الفصل الخامس
الرمز
في شعر هشام القيسي
الرمز
الحقيقة إن الدارسين والنقاد قد أدلوا بإجاباتهم في هذا الشأن في عشرات الدراسات والكتب منذ أن بدأت دراسة الأدب الحديث، ومن المهم في هذا المقام عدم النظرة إلى موضوعات القصيدة الحديثة نظرة سطحية ساذجة، تقرأ تلك الموضوعات قراءة سطحية، تعدها ضرباً من الشعور الفردي الذي يعول في شرحه على بعض الظروف الخاصة بشاعرمن الشعراء، وإنما نحن بإزاء ضربٍ من الطقوس أو الشعائر التي يؤديها المجتمع، أو تصدر عن عقلٍ جماعي إن صح هذا التعبير لا عن عقلٍ فردي أو حالة ذاتية .
والحق إن الشعر الحديث كله يوشك أن يكون على هذا النحو، بمعنى أن مراميه فوق ذوات الشعراء، وهناك قدر من المشاعر والأفكار التي يسهم في بنائها كل شاعر كبير،والذي يلفت النظر هو أن فن الأطلال كغيره من فنون الشعر المعاصر في العصر ينبع من إلزام اجتماعي، فالشاعر من حيث هو فنان يوشك أن يكون ملتزماً، ويأتيه هذا الالتزام من ارتباط غامض بحاجات المجتمع العليا، وكل نابغة في العصر المعاصر يشعر أن المجتمع يوجه أفكاره إلى حيث يريد (95:ص53).
فنحن عند قراءتنا للشعر المعاصر نجد أنفسنا أمام (رموز) وظفها شعراء ذلك العصر للتعبير عن أفكار ومضامين حددت علاقة الشاعر، وموقفه مما حوله، والقصيدة الشعرية المبدعة ومنها القصيدة المعاصرة عبارة عن مجموعة رموز فالطلل رمز، والمرأة رمز…وبوصفها رموزاً فإنها تحقق وحدة القصيدة المعاصر تحقيقاً بارعاً، ولا نستطيع أن ندافع عن هذه الوحدة دون أن نتعمق مفهوم الرمز، وهذه الرموز يأخذ بعضها برقاب بعض (134:ص122-130).
وقبل أن ندلف في الحديث عن (الرمز) عند هشام القيسي، علينا أن نقف وقفة مجلية لدلالته، وأهميته في فهم القصيدة، والمتتبع لتعريفات الرمز عند النقاد والدارسين يجدها كثيرة ومتنوعة، فمنهم من رأى فيه كائناً حياً، أو شيئاً محساً، جرى العرف على عده رمزاً دالاً على معنى مجرد، كرمزية الحمامة على السلام (131:ص181).
وفي هذا التعريف تحديد عام لمعنى الرمز، سواء أكان في نطاق الدراسة الأدبية، أم في نطاق المجتمع والدراسات الاجتماعية، المهم في هذا التعريف بالنسبة لدراستنا العلاقة بين الرامز والمرموز له في الاستعمال، وأما في نطاق الدراسة الأدبية ، فإن العلاقة بين الرمز وما يرمز له لا تقوم على أساس المواضعة أو الاصطلاح كما رأينا في التعريف السابق للرمز، وإنما تقوم على أساس اكتشاف نوعٍ من التشابه الجوهري بين شيئين اكتشافاً ذاتياً، غير مقيدٍ بعرف أو عادة، فقيمة الرمز الأدبي تكمن في ذاته، ولا تسقط عليه إسقاطاً (48:ص37).
على أن من المهم التنبيه إلى أن مبدأ (التشابه) في الرمز الأدبي يعتمد على وجود صفات في الشيء (الرامز)، يرتكز عليها المبدع في توظيفه له (الرامز)، هذه الصفة أو الصفات أراد أن يعبر من خلالها عن مضمون مشابه أو موازٍ، وبخاصة في الشعر المعاصر، فالشاعر المعاصر عندما وظف (الجبل) على سبيل المثال في قصائده، فإنه لمح فيها معاني القوة والصبر، فأراد أن ينسبها لنفسه مثلاً، ولذلك فقد عرفه بعضهم بأنه شيء محس يختار للدلالة على إحدى صفاته (156:ص17).
وقد عرف (الرمز) من الوجهة الأدبية، بأنه بنية مركبة على نحوٍ جمالي، كله توتر ومشاقة بين العابر الموقوت، والأبدي الدائم، بين المظهر الحس المتغير الذي يكون نواة الصورة الشعرية، وماهيات الأشياء بوصفها أساساً للكينونة، ولدوام ما هو واحد وليس متغيراً، إنه تركيب جمالي جامع بين الصيرورة والكينونة، صيرورة المظهر الحسي المتغير الذي يعبر الرمز عنه بالنشاط التخيلي المتمثل في الصورة، والإشارات المجازية،وكينونة الأشياء بتسميتها على ما هي عليه، بالتوغل في لبابها وكنهها (49:ص114).
