتا، ويعزى نجاح الفراعنة في تصنيعه لتوافر المواد الأولية عندهم، إضافة إلى حذقهم في الصناعة، وبذلك احتكرت مصر الفرعونية إنتاج اللفائف الورقية من نبات البردي ، فقد ذكر المؤرخ ابن ظهيرة في ” محاسن مصر ” أن هناك مصنعاً مهماً في مدينة أسيوط لتصنيع البردي، حسب رغبة الزبون، وأن المصنعين تفننوا في تصنيعه، وحسب مؤرخ آخر أنهم كانوا يصنعون سبعة أنواع منه.
في أحد المتاحف المصرية يوجد كتاب لحديث الرسول محمد “ص” مكتوب على البردي منسوب لابن وهب الفهري المولود سنة 125 هـ ، ولعل ذلك أقدم كتب الحديث. كان البردي غالياً ومكلفاً، ويحتاج إلى وسائط لنقله، لكبر حجه، لذلك فقد جزءً من اهميته عندما انتقل الكتاب إلى استعمال الورق.
katarzinaعندما رأى المنصور فوائد استعمال الورق، قرر قصر المراسلات الرسمية عليه، ولبعد المسافة بين سمرقند وبغداد، فقد بادر الفضل بن يحيى البرمكي في خلافة الرشيد سنة 178 هـ ـ سنة 794 وزير الخليفة هارون الرشيد إلى إقامة مصنع للورق، يقوم على استعمال القصب والقنب وشعر الخيل والألياف، ثم الخرق، ولترقيق عجينة الورق فقد اضطروا لاستبدال الـ”هاوانات الصينية” الثقيلة بالطواحين التي تديرها الحيوانات، أو التي تعمل على انحدار مياه الأنهار، وأثمرت جهودهم في ترقيق العجينة حداً كبيراً، فأنتجوا ورقاً خفيفاً مقاوماً للرطوبة، وأصبح للورق البغدادي آنذاك شهرة عالمية، ثم اخترعوا حبراً فريداً مقاوماً للماء والرطوبة أيضا، ما يزال اسمه العلمي الحبر العربي. ثم انتقلت صناعة الورق إلى مصر 900، ثم إلى فاس، حوالي 1100 ولخفة الورق العربي وميزاته كان انتشاره أشبه بثورة علمية عظمى فقد كتبت فيه ملايين الكتب في العهد العباسي، ولولا قيام الطابور الخامس التابع لهولاكو بإتلاف الكتب لكنا شهدنا الآن ما لا يحصى من هذه الكتب، ثم أصبح متيسراً لكل من يروم الكتابة، فقد عجب رحالة فارسي من سعره الرخيص عندما ذكر أن الباعة يلفون الفاكهة وكثيراً من بضاعتهم بالورق. وهذا ما كان سائداً في العراق في الأربعينات والخمسينات.
مع الأسف لم يهتم معظم الكتاب والباحثين في موضوع الورق الإسلامي، وأهملوا التطرق لدراسة هذا الموضوع المهم، فغيبوه كما أهملوا مئات الموضوعات خطيرة الشأن في تراثنا، وثقافتنا، غير أن إهمالنا لقضايانا وحضارتنا لا يعني موت أخبار تلك الحضارة قط، فموضوع صناعة الورق العربي على سبيل المثال أثار اهتمام شابة بولندية تدرس في الولايات المتحدة هي كاتارزينا بلازينسكا تدرس في جامعة أيوا، حصلت على جوائز في مهرجانات سينمائية عديدة مثل آن أربور السينمائي، وهي عضو في مركز لينكولن.
ركزت كاتارزينا بلازينسكا على توجيه الضوء إلى هذا الموضوع الذي لم يثر اهتمام العرب والمسلمين الآن، وظل مجهولاً عند أمم أخرى كثير. استطاعت هذه الشابة أن تعيد عقارب التاريخ لتصور لنا بعض تقاليد صناعة الورق الإسلامي، قبل أن تخترع الوسائل الميكانيكية للطباعة. وكيف يصبح صحيفة أولية ومن هذا الفلم القصير الذي اختلط في عنصرا الوثائقي والخيالي نستطيع أن ندرك كيف كان يعاني صانع الورق العربي وكيف يتحرك جسده كله، لينتج ورقاً صالحاً للكتابة.
إنني أحيي من كل قلبي كاتارزينا بلازينسكا، هذه الشابة الرائعة، وأتمنى لها التوفيق، ولابد أن نسمع عنها في المستقبل بعد رؤية أفلام واعدة اخرى.كاتارزيتا

في الصورة العليا عملية صقل الورق بالحجارة وفي الصورة التحتية صورة الورق قبل التقطيعكاتارزيتا 2

د

تعليقات الفيسبوك

شاهد أيضاً

| عبدالمجيب رحمون : كيف نتواصل بالحكي؟ أو الرواية والحياة عن رواية “عقد المانوليا”

لماذا نقرأ؟ وكيف نقرأ؟ هذان السؤالان الإشكاليان اللذان طرحهما الناقد الأمريكي “هارولد بلوم” لم يكن …

| د. شعبان عبد الحكيم محمد : النص الطازج والقصة القصيرة الشعر قراءة فى مجموعة ” حواس زهرة نائمة ” لسامية غشير.

صدر للدكتورة سامية غشير أول مجموعاتها القصصية ” حواس زهرة نائمة ” عن دار النشر …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *