إشارة :
في الثاني والعشرين من شباط وعلى مشارف مدينة سامراء المقدّسة في محنة العراق المعروفة آنذاك ، سُفح دم الشهيدة الصحفية العراقية (اطوار بهجت) لتكون قرباناً لعذابات شعب وآلام أمّة . الرحمة على روحها في عليين .
المقالة :
تداولت بعض المواقع الإلكترونية رواية لمراسلة قناة العربية الزميلة أطوار بهجت التي أغتيلت مع زميليها عدنان خير الله وخالد محمود الأسبوع الماضي بينما كانوا يغطون تداعيات تفجير قبة مزار شيعي في سامراء يوم الاربعاء.
وجاءت الرواية التي لم تسمح لها يد الغدر أن ترى النور في حياة الزميلة أطوار، بعنوان “عزاء أبيض أو ليلة وأد بغداد” وحملت الكثير من الشجن في مقاطعها التي رصدت خسارة الوطن وخسارة الحبيب في آن واحد وكأنها استشرفت الموت.
تقول الزميلة أطوار في إهدائها في بداية الرواية “إلى الذي تمنى بدايتي وانتهى قبل أن أبدأ.. أبي.. إلى التي لا تستحق عقوقي أبدا.. أمي.. وإلى أبي الهول.. أصخب صمت عرفته… إليك فقط.. بشّر غرورك بالشوق”
وتقول الكاتبة في تمهيدها للرواية “لن أكذب لو سئلت عن هذه الرواية.. لن أدّعي أنك لم توجد في حياتي، وأني امرأة تجيد ابتكار الرجال كما تجيد الجراحُ ابتكارها.. لن أقول إني اخترعتك لأجل الأدب فقد كنت مؤمنة بأن الكون اخترع الأدب إكراما لحروف اسمك.. يا سيدي، لن أكابر فطمئن نزقك. هاأنا ذا وعلى الملأ أعلن أني ما عشت حياتي إلا لك، أبدا أنت الحقيقة الأمر فيها وأنت الحلم الأحلى. سأعترف أمامهم بأنك من هجرني، وأنك من استلبني حد الكرامة، وأنك من أحببته للموت وما أحبني. مشكلتي أبدا أن الكلمات فضيحتي، ومشكلتها أنك فضيحتها الأجمل. لا أدري إن كنت مازلت أحبك، لكن لا أنكر توقي لصوتك، ولهي بعطرك، حنيني لشِعرِكَ..أجل، أفتقدك رغم النزيف، ليس لأني امرأة لا تقوى على الفراق، بل لأنك رجل لا يقوى الفراق عليه، رجل بخيره وشره لا يمرّ عابرا أبدا.. حنين 11-12-2004”.
وفي التقرير التالي نورد مقاطع من رواية أطوار بهجت :
(1)
أكان ذلك ذات حلم أم ذات كابوس؟؟.. لا أدري.. بدأ الأمر لحظة قررتُ أن ألقي بنفسي في لجّة كفيك لتتلاقفني خطوط القدر وتلفظني حطاماً على شواطئ الأسئلة. كم سنة من الحزن أحتاج لتذكر عام ونصف، وكم نهراً من الدمع سيلزمني لأبكي دجلة والفرات؟! كم كفاً أريد لأبدد حشود الضباب التي تئد عيني كلما حاولتُ استعادة صور تلك اللحظات.. دبابات تسعى فوق جسد روحي، ووطن خنقته الخيبات فما عاد يملك لحظتها حتّى أن يستغيث، وتمثال أرادوا له أن يختصر بلاداً عرضها النخيل والوجع. صراع الحديد مع الحديد طال، وفاتح العصر الجديد تسلق قمّة الهزيمة العربية ليعقل الرأس الحديدي بعلم بلاد الكاوبوي بعدما لم يجد له عقالا في أمته.. كل الكاميرات اتجهت نحو المهللين والعالم ما عاد يرى غير صورة حشود غوغاء وقفت ترقص على جثة بلادها التي استبيحت أمّا من بكى فلا مكان له.. كلّ حصّته تلك الزاوية القصية عند مدخل فندق الميريديان، وخياره الوحيد التواري فبكاء العراق اليوم تهمة.. لا بأس تواروا فالتاريخ بأكمله توارى مختاراً دور مسيحنا المنتظر وساعته على ما يبدو ما زالت بعيدة وبعيدة جدا إن كانت ستجيء.. توارى الباكون وتصدر المهللون صفحات الجرائد وشاشات التلفزة، ما عاد أمام سنواتنا الآلاف إلا مداراة الخجل وانتظار الأجل. و… وسقط التمثال..”
“كعادتي أبدا، أتشبث بأذيال الذاكرة وأبحث عنك بدأب يليق بفجيعة الفقد. تقول أحلام مستغانمي: عندما تفقد المرأة حبيبا تكتب قصيدة وحينما تفقد وطنا تكتب رواية، تُرى أي كتابة ستلخصني اليوم وقد رزقت الفجيعتين معا؟!. أنا التي خسرت كلّ شيء فغنّي بذكري يا بلادي.. أنا التي خسرتكِ وخسرته وجاءت اليوم ترثي نفسها بكتاب.. أخالف أحلام كثيرا هنا إذ ادّعت أننا نكتب الرواية لنقتل من نحب في دواخلنا، هاأنا ذا وبعد أن يئست من قتلك أعود فأكتبك. أكتب عنك، أكتب لك، أكتب بك، أكتب منك، أكتب فيك، أكتب وأكتب وأكتب إيغالا في حبك وإمعانا في قتلي.. أغسل جرحي بملح الذكرى لا لشيء إلا مخافة نسيانك أو نسيان تلك اللحظة.. هل تذكرها؟؟ كنتَ على حافة وطن، وكنتُ على حافة حب، التقينا في الوسط تماما عند الخسران.
القاعة نفس القاعة والعازفون هم أنفسهم، وحدها الأحزان من تغير.
حاولتُ مراراً ستر دموعي عنك، فهي المرة الأولى التي نلتقي، لكنك رأيتَ وسكتََّ عما رأيت.. أوّل لقائنا كان دمعاً، أتساءل الآن أما كان عليّ قراءة الكتاب من عنوانه؟! أما كان عليّ تجنب التيه في صحرائك كل هذه الدهور؟! لا أدري لكنني ورغم كل ما حصل لا أظن أنّي أشعر بالندم.. هل هو إصرار على الجنون، ربّما، لكنّه إصرار على الحياة أيضا.. ممتنة لك، أمهلتني يومها من البكاء ما أشاء ثم منحتني كذبة المكابرة.