إن هذا التعريف وإن كان ينطبق أكثر شيء على الرموز الصوفية في قصائد المتصوفة، إلا أنه يخدم بحثنا من حيث إشارته إلى الصورالشعرية وفنون البيان بوصفها مجتمعة رموزاً دالة على مضامين، وهذا ينسجم مع أساليب الترميز في الشعر المعاصر، على وفق كون هشام القيسي أحد رموز الشعرالمعاصر، وقد مربنا في مباحث التشبيه والاستعارة والكناية الصور المتكررة على مختلف تلك المستويات، وفي سائر قصائد هشام القيسي، والصورة الشعرية إذا عاودت الظهور في أكثرمن سياق، وتكررت، فإنها ستغدو رمزاً، قد يصبح جزءاً من منظومة رمزية.
ومن المجدي الإشارة إليه في مجال دراسة الرمز الأدبي، أن هذا النوع من الرمز ينبني على أساسين ضروريين، حتى يتحقق فيه وصف الرمز الأدبي،هما: (164:ص22)
الأول: مستوى الأشياء الحسية أو الصور الحسية التي تستحيل قالباً للرمز،ومستوى الحالات المعنوية (المجردات) المرموز لها، وعندما يتمازج المستويان في عملية الإبداع يخلق الرمز.
الثاني: لا بد من وجود علاقة بين المستويين السابقين، هذه العلاقة هي التي تهب الرمز قوة التمثيل الباطنة فيه، والمقصود هنا بالعلاقة (علاقة المشابهة، التي لا يقصد بها التماثل في الملامح الحسية، بل يقصد بها تلك العلاقات الداخلية بين (الرمز) والمرموز له، من مثل النظام والانسجام والتناسب، وما إلى ذلك من سمات أساسها تشابه الوقع النفسي في كليهما.
والحقيقة إن مبدأ التشابه يمثل في العمل الإبداعي، علاقة المبدع بما حوله من مظاهر الطبيعة، هذا التشابه يمنح الرمز(الطاقة الإيحائية) التي هي لوازم الرمز، وتجلياته في النص، فالرمز موضوع يأتي من حيث الظاهر مستقلاً، إلا أنه من وجهة أخرى يشير إلى موضوع آخر، لما فيه من دلائل تجعله مثيراً الانتباه في سياقه الذي يأتي فيه.
والطاقة الإيحائية في الرمز تعتمد على مقدرة المتلقي في تتبع دلالاته (الرمز) عن طريق استقراء سياق القصيدة، بل سياق النص الشعري بأكمله عند الشاعر المدروس، والقصيدة الشاعرة المبدعة أشبه بالكهف العميق في صدرالجبل، وتحتاج لإدراك كنهها إلى دراية وشجاعة، كدراية وشجاعة المنقب في الكهف، وقد أحسن من عرف الرمز بأنه كهف طلسمي خازن لكنزٍ من المعاني والدلالات، كامنة وراء ظاهر التصورات، ومخبوءة داخل خلايا القصيدة وخلف أليافها، والحامل في نهاية العملية الإبداعية مكنونات النفس الإنسانية، من دون أن يبيح للوعي حق إبرازها ودفعها إلى السطح، لهذا فالرمز عمق وبعد من أعماق أو أبعاد المعنى (121:ص298). وإنما يوصل معانيه ودلالاته بالإيحاء، ويتطلب ذلك الإيحاء مستقبلات حساسة ومرهفة لإدراك المراد.
ومما لا يخفى على الدارسين أهمية (الرمز) في العملية الإبداعية الأدبية، فهو وسيلة من وسائل التعبير الفنية عند الشعراء منذ أن ولد الشعر، بوصفه عملاً ذهنياً تشترك فيه القوى الباطنية للمبدع أولاً في ابتكاره، والمتلقي بوصفه مستقبلاً، فالقصيدة ذات البنية الرمزية، ليست مجرد إشارة لشيء تدرك بسهولة ويسر، وإنما هي أداة لتفجير كل الطاقات والدلالات المترسبة في عمق الشعور واللا شعور، يثيرها الوجدان والانفعال والخصوبة في تجليات القصيدة.
والرمز في حقيقته مجموع الصور الفنية في القصيدة، إذ تؤدي عناصرها دور الموصل للأفكار والمشاعر والطموحات للطبقة والمجتمع (110:ص15).
الذي ينتمي إليه المنشيء، ولو تعمقنا قليلاً في مكونات الرمز الأدبي لرأيناه ممثلاً في مجموع الأساليب الاستعارية والكنائية والتشبيهية، وهذه الأساليب تنضوي تحت مسمى (الرمز)، إن الرمز بهذا المعنى يستوعب (البيان) بأتمه، أوعلى الأقل صوره التي يتحقق معها التجوز في الدلالة (73:ص192).
