من خلال الحياة التي نعيشها منذ الطفولةِ حتى لحظة التربع على عرش الكهولةِ تمر أحداث ووقائع يكون لها دور في رسم جزء من مكون نفسي لايمكن أن يزول مهما حدثت حوادث أخرى في طريق حياتنا قبل الممات. ربما تكون تلك الوقائع مأساوية أو مضحكة أو مصيرية تسبب لنا ضرراً كبيرا . حينما – نجترُ تلك الوقائع – مع أنفسانا عند لحظات الصمت ونحن نجلس في مكانٍ هاديء أو نسير بعجلة متحركة سريعة مسافرين من مكانٍ الى آخر. على طول الطريق الممتد بين نقطة الشروع ونقطة النهاية نبقى نضرب أخماساً بأسداس- كما يقولون- ونتمنى أن يرجع الزمن الى الوراء كي نتصرف بطريقةٍ نعتقد أنها ألأمثل في معالجة ذلك ألأمر الذي وقع لنا. وأنا أجلسُ وحيداً هذا اليوم في منتزه داخل المدينة تحت ظلال شجرة عامرة باسقة كانت مصداً لجسدي من سقوط أشعة الشمس القادمة من كل ألأتجاهات. على حين غرَّه, وجدتُ نفسي أذوب في عالمٍ من ذكرياتٍ مرت قبل سنواتٍ عديدة. ثلاث وقائع كانت قد سببت لي شرخاً في العقل البعيد – اللاواعي جعلتني أجتر تلك الذكريات بألم وحسرة وإستهزاء أحيانا من المصدر المسبب لتلك الصدمات الثلاثة. سأحاول أن أمر على كلِ واحدة من تلك الوقائع الصادمة كي أشعر بألأرتياح كمريضٌ نفسي يذهب الى محلليْ ألأمراض النفسية ليتحدثوا عن أشياء ليس لها تأثير مباشر على حالتهم الصحية ولكنهم يشعرون بألأرتياح حينما يفرغون مافي جعبتهم الى الطبيب النفسي ليسمعوا منه كلاما مقتضباً من أن حالتهم لاتشكل أي خطورة ممكنة على سير الحياة التي يعيشونها. يعود بعدها المريض منشرحاً مطمئناً أنه في أتم الصحة والعافية ولم يكن مرضه إلا واهساً يدور في ذهنة يسبب له بعضاً من عدم ألأرتياح. الحالة التي كنتُ أمر فيها وأنا جالسٌ بلا صديقٍ بلا حبيبٍ أشاركة لحظات الخلوة في ذلك المكان ألأخضر البهي. حسناً صديقي القاريْ – لاتحاول أن تصفني بالضياع وعدم اللجوء الى أماكن مزدحمة كي أكون منشغلاً لنسيان تلك الوقائع المزعجة. لنقل انه أعتراف في زمن السراب والامبالاة. كأن هناك مخلوقاً يتحدث الى الفضاء الفسيح أو الى فراغٍ ناشيءٌ من العدم. الواقعة الصادمة ألأولى ” …كلمتان فقط كانتا السبب في إحتقاري لمدرسين, أحدهما مدرس التاريخ – ألأستاذ رزاق- حينما سألته عن معنى كلمة – عصر الامبالاة- وكان ذلك عام 1972 – الثاني متوسط-. مصدر الكلمة جاء من عنوان رواية – مغامرات كارلا- للكاتب ألأيطالي البرتومورافيأ. على غلاف الكتاب قرأت العنوان بالخط العريض – مغامرات كارلا- أو عصر الامبالاة. من المؤكد أنني طالعت الرواية أكثر من مرة وأنا في الثاني المتوسط- كوني -وهذا إعتراف- كنتُ مراهقاً أبحث عن أي رواية تتعلق بالحب ومعاناة العشاق في ميادين مختلفة. لم اقاطع مدرس التاريخ أثناء شرح الدرس . في الفترة التي إنتهت فيها كافة الشروحات المطلوبة للموضوع المقرر في منهج التحضير اليومي لذلك الدرس إستاذنتُ مستفسراً عن تعبير – عصر الامبالاة-. نظر بأستهزاء وإستدار بوجهه الى الطرف ألآخر من الصف وراح يسير ذهاباً وإيابا. شعرتُ أن سكيناً حادة نفذت الى صدري. لولا أن تمالكتُ أعصابي لقلتُ له – أنت مدرس فاشل ولاتريد أن تعترف بأنك لاتعرف المعنى. ظلت هذه الكلمة عالقة في ذاكرتي سنوات وبعد البحث عن المعنى وجدته كما يلي ” اللامبالاة حسب علم النفس هي حالة وجدانية سلوكية، معناها أن يتصرف المرء بلا اهتمام في شؤون حياته أو حتى الأحداث العامة كالسياسة وإن كان هذا في غير صالحه. مع عدم توفر الإرادة على الفعل وعدم القدرة