وكابرت أو هكذا ظننت إلى أن لاح ذلك الرجل طيفا من أيام خلت، وضعني تماما في مواجهة كل الذي مضى.. أدهشني وقوفه في هذا المكان، لم أملك كبح جماح نفسي وأنا أعدو إليه، كنتَ ما زلتَ غريباً وكان ما زال قريباً وصديقاً.. عانقتُه وبكيت فلم يملك لذهوله إلا الصمت ولم أملك لصمته إلا البكاء.
– مازال هناك أمل، كلّ شيء قابل للإصلاح.
لا أظنّه سيعيد نفس الكلمات لو التقيته اليوم، ودّعته على موعد لم أفِ به حتّى الحين وهرعتُ نحوك بلا موعد.. دخلتُ دنياك لحظتها، أو ربّما اجتحتَ أنت عالمي.. اقتحمتَ عليّ جرحي بمنديل ونشيد وطن سليب، مسحتَ دمعتي يومها، لكنك منحتني بعدها عمراً من الدمع، لم تكن صفقة عادلة أبدا يا سيدي.. ليتك كنتَ تركتني أبكي وطني فقط، ربّما كنتُ أجد نفسي في رصاصة محتل وما كنت لأضيع هكذا بين وطنين سليبين لا يبدو أنّ أحدهما سيقبل قريباً منحي حقّ الموت على بابه.
– هل أنتِ الآن أفضل؟
أجل أفضل بكثير.. كنتُ واهمة، كانت سكرة الموت في المنافي وكنتَ ملاكه وكانت البداية، قرأتُ في عينيك ألف عام من الحب وعام وما ملكتُ أن أكون شهرزاد، لم أكن غير جواريك المنذورات للذبح يامولاي، وها قد اختصرتُ عليك الطريق إلى رقابهنّ جميعاً.
لم يكن في ذلك الصباح ما يميزه، فكلّ صباحات الهزيمة متشابهة، أو هكذا كنت أحسب.. على عجالة توجهت نحو مبنى التلفزيون لاصطحاب مصور كلفت وإياه بتغطية أحد المؤتمرات الصحفية.. وكما في كلّ مكان أبصرتهم على باب القاعة، أصابع على الزناد، ملامح قاسية، وصرخات مذلة، فرضت علينا أن ننتظر في طابور طويل إذن ذلك الجندي بالدخول بعد أن يجري تفتيشنا.. لا أدري لماذا أو كيف خطر على بالي أني استثناء سيمرّ دون تفتيش، فقد كنتُ الفتاة الوحيدة وما من نساء للتفتيش.. آمنت بالله، لتقم تلك المجندة بتفتيشي.. قلت بعد إصرار الجنود على أن يتم تفتيشي وأشرت نحو شقراء كانت تستلقي ببزّتها العسكرية في ظلّ دبابة.
– نحن من يقرر وليس أنتِ.. ردّ الجندي بنقمة، رددتها عليه نظرة منكرة زادت في استفزازه..
ماالذي حدث؟ صرخ أحدهم من بعيد وأظنه الضابط ثم توجه نحونا:
– لا شيء لكن لابدّ من امرأة لتفتيشي
– لكنّه لن يلمسك، سيستعمل جهازاً إلكترونياً
ولو، لستُ مضطرة لألفّ أمام جهازك أو أمام جنودك.. ها…. أريد امرأة لتفتيشي
– لو كنا نملك نساءً ما كان هذا حالنا يا سيدتي
تجاهلتُ اللمز السخيف في كلامه وأشرت إليها فقال:
– أوه، الكولونيل، ذلك مستحيل، إنها الآمر هنا وليست جنديا، الموضوع ليس من اختصاصها.
كنتُ مؤمنة أنّ هذا النقاش عقيم لكن لابدّ من حضور المؤتمر، لذا واصلتُ والمصور حديثنا في محاولة لإفهامه معنى أن يقوم رجل بتفتيش امرأة في بلادنا.. لم يحرج مما كنا نقوله لأنه لم يتفهّمه أصلا لكن صرخات الغضب التي تعالت من الناس المتجمهرين حولنا اضطرّته إلى أن يتوجه نحو سيادة الكولونيل الشقراء طالباً منها أن تتولى المهمّة عنه.. تطلعت إلي من بعيد باستخفاف ثم أشاحت بوجهها دون أن تنبسّ ببنت شفة.
فهمتُ تماماً أنها رفضت بينما كان هو يتهادى نحوي بغيظ
– لم يبقَ أمامكِ خيار
وبالفعل اكتشفت لحظتها أنّي بلا خيارات، ما عدتُ أملك إلا مغادرة المكان وهكذا كان.. تركتُ الجنديّ رهن صرخات الناس الذين تجمّعوا حولنا بينما لملمت دمعي وانسحبت.
كانت المرة الأولى التي أذوق فيها معنى الذلّ بهذه الطريقة، ويا ليتها كانت الأخيرة، داسوا كل شبر في أجسادنا، عفواً في شوارعك وبات الجرح في الميت الحي أكثر إيلاماً وأقسى نزيفاً.. حشد من الغاضبين توجه نحوي للمواساة بينما استمر آخرون في جدال ذلك الجندي حتّى أبرم الاتفاق، تفتشني سيدة عراقية كانت قد شهدت الجدل وتطوّعت للمهمة.. قبلتُ وقبلَ على مضض وحضرتُ المؤتمر دون أن أفقه منه حرفاً واحداً ودون أن أملك ترويض كلّ ذلك الكمّ من الغضب الذي استعر في داخلي.. الآن وأنا أطلّ على المشهد من شرفة الذكرى أضحك حزنا، فالأمس ليس ببعيد كثيراً على الأقل ليس بعيدا بما يكفي لترويضي كما كنتُ أظن، لكن ها قد روّضت.. بتّ أكتفي بالصمت إذا ما اضطررت للوقوف عند نقطة تفتيش، أذعن للجنود وأجهزتهم، أتعزى بأني أفضل حالاً ممّن فتشتهم الكلاب.. أذكّر نفسي مراراً بحال تلك العراقية التي استوقِفت على باب وزارة النفط حيث تعمل، وتركت حقيبتها اليدوية لكلب بوليسي عوّضاً عن كلاب البشر.. أعجبتني ثورتها آنذاك فقد استنفرت كلّ موظّفي تلك الوزارة في مظاهرة صاخبة تحتجّ على أسلوب التفتيش، ولا سيّما في الحقيبة قرآن صغير لم يخطر على بالها أنّه أو هي سيكونان في هذا الموقف يوما على ما يبدو.