وثمة مسألة مهمة ينبغي بيانها ونحن نتحدث عن مفهوم (الرمز)، تتمثل في نوع العلاقة في الرمز الأدبي بين الرمز وما يرمز له، أهي علاقة اعتباطية، أم علاقة تواضعية مقصودة، بمعنى آخر هل كان الذي رمز للعدالة بالميزان واعياً بالعلاقة بين الاثنين على سبيل المثال، وهل كان الشاعر المعاصر في اختياره رمزاً في أشعاره مدركاً طبيعة هذا الاختيار، وواعياً بحيثياته ونوع العلاقة بين رمز والمعاني التي ترمز لها ؟
إن اختيار الرمز ليس أمراً تعسفياً أو اعتباطياً، وإنما تدعو إليه ضرورة نفسية، إنه نتيجة لنوع من التفكيرالذي تميله الرغبة (33:ص75).
وهذا الحكم في اعتقادنا ينطبق على هشام القيسي في أسلوبه الشعري كما على غيره من المبدعين في العمل الشعري، وقد مرت إشارة القدماء إلى مكوث القصيدة عنده عاماً كاملاً وحولاً حائلاً، يعيد قراءتها ويقدم فيها ويؤخر، ويضيف ويحذف، وسلوك الشاعر لهذا الأسلوب من النظم يجعلنا نعتقد فيه أنه كان على وعي تام فيما يكتب ويختار من عناصر البناء الفني للقصيدة، وما يؤكد هذه الوجهة تكرار الرموز في أشعار ذلك العصر، وشيوعها ،وشيوع تقنية أدبية معينة، بل شيوع أية ظاهرة معينة، لا يمكن أن يكون عبثاً، أومحض صدفة، بل يستحيل إلا أن تكون وراءه دوافع اجتماعية ونفسية، وجهت السلوك أو النفس نحو هذا الاتجاه (121:ص148).
ولا سيما مع شاعر منقح صاحب صنعة شعرية خاصة، وتجربة حياتية خاصة أكسبته الحكمة والخبرة كهشام القيسي، إن هذا الرأي لايعني أن الشاعر في اختياره لرموزه كان على وعي في جميعها، والمقصود هنا بـ (الوعي) عالم الشعور أو العقل الظاهر على وفق مصطلحات النفسيين، بل إن هناك رموزاً أصبحت بتقادم الزمن، وتوالي الأجيال جزءاً من مكونات اللا شعور أو العقل الباطن، وتظهر في ثقافة المجتمع، وعلى لسان مبدعيه عن غير قصد.
وعوداً على بدء فنقول: إن تعدد موضوعات القصيدة المعاصرة لم يفقدها هذا النمط الخفي من الوحدة النفسية المتمثلة بتشكيل موضوعات افتتاحها التقليدي تشكيلاً يستوعب مخاض المعاناة الإبداعية، ويهيىء مدى القصيدة لاستقبال معالجة موضوعها الرئيس، بعد أن تتكفل لوحات الافتتاح بسحب المتلقي إلى مناخه، فلوحات الافتتاح بوصفها أحد الرموز جسر المتلقي ومنفذه إلى عالم التجربة التي بعثت الشاعر على قول القصيدة برمتها (135:ص157-158). ويأتي (الرمز الأدبي) وسط تلك العملية بمثابة موحد ولام أشتات القصيدة المعاصرة التي تبدو أول وهلة متناثرة متسلسلة لا رابط بينها.
وهشام القيسي كغيره من الشعراء المعاصرين، سلك مسلك تعدد موضوعات القصيدة ابتداءً من لوحة الطلل وانتهاء بغرض القصيدة، إلا أنه أضاف إليها ما زودته تجربته الحياة الطويلة من خبرة، وما عاصره من أحداث حرب التي دامت ثمانية سنوات، التي جعلته كأي إنسان مثقف واسع المعرفة أن يتأمل في هذه الحياة وأحداثها.
ومن المهم في هذا المقام ونحن نحاول استكناه دلالات الرمز عند هشام القيسي، الإشارة إلى تنوع دلالات الرمز الواحد، ذلك أن (الرمز) في حقيقته أداة لتفجير كل طاقات المعاني المترسبة في الشعور، واللا شعور، عن طريق الوجدان، أو تكثيف الانفعال الذي يعمل فكر المتلقي على محاولة إدراكه، قد يعبر الشاعر عن المعنى ببعض الظلال، أو يلجأ إلى أطراف المعاني، وعلى القاريء أن يتلمس من وراء ذلك كله دلالات، يدرك من إيمآتها ما لم يدركه الشاعر نفسه (103:ص11-12).
ذلك أن إبداع القصيدة يشترك فيه الشعور واللا شعور، وقد مرت إشارتنا إلى ارتباط الرموز من حيث منشأها بالشعور تارةً وبـ (اللا شعور) تارة أخرى.
وعندما نقول (دلالات) الرمز، فإن ذلك يعني وجود أكثر من مستوى دلالي، من المستويات الدلالية للرمز الواحد، ويمكن تقسيم المستويات الدلالية للرمز من حيث بعدها المعنوي وما يتعلق به من نواحي الحياة الإنسانية وجوانبها، على أكثر من بعد، من أهمها: البعد الاجتماعي، والبعد النفسي، والبعد الفلسفي (164:ص35).