على الاهتمام بشأن النتائج.. أو هي قمع الاحاسيس مثل الاهتمام والاثارة والتحفز أو الهوى، فاللامبالي هو فرد لا يهتم بالنواحي العاطفية أو الاجتماعية أو الاقتصادية وكذلك قد يبدي الكسل وعدم الحساسية. وقد يكون هذا التصرف جراء عدم قدرة المرء على حل المشكلات التي تواجهه أو ضعفه أمام التحديات. إضافة إلى استخفافه بمشاعر الاخرين أو باهتماماتهم الثانوية كالطموح والامال والهوايات الفردية أو المشاعر العاطفية المختلفة كالحب والكراهية والخصام والحسد وغيرها إذ أن اللا مبالي لايجد اي فرق بين كل تلك المشاعر وان لم يبد هذا الامر صراحة امام الاخرين .” يقودني هذا الموضوع الى القول أن المدرس لم يكن موفقاً في التعامل مع الواقعة التي حدثت في ذلك الزمن. أنا لاأعرف إن كان المدرس لازال على قيد الحياة..ولكنني أعرف أن تلك الحادثة ظلت منقوشة في ذاكرتي منذ عام 1972 حتى هذه اللحظة وكلما تذكرتها أشعر بالقرف من طريقةِ ذلك المدرس وطريقتة غير الحضارية والتعليمية تجاة طالب أراد أن يستكشف شيئاً ما. الكلمة الثانية التي سببت لي حالة مشابهه كانت في الصف ألأول لدراستي اللغة ألأنكليزية في كلية ألآداب . بينما كنتُ أطالع إحدى المجلات العالمية شاهدت كلمة كل العراقيين يعرفونها بعد عام 2003م. كلمة – فَكْ- . طبعاً هي كلمة أمريكية بذيئة تعني – ألأتصال الجنسي-. ذهبتُ الى الدكتور باسم المتخرج من الجامعات ألأمريكية في ذلك الزمن. كان جالساً في مكتبة كلية ألأداب وبالصدفة شاهدتة . تقدمتُ بثقة وسألتة ” دكتور مامعنى كلمة – فَكْ؟- للتاريخ أقولها بصدق ..لم أكن أعرف معنى تلك الكلمة. نظر اليَّ بغضب وقال بالحرف الواحد ” ولدي إترك هذه الكلمة إنها قذرة” . نظرتُ إلية وكأن مطرقة فولاذية هوت على رأسي. هل يُعقل هذا؟ أستاذ متخرج من الجامعات ألأمريكية وشاهد العجب هناك من علاقات غرامية وجسدية بحجم الماء في دجلة والفرات . يخشى على طالب في الصف ألأول كلية من الضياع وألأنحدار نحو الرذيلة والسقوط في الهاوية . لهذا السبب رفض أن يقول لي المعنى. لو قال لي ” هي تلك العلاقة الجسدية بين الرجل والمرأة أو التزاوج بين جميع المخلوقات الحيوانية والطيور” . هل سأنحرف؟ إن هذا لشيءٌ عجيب. في المدارس ألأوربية وألأمريكية يعلمون التلاميذ دروس الثقافة الجنسية بشكل علني. من الجدير بالذكر أنني تعلمت تلك الكلمة قبل أن أخرج من المكتبة. كان الطالب الصومالي الطويل المؤدب جدا يجلس في الطرف البعيد من المكتبة. همستُ في أذنهِ عن المعنى ضحك وقال بالحرف الواحد-. ” ألأتصال الجنسي بين الرجل والمرأة”. حقاً إن هذا الوضع في ذلك الزمن التعليمي يُشعرني بالضحك. ذلك ألأستاذ الجامعي لايعرف أنني منذ أن كنتُ في المتوسطة قرأت كل الكتب الجنسية الموجودة في المكتبة الصغيرة في مدينة المسيب. إضافة الى مجلة طبيبك للدكتور صبري القباني – رحمه الله- لم يفتني عدد واحد طيلة تلك الفترة. وهذا ألأستاذ الجامعي يخشى عليَّ من الضياع ولذلك رفض أن يعلمني تلك الكلمة. في هذا الزمن – زمن النت- قبل أيام شاهدتً طفلاً في السادس ألأبتدائي يجلس قرب جدار بيتهم وألأطفال زملائه يتجمعون حولة وكان يعرض عليهم فلماً أباحيا..شاهدتُ هذا بعيني. الواقعة الثانية حدثت لي وكانت واقعة صادمة حقاً كان ذلك عند التخرج من الكلية. من المعروف للجميع أن طالب الكلية في ذلك الزمن – عام 1981م حينما يتخرج يساق الى الجيش لخدمة العلم كما يُطلق على ذلك. ذهبت مع الذاهبين الى العسكرية وشاهدتُ ويلات وحروب ومآسي لاتنتهي – ولاأدري كيف بقيتُ على قيد الحياة-؟ بعد خمس سنوات من جحيم ألأيام المرة ..وأيام الجحيم التي ليس لها نهاية صدر أمربتسريحي من الجيش بقانون خاص يشملني في ذلك الزمن. راجعت الكلية لمعرفة مكان تعيني آنذاك- فوجدتُ أنني ينبغي علي ألألتحاق الى دائرة الكمارك كوني متخرج من قسم اللغة ألأنكليزية. في اللحظة التي وقفتُ فيها أمام المدير العام المسؤول عن الكمارك في وزارة المالية جالباً معي كل الوثائق الرسمية المطلوبة, نظر إليَّ وهو يصرخ ” أين كنتَ طيلة هذة السنوات الخمس؟ أنت متخلف عن الوظيفة؟ ” . نظرتُ إليه وكأن صاعقة نزلت على رأسي.” كنتُ في البصرة حيث الحرب المستعرة أخدم في الوحدة الفلانية” . أجبته بغضب. أكد لي أنني غير مشمول بالخدمة العسكرية وذلك لصدور قرار بتعيين الشباب من حملة اللغات المختلفة في دائرة الكمارك. أنت متخلف عن الوظيفة. بعد سجالات ومباحثات منطقية كثيرة أعطاني أمر التعيين. السؤال المطروح هنا. لماذا لم تبعث الكلية أو دائرة التجنيد أو دائرة الكمارك كتاباً رسمياً يبلغني بالحضور فورا؟ أم أن ألأهمال ألأداري هو المسؤول عن هذا الخطأ الجسيم في تاريخ حياتي وتاريخ العمل ألأداري. ؟ ألا يحق لي بعد تلك الواقعة أن أجتر واقعي الصادم وأنا أجلس وحيداً في منتزهٍ في وسط العاصمة وأستذكر تاريخاً ذهب مع الريح . الواقعة الطريفة الثالثة- يمكن أن أطلق عليها بالطريفة لأنها لم تكن جدية ولكنني إستنتجتُ منها أشياء أخرى. كنت مع الصحفية البريطانية ليز ثركَورد من صحيفة ألأندبندنت عام 1987 . سافرت معها الى البصرة لمدة يوم كامل ليلاً ونهاراً لأجراء حوارات مع المواطنين والمسؤولين في البصرة ومشاهدة تأثير الحرب على المدينة. ربما ينتبه قاريء ويقول ظهر تعيينك في الكمارك فما دخل الصحافة بالكمارك؟ هذه قصة طويلة سنذكرها في مناسبة أخرى. لكن بكلمة واحدة هي أنني غيرت تعييني من المالية الى ألأعلام الخارجي. أكثر من 24 ساعة وأنا أترجم لها كل الحوارات الرسمية وغير الرسمية ولو حسبنا عدد الكلمات التي ترجمتها لها مجانا لكانت بالمليارات. في طريق العودة على الطريق العام سألتها عن الفرق في المعنى بين كلمتين. أجابتني وأستفدتُ من المعلومة. الغريب في ألأمر أنها قالت لي بأنني يجب علي أن ادفع لها 10 دولارات لأنها أعطتني معلومة تريد ثمناً لها. قالت بأن كل شيء في بلادها له ثمن وهي تتبع القوانين وتقاليد ومباديء العمل هناك. التفتُ اليها قائلاً ” حسناً سأعطيك الثمن المطلوب ولكن قبل ذلك أرجو أن تحسبي عدد الكلمات التي نقلتها اليك من العربية الى ألأنكليزية وأستقطعي ثمن الكلمتان ” . ضحكت وقالت بأنها لاتستطيع أن توفي الثمن حتى لو أنها عملت سنة كاملة. وأكدت لي بأنها كانت تمزح. وراحت تتحدث لي عن مفاهيم العمل في بلدها وعن الرأسمالية وسيطرت أصحاب رؤوس ألأموال على السوق والبطالة وكل شيء. من خلال إجتراري لتلك الوقائع الصادمة وبعد كل هذه السنوات وجدت أن الحياة ماهي إلا مسرح كبير كل فرد يعتلي حشبتهِ لفترة محددة ثم ينتهي دوره ويخرج من المنفذ ألاخر لذلك المسرح. يبقَ شيء معلق في ذاكرة المشاهدين ألا وهو كيفية أداء – ذلك الممثل لدوره – على خشبة المسرح. هل كان متقناً لدورة أم أنه مجرد كومبارس ليس له وجود سوى لحظات يدخل من هذا الباب ليخرج بعد قليل وينتهي دوره على المسرح. هل ترك بصمة تجعل ألآخرين يتذكرونة ماداموا على قيد الحياة, أم تنتهي الحياة ولا يستذكره مخلوقٌ بشري.
Greenforst57@gmail.com
* عن صحيفة الزمان