لا أدري ما الذي حصل معها لاحقاً، فالأمر لم يرُق لمسؤوليها بالطبع، لكنّي التقيتُ نفس الجنديّ الأمريكي بعد أيام وعلى نفس البوّابة.. تذكّرني جيّداً مثلما تذكرته، وكان هذه المرة برفقة عراقية تتولّى تفتيش النساء، مازلتُ أذكر ذلك الإحساس حين قال لي: بسببكِ جئنا بها.
شعرتُ أنّي أنجزتُ شيئا، سكنني وهم الانتصار على الرصاص بالكلمة.. لكم كنتُ مهووسة بثوراتي يومها، وكم بتُّ مسكونة بالرماد الآن، لا بأس، أنتَ هو، هو أنت، وجهان لخيبة واحدة ألقت بي على قارعة الغربة.
مازال الجرح وما زالت السكين.. أنتَ وبلادي.. أما أنا فملقاة على مقصلة الأمنيات، يذبحني قربكما ويقتلني الحنين في البعاد.. هل سأكمل كتابتكما، لا أدري أشدّ ما يخيفني تلك القبور التي تتقدم صفوف الأيام في داخلي، لكن أظنني سأفعل فقد باتت مجالس عزائكما الحبل السريّ – عفوا – العلنيّ الوحيد الذي يمدّني برمق من حياة.
(2)
أعلم أنها كانت بيننا على طول الخط.. أدري أنها قاسمتني كل أرغفة الفرح في هذا الحب على قلّتها.. أعرف جيدا أنك ما كنت معي إلا لتمرن قلبك على محبتها، فرشتَ لها روحي بساطا أحمر وتركتني على الأرض رغم أنها خذلتك ولم تجئ.
شابة في العشرينات، حنطية اللون فيها الكثير من الملامح الشرقية، أرادته لقاء عابرا، وأردته عناق أرواح أزلياً، وبلغنا منطقة وسط، تبادلنا عناوين البريد ومضينا على وعد رسالة.. لم يكن قد بقي لي في تلك البلاد غير أيام أربعة فقط ودعوتان متفرقتان جمعتاني بالأختين في منازل الأصدقاء المشتركين.. كنتُ أحرص ما أكون على ذلك الموعد وعلى تلك الأخت التي كانت مجرد زميلة دراسة ثم صارت فجأة محورا لحياتي.. وانتهى الفصل الدراسي لأجد نفسي مضطرا للسفر، اختتمت غربة الأرض – ربما – لكنني ابتدأت غربة الروح.. المرأة الحلم مضت، تاركة إياي معلقا على مشجب الانتظار.. أضحك لسخرية القدر التي لم تجمعني بها إلا في الأيام الأربعة الأخيرة لإقامتي في تلك البلاد وأحزن لرسائل حب لم تجد من يرد عليها حتى الآن ولا حتى بالرفض.
لكم بدت تلك الحسرة موجوعة وأنت تشرد بعينيك خلف المدى وتردد:
– سأنتظرك ياسيدتي ولو ألف عام، سأنتظرك.
انتفضتَ فجأة كالملسوع والتفت نحوي قائلا:
– كفاني كلاما عن نفسي..أخبريني، أنت ألم تجدي حلمك؟!
أذهلُ لسؤالك، أنت أكثر من يعرف كم أحبك وأقل من يقدر ذلك، من أين واتتك الجرأة، ومن الذي وهبك كل هذا الكم من اللامبالاة لتحرمني رحمة الإعفاء من سؤالك الجاهل العالم، رددتُ بنبرة عاتبة:
– وجدته متأخرا فكانت عقوبتي الحكم بمؤبد حب.
ولماذا نبرة الحزن هذه؟
– لا أدري هل جئت متأخرة جدا أم هو الذي اختار الرحيل باكرا، المهم توازت خطوطنا تماما وما عاد أمامنا ميدانا للقاء إلا المدى، هل سمعت يوما بمن التقوا على عتبة المدى؟!
لا تكوني مغرقة في اليأس إلى هذا الحد.
– ولماذا غرقتَ أنتَ إذاً؟
– قصتي مختلفة؟
– ألا تتفق معي أن أبطالنا متشابهون كثيرا وإن اختلفت التفاصيل بعض الشيء.
تركتني للصمت وسرحت مغازلا سيجارة فيها شيء من جمري وكثير من توترك.. انكفأت أقلب صفحات أسئلتي، هل كنت مخطئة، لا أظن ولو أخطأت فقد أخطأ معي أغلب من عرفنا، قرأوك في عيوني، مثلما أبصروني على أبواب عنادك، مصلوبة مرة وفاتحة مرة.. كنتُ أتلمس دربي إلى قلبك، لم أدرك أني دخلت بالخطأ المتعمد حقل ألغام.. هل ذاك أنت؟، أم هذا دجلة؟.. ينساب وجهك، أم يتبسم دفق الماء، تاهت عليّ الأسماء ومضى الزمن سريعا.. كنت أتطلع إليك بوله حمقاء وبراءة طفلة وغرور أنثى، وكنت كعادتك المكر المفر معا.. ست ساعات كانت الفخ الأجمل الذي ألقى بي في قلب عتمتك لأصيّرك أمير ضوئي وسيد فجري الذي لم يدم طويلا.. أتساءل الآن لماذا لم يبد عليك أنك شيطان إلى هذا الحد، مثلما لم أردك ملاكا، ولم تكن إنسانا؟ لماذا كنت معهم عليّ.. سلبوني دجلة والفرات، وعادت سيدة ولهك لتسلبك منّي قبل أن أبلغ سن الحب؟ عادت أمريكيتك الحسناء تنكل في جثة وجعي ملقية إياك بعيدا عني، بعيدا عنها، وبعيدا عنك أيضا.. الحرب أم والرصاص أب، أما العراقيون فقد كانوا أبناء الوجع الأزلي، لم يرتضِ أحد أن نقول يوما “سقوط بغداد” كانوا مصرين على أن صدام وحده الذي سقط.. كنا نخشى الحقيقة لكنها كانت مصرة على فرض نفسها.. سقطت بغداد قبل التمثال والتمثال قبل الرجل والرجل قبل القضية.. في الأيام الأولى لما بعد السقوط، كانوا في كل مكان، قطاع طرق من كل جنسية، كل يسرق على حجم طموحاته، وما أهونها مطامح المحرومين لقمتهم.. تركوا الحبل على الغارب ثم عادوا وحاكموا البلاد بجريرة حفنة جوعى سرقوا فتات مائدة كانوا هم كبار سارقيها.. للتو عادت وسن من المهجر، سبع سنوات مضت منذ آخر مرة وطأت فيها تراب العراق، دخلت بغداد مع أيام السقوط الأولى مثل آلاف المغتربين الذين تدفقوا على البلد فجأة بعد قطيعة دامت عقودا بالنسبة لبعضهم.. كانت مسكونة بالرغبة في فعل شيء، أي شيء يضمد ولو ذرة من الجرح كما كانت تقول، ووجدت الطريق أو هكذا ظنّت، فيلما عن سقوط بغداد، يبدأ من المتحف العراقي الذي تناهبه لصوص لا يدري أحد من أين جاؤوا.. أعرفها بالاسم كابنة صحفي معروف لكنني التقيتها هنا للمرة الأولى عبر ثلة من الأصدقاء ممن جمعوا بيننا.. تجاذبنا الحديث في الموضوع طويلا وعرضت عليها المساعدة فرحبت لتبدأ من هناك علاقتي بها.