وسنحاول في دراستنا تأشير ما يمكن أن نستكنهه من أبعاد دلالية للرمز عند هشام القيسي.
رمزية الطلل
تمثل لحظة الوقوف على الطلل إحدى المحطات التي يجب على الشاعرأن يستفيء في ظلالها، وهذا التقليد الشعري مجذر الأصول في النفس الشعرية لدى شاعر ما قبل الإسلام، ويرقى إلى عهود عميقة الغور في التاريخ الشعري، بل ربما كان ينحدر من خراب سد مأرب، أو من خراب الحضارات التي ازدهرت فعلاً في أماكن شتى من جزيرة العرب، وقد استدلت الدراسات الجيولوجية من خلال كثرة الوديان في شبه الجزيرة،على أنها كانت في يوم ما من التاريخ السحيق أرضاً خصبة وذات نماء، أهلها لتكون موطناً لحضارات طمست (121:ص136).
وما لنا نتكيء على نظريات (علم الأرض)، وبين أيدينا نصوص القرآن الكريم أصدق كتابٍ، وأوثق نبأ، إذ حدثنا عن أممٍ أبيدت بحضاراتها، وأصبحت أثراً بعد عينٍ ؟!
وكل شاعر في ذلك العصر لا يبدأ حديثاً، ولا يخاطب مجتمعاً إلا عن طريق استرجاع الماضي المتمثل في مظاهر حسية، شكل الطلل بؤرة توسع دوائرها، وقبس توهج أشعتها، والأطلال والرسوم المندرسة هي بقايا ذلك الماضي المحبب إلى نفس الشاعر، فيعيد تذكره كلما حدث دافع لذلك، تلذذاً وتمتعاً أمام تيار التقادم الذي يأتي على كل شيء ليدمره، ويمحو آثاره من ذهن الشاعر.
وإذا كان الطلل من حيث ظاهره مظهراً من مظاهر انتهاء الحياة، واندثارها، مما يستدعي البكاء والحزن، كما هو عند معظم الشعراء ،فإن الأمر مختلف عند هشام القيسي من خلال استقرائنا لنماذج الرمز عنده،وتتبعنا لأساليبه في مجموعته، من ذلك قوله:
(في المساء
لتشرب من نهر العشاق
ما ينفع القلب؟
سل اللحظات
في هذه الايام اليابسة
كي لا تبتعد عن وهج
دون الافق في فاتحة العمر
وابدا ثانية
عبر هذا السكون
بحرائق القلب
والشعر) (170:ص32-33).
ولو أمعنا النظر في هذه اللوحة الطللية لوجدناها قد بنيت على مجموعة من رموز الحياة، مما يجعلنا أن نرى فيها مظهراً من مظاهر الحياة وتجددها، بخلاف صورة الطلل عند معظم الشعراء، التي تعني نهاية حياة، مما يستوجب البكاء عندها.
ومن الواجب علينا ونحن ندرس النص الشعري لهشام القيسي أسلوبياً أن نضع أيدينا على مظاهر الحياة في هذه اللوحة، منها تشبيهه ذلك الطلل تم إعادته وتجديده، وقد تقدم الكلام على هذه الصورة التشبيهية ودلالتها، ومنها أيضاً وصفه تلك الأطلال، وفي ذلك دلالة نفسية سيأتي بيانها، كل تلك المظاهر تجعل طلل هشام القيسي يختلف عن غيره، إذ اقتصد في حشد رموز فناء الطلل، بل إنه ليحيل تلك الرموز نفسها رموزحياة، فحين تغدو الأطلال عند الشعراء وشماً باهتاً، لم يبق منه الزمن إلا آثاراً دارسة على الأديم، وفي ترجيع الوشم إعادة له كما كان، وذلك ما لا يتفق (موضوعياً) مع الصورة المفترضة للطلل، ويتساءل المرء عن سر هذا التوجه النادر، فتتملكه الحيرة، ولكنه يتذكر أن القصيدة برمتها قيلت، وقد أكتوت بنار حرب طويلة وتجويع وغزو ، فالطلل إذن في هذا المستوى رمز للحياة وتجدد تلك الحياة، بعد أن تنحت أسباب انتهائها المتمثلة بـ (الحرب) ولكي يعمق تلك الدلالة، نراه في لوحة مشابهة يقرن إلى ذكر (نهر)، إذ قال:
(لا شيء ينقصك غير دار يفتح النوافذ كل
يوم
ولا شيء يحزنك غير موت يضحك كل يوم
ها هي الذئاب
تنصت طيلة الوقت
والبكاء لا يجفف ينابيع العيون
وانت كما انت
لم تبك
ولكن تلتمس لهذه الدار
الغفران
وتغرد من زاوية قلبك
أعن مدينة تبايع عشاقها ترنو
أم عن طعم حسرات لا تميل الى صمت؟
في خلواتك تصطفي الانوار
ولا تندب المكان
وفي خلواتك لا يهدا
الوجد والزمان
يا صاحب الصباح
لانك دائما تتطلع
لن تحيد عن كلك المحكم بنهر النهار
ولن ترتب سوى يقظة منسوجة
في احشاء القرار
وعند زمان لا يطويه النسيان
تبقى تورق بالوان
والوان
وتبقى تصغي لفصول تضمد الاشجار
فما من سفر لا يهدر
ولا من عام يمر
ولا يمسه تيار
ان الاقامة
والمواقد
والاشعار
هي بعض طقوس الديوان
وهي سر البقاء
حلوة لا تعرف النسيان
ويا صاحب الصباح
يبقى الحنين اعمق
والحنين لا يهرب بعيدا
عن الدار) (171:ص77-80).