(3)
مثل مطر نيسانيّ تهطل الكلمات على أوراقي هذا الصباح، لا أدري لم تلحّ عليّ صورتك اليوم.. صحاري الهجر الشاسعة التي تفصلنا لم تروض في على ما يبدو جموح الشوق ما زلت أشتاقك جدا، وأغفر جدا لتلك الأظافر المتعطشة لحزني، أظافرك التي لم تترك شبرا في وجه المحبة إلا ومزقته.. أستعد للخروج، اليوم أعود إلى عملي من جديد بعد شهر كامل من الغياب، اتصل بأبي أوس ليكون عندي بعد ربع ساعة.. صباح الحزن، تلك هي العبارة الأولى التي خطرت على بالي وأنا أفتح باب السيارة.. القلب ذاق نفس الكأس وإن اختلف الساقي، وما يحصل معي اليوم عايشته بتفاصيله من قبل، الموت شاركنا لقمته أيضا وعبوة ناسفة التقارير، دمرت السيارة التي كنا فيها لننجو نحن بمعجزة. دوي الانفجار، صوت هائل، وظلمة كالحة، ونثار زجاج تقاسمنا وتقاسمناه دون رحمة.. إلهي، كم أحسست الموت سهلا لحظتها، وكم تمنيته بعدها، كل ما أخافني ذكرى، خفت عليها كثيرا، كانت أعز صديقاتي، بالغة الرقة والحساسية، لكنها بالغة القوة أيضا.. تماسكت بسرعة وسبقتنا فاتصلت بالجميع، إسعاف ونجدة وشرطة، وزملاء، كان مشهدا كرنفاليا، دمار السيارة منعهم من تصديق أننا نجونا بسلام.. الكل تقاطر للاطمئنان علينا.. يومها كانوا يسألون عني، وكنت لا أسأل إلا عنك.. مهمتك خارج بغداد حرمتني منك كل ما مضى من أيام، وما خفت لحظتها إلا أن يحرمني الموت منك إلى الأبد.. أدرت رقم الهاتف، فجاء صوتك على الخط الآخر مثقلا بالحزن بل مذبوحا:
لماذا لم تتصل على الأقل؟
– خفت.
من ماذا؟
– لا أعرف، كنت مرعوبا مذ سمعت الخبر.
بالفعل كان صوتك أكثر رعبا من صوتي، وعذرتك، بكيت لحزنك، لا لموتي الذي كان قاب قوسين أو أدنى.
ترى هل كنت واهمة إلى هذا الحد؟ لا أدري، أتذكر كلماتك حين حدثتك عن تلك اللحظة، عن الإحساس بأن قاتلك يقف على الرصيف الآخر ينتظرك لتمر ويفجر جسدك. لكن كيف عرفت بالأمر؟
– اتصل بي بعض الأصدقاء وأبلغوني الخبر.
– بصفتك!
– لست مستعدا لتقديم تبريرات أو الدخول في نقاشات، خفت عليك كثيرا بل كدت أجن وافهميها كما شئت..
وصدقتك، بل صدقت غبائي، ترى أين خوفك اليوم، أما خفت علي من حقل الألغام الذي أودعتني، أما أقلقك الحريق الذي وهبتني؟ رحمة الله على اللغم وأهله، كانوا أرحم بي منك.
(4)
مر الأسبوع الأول من العمل حافلا، لم ألتقك إلا لماما، والتلفزيون تحول إلى خلية نحل بينما البلد بركان.
اشتعلت معارك الفلوجة، أربع جثث أمريكية صارت يومها أعز من أرواح ستمئة ألف من أهل هذه المدينة الصغيرة.. فغر العالم فاه بينما استبيح الناس عن بكرة أبيهم.. كل الأنبار اشتعلت، سامراء والموصل وبعقوبة استشاطت غضبا والمفاجئ كان صرخة النجف.. فجأة ومن حيث لا يحتسب الجميع اندلعت المعارك مع مقتدى الصدر أحد زعماء الشيعة، رغم كل ما قيل وظل يقال عن أن الشيعة اختاروا المقاومة السلمية.. قبلها تحدثوا كثيرا عن حرب أهلية قادمة، لكن المساجد التي كبرت في بغداد يومها دعوة لمناصرة الفلوجة امتلأت بشباب الشيعة مثل السنة.. مسيرة بدت حاشدة ومتظاهرن يخططون للتجمع عند ساحة الفردوس رمز احتلال الحرية عند البعض وحرية الاحتلال للبعض الآخر..
معقول، هذا ثالث طريق أسلكه فأجده مقفلا، كيف سنصل؟!
– لا أدري لم يبق لنا أمل سوى الشوارع الفرعية، دعنا نحاول..
حيرة كبيرة استبدت بأبي وس وهو يحاول أن يبلغ بي التلفزيون هذا الصباح، فمظاهرة اليوم على ما يبدو ستكون ضخمة، الطرق الرئيسية مقطعة الأوصال على يد الأمريكيين مرة والصدريين مرة أخرى.
آسفة إذ كلفتك كل هذا الجهد..
– لا بأس المهم وصلنا
وبالفعل بعد ساعتين وثلث وصلنا رغم أن الطريق لا يكلف عادة إلا ثلث ساعة.. حشد تلو آخر كان الصدريون يصلون، والساعة شارفت على الثانية ظهرا، و… رصاصة، اثنتان، ثلاث.. اندلعت المواجهة وقتل بعض أنصار الصدر بنيران أمريكية.. على الفور ارتدى أحد المصورين درعا وخوذة ليتوجه نحو الساحة، بينما كانت الأخبار تترى من الجنوب الذي اشتعلت بعض مدنه أيضا نصرة للصدر وكانت النجف ميدان معارك رئيسي.. آلاف من الصدريين تدفقوا عليها من مدن مختلفة لحماية زعيمهم الذي رفض مغادرتها.. إذن، لابد لنا من التوجه إلى هناك، ولكن.. هذه الـ”لنا” بدت غريبة جدا بالنسبة لبعض مسؤولي التلفزيون؟! طلبت أولا، فلم يؤخذ الأمر على محمل الجد، أصررت فاعترض المعترضون إلا صوتا تساءل لم لا، لنجرب.
– نجرب ماذا، المدينة معركة ودم لا نزهة سياحية، نرسل فتاة.
الرصاص لا يستثني أحدا.. أجبته فأغاظته حدة الرد لكنها كسبت مسؤولي المباشر الذي قال بحزم لم يترك مجالا للنقاش:
– حسنا، لكن ستذهبين ومعك صحفي آخر، التغطية تحتاج إلى اثنين وأولا وآخرا ستستعصي بعض الأماكن على دخول امرأة في مدينة محافظة مثل النجف.. وهكذا كان، تسلمت زاد الرحلة خوذة ودرعا واقيا من الرصاص وبالصدفة نظرة منك.. كنت على الباب الخارجي بانتظار المصور والسائق والزميل – المحرم – وكنت أنت عائدا للتو من مهمة تغطية أخرى.. تطلعت إلي مستغربا تلك الهيئة الحربية، نظرة بلا تعابير كانت عندي بكنوز الدنيا وزادا لأيام طوال بعدها، لكنها بالطبع لم تدم، على عجل مضيت مستكثرا علي حتى كلمة مع السلامة التي قالها كل عابر مر بنا عند الباب.. أتركك، أترك بغداد، أترك الدم المهدور لأمضي نحو حكاية أخرى بطلها الموت أيضا.. كان أول ما استقبلنا منائر مسجد الكوفة، وآلاف من الشباب طوقوا المسجد متشحين بالسواد ومدججين بالسلاح.. افترشوا الأرض والتحفوا السماء مجاهرين بكرههم للإعلام وبالطبع لم نكن نحن استثناء، حمدت للإدارة إصرارها على إرسال صحفي معي، أظن أن كارثة كانت ستحصل مع التقاء عصبيتي الأزلية بحدتهم المفرطة، وصعوبة قبولهم امرأة في هذا الميدان الملتهب.. أخذنا تصريح العمل وشددنا رحالنا من الكوفة نحو النجف،لم يخف أحد من الآلاف المتجمهرة على امتداد الطريق نقمتهم على الأمريكيين، وإصرارهم على الموت دون السيد القائد كما كانوا يسمون الصدر..
كنا جميعاً متفقين على أن ليلتنا هذه ليلة الحسم.. توقعات بمداهمة مسجد الكوفة ومحاولة اعتقال الصدر وبالتالي مجزرة قادمة.. الطائرات الحربية لم تتوقف عن التحليق طوال الليل ودويها المرعب أعادني إلى أجواء الحرب ومعاركها الأولى.. نفس الرعب تقريبا وإن اختلف الزمان والمكان.. أتذكر الآن تلك اللحظة، وأقيس الفرق، كان أهلي معي، كانوا ملاذا وأمنا، الآن أي جنون قادني إلى هنا؟! مهولة فكرة إني سأموت دون أن أبصر وجه أمي؟! والرعب كل الرعب من صورة أشلائي ينثرها صاروخ.. لماذا، ماهو الشيء الذي أريد إثباته؟! وهل من ثمن؟! أووووه؟ أي حلم أجوبه هذا؟! وأي سؤال غبي؟! أبحث عن مبررات في زمن اللا مبررات، وأتساءل عن الثمن في زمن ماعاد لنا فيه ثمن! من تكرم يوما وبرر لنا موت كل هذه الناس ليبرر لنا موتنا غدا.. سأنام رغما عن أنف هذه الطائرة.. ظلت المعارك متقطعة على مدار الأيام التالية بينما جهود الوساطة متواصلة.. تصريحات متضاربة وتأهب تام عشناه بانتظار أي خبر عن صلح مرتقب يريده القائمون عليه منقذا لما يمكن إنقاذه من حرمة مدينة وصفتها المرجعيات الشيعية بأنها وكربلاء خطوط حمر لا يجوز تخطيها أو هكذا كنا نظن.. كنت على وشك أن أغفو،حين توالت صرخات الصحفيين، خطى متسارعة وتدافع لم أفهم سره حتى فتحت الباب فواجهني أحدهم بصرخة منفعلة:
دخلوا النجف..
وقع الخبر علي كصاعقة، ارتديت ثيابي على عجل، وتوجهت نحو سطح الفندق ليطالعني المنظر.. كانت الدبابات أسرع من نبضات قلوبنا التي امتزج فيها الخوف بالقلق والغضب، كانت تقطع الشارع الرابط بين النجف والكوفة بسرعة صاروخية نحو ساحة ثورة العشرين وسط المدينة قرب ضريح الإمام علي كرم الله وجهه.. لم يجرؤ أحد منا بالطبع على تسليم رأسه لنيران قناصة الأطراف المتحاربة والذين تسيدوا الأسطح، بقينا على انحنائنا بينما شمخت قامات كاميراتنا تنقل لنا ما يحصل عبر شاشات جانبية صغيرة فيها.. خيم علينا جميعا الصمت، وأول من نطق كانت دمعات أحمد، لمعت وسط الظلام حين التفت إليه فهالني منظرها، ربّت على كتفه، فلم يرد بغير كلمة واحدة مملوء بالمرارة:
– لماذا؟!
ماذا تعني بلماذا وما الذي كنت تتوقعه؟!
– لم أتوقع الكثير لكن…. أحسها تطأ فوقي هذه الدبابات، ما داست أرض النجف، لقد داستني..
ليست أول مرة نداس، وبغداد قبل النجف سقطت..
لا يبدو أحمد مسرورا بهذه الأجوبة، لكن السرور غمرني أنا رغم قساوة اللحظة.. لم يكن أحمد شيعيا، ولم أعرف عنه يوما انتماءه لمدينة بعينها، لكنه بكى النجف، بل بكى العراق بتلك الدمعات، آلمه جرح الحرية.. فرحة سرعان ما خطفتها صرخة غيث:
ارجع، لا داعي للجنون، لا نريد الصور.
-لن يحصل شيء اطمئنوا..
كانت خطوات رعد أسرع من أي صراخ فأسكتتنا شهقة الرعب..