ويمكن أن نستشف دلالة أخرى للرمز، وهو بعد نفسي، إذ غدا هذا الطلل رمزاً التي طلقها على الرغم من حبه لها وتعلقه بها، والفراق ماحٍ قويٍ، ومؤثر في محو صورة الحبيب أو على الأقل يعمل على تسلية المحب عمن يحب بسبب أو بآخر، لكن هذا المحب سرعان ما تتداعى أمامه صورة حبيبه، وتعود أيامه إلى اللحظات المتوهجة بمشاعر الحب، وحرارة القرب، فيبعث في نفسه الحب القديم كأنه يولد من جديد، وهكذا فقد غدا (الطلل) مثيراً لكل مشاعر الحب الماضي الذي عملت الأيام على اندثاره، ومن المعروف أن ذات الحبيبة تتوحد بـ (مكان إقامتها) أو ديارها حتى تصير جزءاً واحداً، فإذا عملت الأيام على تلاشي ذات المحبوبة وهو الجزء الذاهب، فإن ديارها في لحظة الوقوف على الطلل تعود من جديد، فتعمل على إثارة مشاعر الحب من جديد (164:ص12). فالطلل في هذا المستوى رمز للحبيبة. على أن في استهلال الشاعر لوحته هذه بأسلوب الاستفهام دلالة أخرى، وبعد آخر من أبعاد الرمز، ويمكن حمله على (الاعتبار) ووضع حياة الإنسان في موضعها الحقيقي الذي سيؤول في يوم ما إلى آثار خاوية، بعد أن كانت دياراً تعج بالحركة والحياة، فهذه الأطلال بعثت التساؤل في نفس الشاعر عن حقيقية الحياة، فكانت الإجابة متمحورة حول الحقيقة التي ستصير إليها حياة الإنسان، وهي ذهابه، وبقاء آثاره دالة على وجوده في يومٍ ما، وليس هذا الاحتمال بغريب على شاعر كهشام القيسي ،يمتلك عقلية حكيمة متدبرة فيما حوله، ولاسيما أن له أبياتٍ في هذا المعنى، منها قوله:
(كم من مسرة فيك تسرح
وكم من جمرة فيك تقدح
اتسمح الاوراق لي
كي ابدد الاحزان
دون ان اغوص فيها؟
لا اعرف
ولكني
اعرف ان الحزن
يرحل بعيدا عن جذل
ويحاصرني
واعرف اني املك غيره
لكني لا احمل سوى مساحة
تنزف في الجهات
لن تنسى القصائد
ان تترك لليل
وللعشق
وللوطن النازف
لحنا جميلا
يرحل في الزمان
يتبعه حتى الموت
كي تعود لنا السلامة
وينطق الصمت
لن تنسى القصائد
كيف كنت تغني
والزمن الممزق يتاثر
في مطالع الجرائد) (171:ص101-103).
ومن المفيد ذكره في هذا المجال، ويمثل سمة أسلوبية عند هشام القيسي، أنه في معظم لوحاته الطللية كان يستهلها بأسلوب الاستفهام، مما يؤكد ذلك المنحى الاعتباري التدبري في حقيقة الحياة، وما ستؤول إليه.
ومن المهم التذكير به أيضاً ونحن نعالج النص الشعري عند هشام القيسي أسلوبياً، أن المقدمات الطللية لديه لم تأت على نمط واحدٍ في أبعادها الرمزية، كالتي تقدمت، بل أخذت أبعاداً رمزية أخرى، وذلك تبعاً لسياقها الذي تأتي به، فمن دلالتها الأخرى، أن قسما منها كان رمزا لإقفار الحياة، والعوز، وهي بذلك مقابل لوضع آخر مغاير تماماً، وعلى قطب التضاد، وهو وضع (الكرم) والخصوبة الرافلة بالحياة، كما في قوله في قصيدة مدح بها صديقه عدنان القطب حيث يقول:
(فيما كنا نجلس
فيما كنا نهمس
فيما كنا خلف هذا السراب
كانت تهتف للصورة الاولى
بقية اسرارنا النازفة
وبقية المسافات الممدودة
كانت تطوف حول اوراقنا المستعادة
الى هناك،الى جانب الصحو
مضيت
والايام التي كانت خلف الكلمات
اخذتك من جديد
لتغني
وتعود من جديد
اليوم ترحل عاليا
والذكريات في الطريق القديم
ترفرف ،تبعثر احلامنا المرمية
على القبر الكبير
امس عدت الى اليقين
تحمل تابوت الوهم
والرؤية تشير
حيث يحل النهار
وحيث يهطل كل كلام ابيض
ها انت اليوم بيننا
مثلما كنت تحلق
من هنا الى هناك
وكل هذي الدموع تسيح
وكل هذي الشموع تصيح
ثم تصغي
نم
ثم خذ راحتك
على ذاك الدرب الابدي
يا عدنان سلاما) (171:ص160-162).