اتجه بسرعة فائقة نحو تلك الزاوية من السطح لتشغيل جهاز البث حتى نتمكن من إرسال ما بحوزتنا من صور الاجتياح، وياليته ما فعل، دبابة أمريكية ترابط على الجانب الآخر، والخوف كل الخوف من نيرانها التي لن يحميه منها بالطبع ما تسلح به من درع وخوذة.. أضع يدي على قلبي وأتلو ما أذكر تلك اللحظة من آيات بينما يصفر وجه أحمد وغيث. بدأ الرصاص ينهال مع ضجيج مولدة جهاز البث، وبصيص ضوء المصباح اليدوي بيد رعد..
رععععععععععععد صرخنا جميعا، فرد:
– انحنوا جميعا أنا بخير..
لحظات الرصاص تلك كانت أطول من أعمارنا، وفرحة النجاة لا توصف.. توقف السيل المنهمر وعاود رعد زحفه نحونا وهاهي صور الاقتحام على الهواء مباشرة بعد دقائق فقط.. تلفزيون الفندق الوحيد جمّعنا كلنا في الصالة وهو يعرض دمنا – عفوا – صورنا، والصحفيون المقيمون في الفندق شاركونا التصفيق لرعد دون أن ينطق أي منا، فالخوف خنق كل الأصوات.. استأذنت رعد بكلمة أحسّها أصدق ما يمكن أن أنطق به الآن: صدقني وأنت أخي، لولا الخجل لقبلتك لحظتها.. يضحك ويرد :
– نحن فيها..
يامجنون، ليس من شيء يستحق شبابك، وما من صورة تعدل حياتك
– عمر الشقي بقي
جملة كانت أقسى ما سمعت ذلك اليوم، ردتني إليك على عجل، ذكرتني بحدادي عليك وأضحكتني أيضا..لكم أتمنى في سري كل أعمار الأشقياء لأبقى لحبك، ولكم يملك شقائي معك أن يمنحني من الأعمار.. مجنونة تلك الأمريكية، منحها الله مالا تعرف قيمته وسلبني سبحانه ما أحرص عليه.. حكمة الرب أولا وآخرا، وعلى ذكر قيم الأشياء، هل تذكر.. ذات كورنيش، وذات لقاء دجلوي مرت هذه العبارة يوم مر ذلك الصبي.. كيس نفايات ألقاه في دجلة، فتدفق حزنك:
– هذا من يُمَلّك أشياء لا يعرف قيمتها. ليس وحده، كثيرون يملكون ما لا يدركون قيمته..
هل هذا تلميح..
– بل تصريح..
تصمت مغلقا أي باب ممكن للحوار بينما يصل الأكل فتعاجلني عيون النادل بنظرة لئيمة أظنها استندت إلى طلبك منه أول دخولنا أن يختار مكانا رومانسيا لجلستنا.. ليته يعلم لضحك لخيبتي، على كل صيت الغنى ولا صيت الفقر..
سألتني يومها:
– ماذا لو تزوجك، ومن ثم اكتشف أنك لست أنت من يبحث عنها سأرضى بقدري، مازلت أعتبر نفسي إنسانة قدرية، ثم إن قلبي دليلي يا إلهي، كم كان دليلا أعمى في درب اللاعودة هذا؟!
(5)
على الخط الآخر جاء صوت ذكرى..
– بالتأكيد أرسلي ما معك من صور، نحتاجها جدا.. لكن متى ما فرغت اتصلي بي.. ثمة أمر.. بالكاد تلتقط الخطوط الهاتفية هنا، اخبريني ما عندك
ترد ذكرى بلؤم محبب:
– قبل قليل كان معي، وسأل عنك
– من؟!!!!!
– أبو الهول
عجبا، ما الذي ذكره بي؟!
– ربما الشوق ربما صدفة لا أدري، لكننا كنا نتحدث حينما سرح فجأة ثم قال: هل تعرفين؟ أشتاق إليها، إلى خلافاتنا الصغيرة تلك، إلى نزاعنا حول كل شيء ولا شيء”.
أها، وماذا قلت له؟
– لا شيء، أريته الصورة التي التقطناها سوية عقب انفجار مبنى التلفزيون قبل أسابيع، طلب مني أن أعطيه إياها لكني أردت استئذانك أولا.
لا أملك موقفا محددا من الموضوع، افعلي ما شئت، لكن اتركيني الآن، لا أجد نفسي قادرة على نقاش أي شيء.. إحساس غريب تملكني لحظتها، كم كنت أتمنى هذا السؤال ثم لكم أشعر بالرعب الآن؟! لماذا، ما الذي تغير وما الذي سيتغير؟! هل تعتقد أني قادرة على أن أثق بك مجددا؟! ثم لماذا هذه الصورة تحديدا؟؟، هل صحيح تطلبها لأنك مشتاق أم أردت أن تقرأ في عيوني سطور الدمع التي كتبتها بيديك لحظة كتبت تلك الرسالة في ذات اليوم: “لقد جاءت هذه العلاقة في واحدة من أكثر مراحل حياتي انعداماً للاتزان. أمر ربما لا يستطيع الآخرون المساعدة فيه، لأن ذلك الاتزان شأن داخلي. ربما يستطيع الآخرون تعزيزه، لكنهم لن يتمكنوا من إيجاده إذا كنت أنا عاجز عنه أولاً.. ومن سوء طالعي أنني وجدت كلينا في هذه الدوامة التي لم يكن لأحد منا فيها خيار.
ووجدتني أخرى مضطراً لاتخاذ قرار ما، عساه أن يحفظ البقية الباقية من معزة أحدنا في نفس صاحبه. وأنا هنا أعني معزتي في نفسك، لأنني أؤكد لك أن معزتك قائمة في نفسي ما حييت”.
(6)
أتشبث بأذيال السطور المستعجلة فلا أفلح، أشعر أن من المستحيل أن أفقه حرفا هنا، أطبع الرسالة على عجل وكأني أسرقها من جيب الفراق، ثم أعود إلى الفندق فأدخل غرفتي بزهو الفاتحين.. كالبلهاء أحدق بحروف الرسالة المنمنة: “تصادف أن رأيتك في مقابلة على الهواء قبل يومين في النجف. أعترف لك بأنها المرة الأولى التي أراك فيها على الهواء منذ زمن، لا أخفيك أنني لم أستطع مواصلة ما كنت أفعله، فانسحبت عن الجمع الذي كنت معه وتوجهت إلى التلفاز مع ابتسامة عريضة ارتسمت على شفتي ورغم أن عينيك بدتا حزينتين بعض الشيء إلا أنك أديت بشكل سلس وواثق والأهم هو أنك كنت متألقة نوراً وعذوبة. لا أقولها متغزلاً بالطبع، ولكنني أصبحت حقاً أعذرك عندما كنت (وربما ما زلت) تصفيني بأبي الهول. فالبارحة تأكدت بأنني كنت (وربما ما زلت) أبو الهول وعزائي في الأمر كله أن ذلك لم يمنع حسناء مثلك أن تقع في حب أذنيّ الجميلتين أو صوتي العذب أو حتى أنفي الجرماني”.
لا يا سيدي لم أعشق فيك أيا من ذلك، أحببت تلك الروح التي كانت يوما أجمل جنان الأرض.. ربما مازلت وربما لا.. ها أنت ذا تكررها، لعبتك القديمة الجديدة في ترك الجمل مفتوحة على كل الاحتمالات، أو بلغتك عيناي الحزينتان رسالتي؟! أو لم ترزقني شيئا من شفقتك بالأقل؟! لماذا لا تتركني لشأني، لماذا تصر على إذكاء النار فيّ بلا هوادة؟!، هل صحيح لأنك لا تريد أن تخسرني أختا وصديقة كما قلت آخر مرة؟! ها أنت ذات تجعلني أخسر نفسي مع سبق الإغواء والتردد في الطريق إلى خياراتك المتذبذبة، وها أنا ذا أكتشف للأسف أني لم أفقد ذرة من شوقي إليك، وولهي بك رغم كل ما ادعيت من قبل.. كل ما خطر على بالي لحظتها كيف كنت أبدو؟! كنت أنثى وأنثى فقط لم أفكر حتى بأدائي الذي تحدثت عنه كل ما أقلقني شكلي لحظتها، كيف رأيتني في تلك المقابلة المباركة بنور عينيك.. وعلى العموم لا أدري والله لماذا فشلت في قراءة سطورك بتركيز رغم محاولتي ذلك مرارا مثلما فشلت في كتابة أي رد مما دعاني إلى تأجيل الأمر، عليّ أن أحسم موقفا بت أشعر بالاختناق من مجرد التفكير فيه أو محاولة تحديده.. أبو الهول: ليس من عادتي أن أتجاوز على مشاعر الآخرين سواء أحسنوا أو أساؤوا إليَّ لذا لا أرى من الذوق أو احترام المشاعر أن لا أرد على أي من رسائلك لكن المشكلة أني لا أملك القدرة النفسية على ذلك الآن.. تسعدني والله العظيم رسائلك وتستطيع بالتأكيد أن ترسل متى شئت لكن سيسعدني أكثر لو شعرتُ أنه لن يزعجك عدم الرد إذ لا أشعر أني أريد ذلك الآن، أعرف أن هذا الموضوع أخذ أكبر من حجمه نقاشا معتذرة لك عن ذلك وشاكرة الاهتمام الذي أبديت.. أمنياتي الأزلية أن تكون بخير دائما وأن تهتم بنفسك.. ملاحظة: لا تحتاج إلى هذه اللغة المشفقة في رسائلك إلي، تبدو كمن يسير في حقل ألغام، لا تحمل الأشياء أو نفسك أكثر من طاقتهما”.
(7)
لماذا عدت؟! بل لماذا لم أمت أصلا مثل كل الذين قتلوا في النجف؟! ما لذي دعاني إلى كل ذلك التشبث المجنون بالحياة؟! أنت وحدك؟! أجل أعرف مثلما أعرف أيضا أنك لا تستحق.. ها أنا ذا وبعد يومين من عودتي لم أسمع منك حتى تهنئة بالسلامة، ومعك حق، فأنت أدرى الناس بأني لم أسلم، وأنت لا علم لك بأني مازلت أترنح بين حروفك وعيونك كلّ يعاند الآخر فيّ وأنا وحدي ضحيتهما.. أستحلفك بالله لا تتركني لندم العقل وشماتة القلب، لا تكتب لكن لا تغضب، أضع يدي على جرحي لأسمع نبض الشوق فيه فتغرق أصابعي بدمي ويصم الدوي آذاني يعزّ عليّ غضبك وأنت الذي ماعزّ عليك حتى موتي.. على ذكر الموت أصبحت مهووسة بالمقابر، وربما لأن روحي مقبرة كبيرة ليس فيها إلا شاهد واحد يحمل اسمي فقد باتت المقابر الآن هوايتي.. معارك النجف غطينا أغلبها من مقبرة مترامية، وعودتي إلى بغداد دشنت بمقبرة أيضا.. تقرير عن مقابر السلاح، أجل فلسنا وحدنا، حتى الأسلحة تموت وتحيا لكنها ليست مثلنا، هي لا تحيا إلا بقضية أما حين تموت فهي تقتل أهلها أولا.
(8)
مازلت أبحث عنك بين أنقاض الأيام التي توالي انهياراتها فوق رأسي.. مازلت أنتظر رسالة أنا لا أعلم بأني لن أقوى على الرد عليها.. لا أدري إن كان هوسي بك أم به هو الذي يجعل عطرك يطاردني في كل مكان، حيثما حللت أو ارتحلت يسألني عنك وبالطبع لا جواب عندي.. لا أدري أين اختفيت كل هذه المدة، وغرفتك مازالت مقفلة من يوم لقاء الممرات ذاك.. معقول، هل صدقتني وأنا التي ما تعودت الكذب إلا لحظة أقول لك اتركني، بالله عليك مد يديك الآن إلى أقرب قواميس القلب وستجد معناها في حضنك خذني.
أحدق في الشاشة كالبلهاء فتصعقني تلك الصور.. صور التعذيب صارت اليوم قضيتنا بعد أن نشرتها محطة تلفزيون أمريكية أما قبل التعميد الأمريكي فلا يمكن لأي حقيقة أن تعدو حدود الوهم والكذب لأجل التحريض.. أتساءل الآن، ماذا لو بثت هذه الصور وسيلة إعلام عربية؟! لا أظن أن عقابها سيكون أقل من غلقها إلى الأبد أو ربما أبعد من الأبد.. في الصور كان سبعة سجناء عراة تماما إلا من أكياس حاولت أن تستر بشاعة جلادين بدت وجوههم عامرة بالفرح وهم يزاولون مازوخيتهم.. أقفل التلفاز وألوذ بشاشة الحلم بحثا عن عدالة تعاملنا كبشر أو على الأقل بمثل ما تعامل حيوانات بلادهم لا بشر بلادنا.. وللمرة الأولى بات السجناء أهم من المطربين وبات عرايا السجون أشهر من عرايا الأغاني لكن شتان ما بين العريين.. أكثر من سؤال طرح وأكثر من غصة انفجرت، وبالطبع لا جواب.