هكذا استطاع هشام القيسي أن ينوع في دلالات رمزية الطلل، من خلال نوع السياقات التي جاء فيها (الطلل)، وقد استثمر هشام القيسي أمكانياته في سبيل تنويع مدلولات الرمز، فلم يكن نمطيا في توظيفه للطلل، بل نوع في الدلالات،ليثبت قدرته، وفاعليته في هذا المجال. وقبل أن ننهي حديثنا عن رمزية الطلل.لابد من الإشارة إلى سمة أسلوبية ليست خاصة بشعر هشام القيسي وحده، وإنما تتعلق بالشعربعامة، إلا أن هشام القيسي قد ترك عليها أثره من حيث صياغتها، تلك السمة تتمثل في اقتران ذكر الطلل بذكر المرأة ولا سيما الحبيبة، ولذلك فإن الطلل كالأم الولود التي لا يجف خصبها، وهذا الخصب ذو صور متعددة متحركة وساكنة، كالحروف والنقوش، والظباء والنساء، ويبدو الطلل كأنه منبت ثقافة، منبت الوعي وإدراك الماضي في مضيه واستمراره معاً، منبت الحاجة إلى تثبيت مركز الإنسان وسط الوجود عن طريق الكتابة، منبت إدراك قوة الخلق التي يمكن أن يتمتع بها الطلل: الطلل هو النبع الثر الذي ولد الظعائن، والظعائن نساء لايراهن المرء، شخوصهن مخبأة خلف الأنماط والأستار ولكن الشاعر يبحث عنهن وقد سرين في أنحاء الجزيرة ينشرن ما يشبه الود والسلام (95:ص64-65).
ومما يجب التنبيه عليه أيضاً أن ارتباط الطلل بذكر المرأة لا ينبغي أن يسحبنا إلى تصور خاطيء، مؤداه اقتران تلك الأشياء اقتراناً أبدياً، فنحن نعلم أن المجاميع الشعرية تضم مئات النماذج التي افتتحها أصحابها بلوحة الظعن، أو النسيب، أوالطيف في الأصل، فأكدوا بذلك أن صورة المرأة قادرة على أن تشكل بذاتها افتتاحاً مقنعاً لتجاربهم الشعرية(135:ص21).
رمزية المرأة ـ الظعينة
وثمة دلالة رمزية عامة لتوظيف الشعراء في العصور كافة لرمز(المرأة)، مؤداها: كون هذا النموذج الرمزي (المرأة) ذا قدرة عميقة على تمثيل معاناة الشاعر من جراء انفراط العلاقات الإنسانية كلها، التي أحس الشاعر المعاصر أنها سريعة التكوين على موارد المياه، سريعة الانهيار بنضوب تلك الموارد، فكان له أن يتحول بمعاناة الانتزاع من أواصر الصداقة والألفة والجوار والقرابة إلى لوحة الحبيبة الراحلة، ليودعها زخم الانفعال ويطوع تفاصيل صورتها، لتؤدي دور المهيأ للمناخ النفسي المطلوب لقبول التجربة الآتية التي يعالجها موضوع القصيدة الرئيسي(135:ص21).
(ما اصفى ايامه
تطلع من خطوة تعاشر
ولا تجاهر
مرئية في القلب
تسعف مثل الماء وله اليباب
وتجدد بقية الاشياء
يقول المصباح
رسمت في احوال الصمت
كيف يكون العشق
ويحيا
وكيف يشهد ان النعت النازف
يستوصي الذكريات
في هذا الزرع
يغادر وجه الايام
وفي قنديل يهمس
حتى تأذن الكلمات) (171:ص149-150).
ولو أمعنا النظر في تلك الاسطر التي كان هشام القيسي فيها مصوراً بارعاً، لوجدنا أنه استطاع أن يعطينا (أمكنة الصورة) كما استطاع أن يعطينا (زمانها)، وماذا ينقص الصورة بعد ذلك ؟ لقد وعت (اللون) و(الزمان) و(المكان)، غيرأن ذلك لم يحقق مراد الشاعر، فما تزال دقة التصوير تلزمه العناية بمواد أخرى، فنراه يلجأ للتفاصيل وذكر الجزئيات، فيوظف اللون مرة أخرى في تعميق دلالة الرمز.