(9)
أجل سقطت وريقة التوت وتعرى القلب، الآن أكتشف أني ما أحببتك يوما بل أحببت دائما غروري فيك، عصيانك عليّ، عنادي بك وهذه خديعتنا معا، خديعتنا التي يجب أن تنتهي وباختيارك قبل اختياري..
فزّت حنين مع الدقائق الأولى بعد السابعة صباحاً على رنة الهاتف تلك :
ألو..
– ألو صباح الخير..
صباح النور غيث، ماذا هناك، خير، ما بك
– ………………..
غيث، ماذا هناك؟؟
– سأخبرك، لكن لا تفزعي، رشيد استشهد..
– نعععععععععم، مستحيل
ينخرط غيث في البكاء بينما تضغط هي على الزر لتقفل الخط بوجهه ولتعاود وضع رأسها على الوسادة بلا وعي..
أكيد هي تحلم وستنام من جديد لتعوض هذا الكابوس ربما بحلم أفضل.. تحاول انتزاع غفوة من بين فكي تلك الثواني القاسية لكن صوت نحيب غيث يأبى أن يفارقها، يصر على صفعها بالحقيقة فتفز موجوعة.. لم يكن حلما، إذن لقد مات رشيد.. تهاتف ذكرى ليرد عليها ذات الحزن الذي كان في صوت غيث..
– أجل صحيح حنين، صحيح، أنا في طريقي إلى المحطة الآن.. تسارع إلى تغيير ملابسها مستقلّة أول تاكسي يصادفها..
– كيف، بالله عليكم كيف، فقط أخبروني..
– في كربلاء، في معارك كربلاء.. يرد رعد باكياً: بعد عودتكم من النجف بيوم واحد توجه مع فريق آخر إلى كربلاء..
والقاتل؟
– رصاصة لم تجد التمييز بين جبهة المقاتل والإعلامي..
هل عرف أهله؟ هل وصلت الجثة؟
– استشهد بعد الواحدة ليلا لكننا لم نعلن الخبر حتى الفجر، هم موجودون الآن في مكتب المدير ابنه الأكبر وإخوته، ومازلنا جميعا بانتظار وصول الجثة من كربلاء.. يقطع صوت رعد صوت نشرة الأخبار وهي تنقل صور وتفاصيل مصرع رشيد رحمه الله… معركة اندلعت بعد الساعة الواحدة ليلا في كربلاء ما بين جيش المهدي والأمريكيين، خرج أحمد إلى سطح الفندق للتصوير بعد أن لبس درعه.. رشيد كان يخشى ترك أحمد وحيدا في تلك اللجة، خرج حاملا كاميرا أخرى عله يساعد فيما يستطيع من صور.. مرارا حاول أحمد إقناعه بالدخول، فخسارة واحدة أفضل من اثنتين على حدّ قوله لكن هيهات، بقي رشيد ثابتا في مكانه ومواصلاً التصوير.. من كل صوب كان الرصاص ينهال، وأكثر من زخة اتخذت من السطح حيث هما هدفان لكن عنادهما لم يلن، كانا يريدان الصور بأي ثمن.. صمت رشيد على حين غرة، توقعه أحمد منهمكا لكن طول الصمت جعله يلتفت ليبصر المصيبة.. بركة من الدم وجسدا ممددا بلا حراك، صرخ أحمد بأعلى صوته فاندفع باقي أعضاء الفريق إلى السطح دون أن يستطيعوا بلوغ جثة رشيد، كانوا في طرف السطح وأحمد في الطرف الآخر بينما رشيد ممدد في الوسط والرصاص يوالي انهماره.. يزحف أحمد بكاميراته على الأرض حتى يبلغ رشيد، يجس نبضه فلا يملك إلا صرخته تلك.. مات رشيد، ماااااااااااااات.. أجل مات وبقيت جثته على سطح الفندق حتى الفجر، لم يكن بإمكان أحد الاقتراب منها أو سحبها وإلا لحق بصاحبها في ركاب الموت العراقي هذا ووسط جنون بارود لم يسكت طوال تلك الليلة المشؤومة.. لم يتمالك رعد أو غيث دموعهما.
يا الله كم هي محنة؟؟ ومن تودع اليوم، رشيد حميد والي أو المنقذ كما يسمونه جميعا في المحطة، لم تنقذه شجاعته هذه المرة، يده البيضاء أنقذتهم مرارا دون أن تملك له أيديهم اليوم إلا كتابة كلمات النعي. يتردد في أذنها صوت ضحكاته في المحطة، كان فرحة حيثما حل أو ارتحل، حتى يوم اعتقله الأمريكيون أثناء إحدى مهماته حوّل الموضوع إلى نزهة لكن أي نزهة، دامت ثلاثة أيام في مطار بغداد دون أن يؤرقه من قسوتها غير هم أطفال ستة هم أولى الآن بأرق من تلطخت يداه بدم أبيهم.. تستشعر حنين كف تربت على كتفها، تلتفت لتجد رعد يحاول من وسط دموعه تهدئتها، يقدم لها بالكف الأخرى كوب ماء.. تمسح دموعها وتبتسم في وجهه:
ما بك رعد، هل نسيت، إنها أمنية رشيد نفسه، كان يريد الشهادة..
– لا أستطيع التصديق، أشعر أن هذا موتي، موتك، موتنا جميعا..
تتنهد بحسرة: صدقت، وجها لوجه أمام الموت، هكذا صار الإعلام في العراق، لكن لا بأس فهو موت نبيل يليق برشيد وبطارق، موت مقترن بالحياة بل وصانع لها، صدّقني لم يمت رشيد، ولم يمت طارق أيوب ولا أي من شهداء الإعلام في هذا البلد، مجانية الموت في العراق علمتنا ألا نموت.. تمسح دمعها وتسارع إلى طباعة التقرير بنسختين يتلقى إحداهما رعد لينزوي بها في غرفته ممعنا في البكاء بينما تسارع هي بالنسخة الأخرى لتسجيل التقرير بصوت لم يترك الحزن شبرا فيه إلا ووطأه.. في الخارج علا صوت التكبير والعويل إذ وصلت الجنازة ليستقبلها زملاء ما عرفوا من صاحبها إلا النبل، أسكت الموت الجميع فلم يجدوا وسيلة للثأر لدم رشيد إلا بالعمل، اندفع كل إلى واجبه بحماس، نقلوا الجنازة على الهواء مباشرة أنجزوا تغطية ممتازة أرادوها رداً على الموت بحياة سخروها لكلمة حق في بلد تنازع الجميع على سلبه حقه.
عودة للأعلى