ونحن لا ننكر أنه يختلط بعاطفة تشبه الحزن أو الإشفاق، ولكنه ليس حزناً ضريراً، بل هو أقرب إلى النور والتفتح والإشراق، وللحزن إشراقات غير قليلة ينبغي ألا تكون موضع إنكار و(التبصر) الذي يتحدث عنه الشاعر يعقم فكرة البكاء، أو ينقح مدلوله، ويوجهه إلى حيث يريد.. كذلك نلاحظ أن (التبصر) هو في هذا المقام إعمال القلب(95:ص63). وهو أنسب ما يكون في موضع يعقب لوحة (الطلل)، وفيه دعوة من الشاعر إلى تأمل دلالة (الطلل)، والاعتبار هنالك، كما أشرنا من قبل.
والحقيقة إن هذه اللوحة تحولت بوساطة عبقرية هشام القيسي إلى أشبه بمهرجان فرح، استخدمت فيه الألوان للتعبير عن هذا الفرح ،وتجسيد أجوائه، ولاسيما أن الشاعر وقومه قد خرجوا من حربٍ ضروسٍ، فهو أدعى إلى الفرح والطرب والاستبشار، ولهذا قال:
)مهلا
الزمن صفير عابر مقعد مملوء بالدم
يدخله العصر دون ان يلد بين يديه
او يتطلع الى ذكرى
ها هو الغياب يتوافد على هواجس اترعها
الهم
فالبكاء مفتاحنا
وهو غير مثقوب القعر
يا حسين بن سرمك
حينما اغلقوا ذاكرة الافق
توارت خلفنا الالوان
وكانت الريح بكماء
تمارس اصفرارها المغير
في مدافن الاسرار
قالوا ستنتهي
لكنها اجلست فينا تجعدات الليل
واضلع الظلام
اشباح تمسك بالمجهول
وها هي تعود للكهوف
تنبت المسامير
في اصوات الخضرة الطرية
ولا ترتجف
واقفة
تالفة
تعتكف
وفي يباب الازمنة المنقرضة
تكشف عن وجهها
هل اختصرت المدنية جملها
وتهجت الحروف؟)(171:ص110-112).
فالأجواء في شعر هشام القيسي أجواء قهرٍ وأحزان مصاحبة لنهاية الحياة، وبناءً على ما تقدم يمكن أن يقال: إن (المرأة) في شعر هشام القيسي قد استخدمت رمزاً لإشراقة الحياة، وتحولها من حال حسنةٍ، كانت تجمع الشاعر مع فتيات قومه، إلى حال حسنة أخرى، كما أن فيها دلالة اجتماعية على تجمع قوم الشاعر مرة أخرى بعد أن فرقتهم حرب مشؤومة.
على أن ذلك الوصف ليس مطرداً، بل وجدناه في مواضع أخرى يسلك مسلك غيره من الشعراء، فيأتي بالمرأة ملفوفة بأجواء الحزن والبكاء، وحينئذ يصدق عليه تأويل الدارسين الذي أشرنا إليه من قبل.
والأسلوب أو (النمط) الآخر الذي ذكرت فيه (المرأة) في شعر هشام القيسي التصريح بذكرها، إذ وجدنا أسماء فتيات أو (كنى) لهن في مقدمات قصائده الطللية، أو بصور مستقلة عبر أسلوب النسيب والتشبيب، أو الوصف لبعض أجزاء جسدها.
ومما يلفت النظر في هذا السياق ذكره صاحبته، بأسلوب الشكوى من إخلافها وعودها، حتى انقطع أو كاد حبل المود بينهما، وفيه استعارة كما هو ظاهر، وعلى الرغم من انقطاع العلاقة، نلمح الشاعر يصور ما فعلته معه لكي تحزنه، مما يوحي بنوع مشاعره تجاهها، وهي مشاعرحبٍ وتعلق، ومما يلحظ في أسلوب إيراده أيضاً ذكره مواطن الجمال في المرأة، وهو نوع من المجاز المرسل، قصد منه ذكر (في) حبيبته.
ولعل في ذكر المشبه به بوصفها أماً تأكيداً وتعميقاً للرأي الذي يعتقد في ذكر المرأة رمزاً لتجدد الحياة، وديمومتها عن طريق التوالد، ومما عمق هذا المعنى أيضاً ذكره قسماً من مواطن الجمال التي تجذب الرجل المحب إلى المرأة ليسكن إليها (73:ص217).
ولتتوحد فيه، على وفق كون المرأة شقيقة الرجل ونصفه الآخر، ويمكن أن نتلمس دلالة رمزية أخرى للمرأة في هذا السياق، وتتمثل في كونها رمزاً للعلاقات الإنسانية التي تنفرط بين أفراد المجتمع عندما تنتهي أسباب البقاء،وما ينتج عنه من مسببات الحياة الأخرى.
ويمكن أن نلمح الدلالات الرمزية السابقة في معظم نماذجه في هذا المقام، من ذلك قوله:
(انت في اخر الحب تصحو
ومن امواجه الراقدة
تسيل اسفارك المحترقة
بهموم
وعويل طويل
هذي الطعنات صيف
يوزع اجراسه
ولا يستريح
وهذي الاقامة بطيئة
تعصر اشتعال الكلمات
وحدك تنام في البحر الكبير
وحدك تحرر خوفك
من خوف الحزن
ثم تقول
اتيت عاشقا
اسائل الضفاف
لاحرق الغرام
في المدن المجهولة
هكذا تواجه في الليالي
ستائر الكلام
علك تفتح هواجس الطريق
وتقابل صفحات
تكتنز فيها
نبضة طويلة بلا حريق
او
تتوحد بذكرى تشاكس الندامة) (170:ص81-83).
وواضح أن دلالة انفراط عقد العلاقة بينه وبين صاحبته جلية وصريحة، ولا تحتاج إلى تأويلٍ، إلا أنه يمكن أن يقال إنه أراد من خلال التصريح بهذا الانفراط في علاقة عاطفية وغرامية بين رجلٍ وامرأة حبيبة، أن يوحي بطبيعة العلاقات التي كانت تربط بين أفراد القبيلة أولاً، وبين القبيلة والأرض التي تقطنها ثانياً، وهي علاقة واهية زائلة ومتغيرة لا تعرف الثبات، وهو أسلوب نهجه هشام القيسي في عدد قصائده.
وكما عهدنا هشام القيسي في مقدماته الطللية غير سالك نمطاً تقليدياً واحداً في ترميزه، فنوع في مدلولات (الطلل) الرمزية تبعاً لنوع السياق الذي جاءت فيه، فكذلك وجدناه في توظيف رمزية المرأة في أشعاره ، فلم يكن تقليدياً ومقتصراً على دلالة رمزية واحدة، بل نوع في ذلك بحسب طبيعة السياق، من ذلك قوله في توصيف مآل علاقته.
(حين انظر اليك
تبدو الايام زهرة
تنصت للعشق
وتصرح
وحين افتح نافذتي
وسط الصباح
تتوهم الاوراق
وتلوح
احلم بنفسي
في قلب يتنفس امسي
لا احد غير ما ترسل ايامي
وما سياتي
فانت فراشة
تطوف لتصدح شمسي
ليتني فم يشكو
لشكوت الزمان
وهمسي
في الصبح الباكر
في الليل
اردد في سري
تكفي خطوات العشق
حرائق تطرز ابجدية نزفي
لا اغلق نافذتي
عمن تناديت طويلا
فممشى الذكريات مفتوح
يلقي في ايامي
بعض اسراره
وممشى الحدائق يذكرني) (171:ص142-144).
إن قراءة متأنية ومتأملة في هذه الاستهلالة تكشف عن النتيجة التي استخلصها هشام القيسي من علاقته العاطفية مع صاحبته، فتلك العلاقة كانت بمثابة (المسكر) الذي غيب عقل الشاعر، وجعل عليه غشاوة، فكان كالنائم المغشي عليه، فلا يعي ما يفعل، ولهذا وصف فعله في علاقته، والرجل في غمرة العشق يغيب عقله، ولذلك نستطيع القول في الدلالات الرمزية للمرأة في هذا السياق: إنها رمزت لمرحلة عمرية من سن الإنسان الذي يسعى إلى إشباع لذته النفسية المتطلعة نحوالمرأة،وكل ما هو يتلاءم مع سن الشباب، وكأن الصبابة في حقيقتها تناقص وصف الرجولة، فكان على الشاعر أن يتجاوز تلك المرحلة،إلى نضوج العقل، واكتمال الرجولة، ولاسيما أن هذه الاستهلالة جاءت في مقدمة قصيدة مدحية توجه فيها الشاعر نحو الذي رأى فيه مجتمع صفات الرجولة، فكان على افتتاح القصيدة أن يطوع تفاصيله لتوفير المناخ النفسي المناسب لقبول النموذج الإنساني الأمثل في تجسيد الرجولة (135:ص28).
كما نلمح فيها بعداً رمزياً آخراً تمثل في مقاومة الشاعر المحب الخضوع إلى سلطان الهوى، ومن ثم تسلطية الحبيبة، ومن النساء من إذا شعرت بتعلق المحب بها، فإنها تستثمر ذلك في فرض سيطرتها عليه، فأراد الشاعر من ذلك الرمز إلى رفض خضوع.
ولعلنا بعد ذلك الاستعراض نستطيع القول إن هشام القيسي لم يكن عشوائياً في اختياره لرموزالمرأة، وأساليب ذكرها، إن كانت في وصف المراة متسترة مخبوءة، أم مستقلة مصرحاً بها في مقدمات قصائده الطللية أو التشبيبية.
ومن خلال ذلك كله فقد رأينا تداخل الأبعاد الدلالية لرمزية (المرأة)، بين ما هو نفسي، وما هو اعتباري تفكري، ولاسيما في التدليل على انفراط العلاقات الإنسانية، وصيرورتها إلى الزوال.