إشارة :
احتفاء بتراث الفيلسوف العراقي الراحل الدكتور “مدني صالح” ، وبمساهماته الفذّة في الثقافة العراقية والعربية ، تبدأ اسرة موقع الناقد العراقي بنشر هذا الملف الخاص عنه ، والذي تدعو الأخوة الكتّاب الأحبّة إلى المساهمة فيه . وسيكون الملف مفتوحاً من الناحية الزمنية على عادة أسرة الموقع حيث لا يتحدّد الإحتفاء بالفكر بمساحة زمنية معينة .
المقالة :
بين الشاعر الذي لبسه اليتم اردية من التأمل، وصيرته السياسة المأثومة، صانعا ماهرا للكلمات، والفيلسوف الذي شب وهو يحلم بأن يكون كاتباً مسرحياً، فلقد بهرته الأضواء، وجعله شكسبير مأخوذاً بتلك البناءات الدرامية المرتكزة الى تأسيس شعري جعل العالم كله يهيم في بحور جوليت وعذابات عطيل وجنون هملت، حمل العالم نسخة من مسرحية شعرية، ترتكز على موضوعة اجتماعية، وراح يبحث عن مخرج أو ناشر، حتى وجد ضالته، عند مجلة السينما والمسرح كان ذلك بعد وفاة السياب بعشر سنوات، لكن الحماسة انطفأت فجأة، وتحول العقل الناشط في السؤال الى ضفة النهر الثانية، ماذا لو جرب كتابة القصة القصيرة!!
يبدوالسؤال محيراً، والاجابة هائمة في قلق الاختيار، فالرجل الحالم دوره مليء، والخزائن عامرة، لهذا أخذت لحظة الاكتشاف منه، ما لم تأخذه من غيره، بين المسرح والقصة بون شاسع، لكن عقل الانسان لا تعجبه السكونية، ولا يؤمن بأن ثمة حقيقة أبدية، امتلأت كراريسه دون ان يجرأ على نشرها، وأمتدت علامات اكتشافه الى الرواية، فتعرى أمام اتساع الأزمنة، وعاش أحلام العشق وتعمد الوجع، وظل اللهو سرمد المغريات، لكن النمطية جعلته يبحر مثل سندباد الى عوالم كانت بالنسبة للآخرين طلاسم ومهالك،
وغثيانات، فلم يتعب الانسان نفسه بسؤال قاله إيليا أبو ماضي، أنا لا أدري من أين جئت ولكني أتيت.. فلقد أبصرت طريقا فمشيت!!
كان السؤال يدق ساندين القلب، فتنفجر الإجابات من بطون الكتب، قرأ، فلاسفة اليونان في عصرهم الأول، فوجد ان للفلسفة سلطة، وأنظمة، ومسالك تقترب من الشعر أحياناً، وعرف أن مفاتيح معارف الشعوب مدارسها الفلسفية، لأن من خلال الفلسفة لا غيرها يمكن ان تقيس حرية الفرد، واستقلال عقله، ومن خلال الفلسفة يمكنك ان تتحكم بالمواقف والقيم، ولكي يظل مبحراً في ما أحسه قريباً الى نفسه، أدرك الأستاذ ان لا حضارات حقيقية دون سؤال فلسفي حقيقي، لكنه خاف ما قاله يوما استاذه ـ من أن للتفكير الفلسفي علاقة وثيقة جدا بالدين محلالا، مبتعدا كل البعد عن الأقيسة العامة، رمى بمزاجه الشخصي بعيداً، ونهض بموضوع الفلسفة العربية، حاول ان يتلمس الود مع الكندي فوجده ساكنا، واستقل مراكب المحنة المحنة ليجد الفارابي متأملا عقلياً، جعل من الفلسفة حكما على الأشياء، وبين أحضان اخوان الصفا وخلان الوفا، ادهشته الحياة الحسية، واستخدامات اللغة، وعرف ان للمعاني والتراكيب الجديدة دورا في معرفة الفكرة، ولأنه خيالي بالفطرة، عرف ان طريقه في المخالفة طويل، فالفلسفة امتحان للتراجع وجنو لدى العامة، لكنه مجنون تعمد اطلاق أفكاره بين تلاميذه، كان ينتقل بسرعة الريح من الفلسفة الطبيعية ورائدها الأول طاليس المالطي، الى كانت، ومن فيثاغورس الصوفي الباحث عن العلاقات الكونية بين الفرد والجماعة، وروابط القربى بين الأشياء الحية، والفارابي، المهتم بنظرية الخلق، لقد أعطى الفارابي الإجابة لسؤال قديم، كان الأستاذ بحاجة اليه (ان الوجود كلمة بديهية ولا يحتاج الى أي إيضاح، ولا يمكن حده منطقياً لأنه لا توجد كلمة أوضح وأعرف منه) لهذا استقر الرأي لدى الأستاذ من أن الوجود ليس عنصراً من عناصر الكون، وانغمست روحه في عذابات الانسان، فازدادت وحدته، وشعر ان الحقيقة الوحيدة في هذا الكون هي الله وجوهر الفرد والفراغ!! تساوت لديه الفوارق، فعاد الى الشاعر الذي أدهشه ذات يوم، راجع السياب بدقة الفيلسوف لا دقة الناقد فقال، هذا هو السياب وقدمه على طبق من معرفية فلسفية وانسانية لم نألفها من قبل.. فكشف من ان الشاعر مصاب بالحيرة، وأنه يتأرجح بين فلسفتين مادية ومثالية، وأعلن بجرأة ان السياب ما كان شاعر هوى وإنما شاعر فجيعة واستغاثة وتوجع واستصراخ، يتوجع الى امرأة، ويستغيث بامرأة، ويستدر عطف امرأة، فأين الأستاذ الفيلسوف من هذا كله، لم يبتعد رويدا عن حدائق الإناث ويتوغل في سراديب الأسئلة والإجابات، والإجابات والأسئلة، أو لم ينس المعلم شواطىء أحلامه، فراح يغني لوحده أغاني الموت، مثلما غناها السياب يوما!! أو لم تغب شمس محبته فراح يتحسس المراثي لدى شاعر آخر، هو البيات، أعجبته رحلة الشاعر بين العقل والخيال فقرا، اباريق مهمشة وحدد الذاتية ومعايير الجمال، ورسم مصبات المتعة الحسية، وتمنطق بغريب العلاقة بين الحلاج والبياتي، لكنه ظل يردد ما نسجه البياتي شعرا (أهكذا أصبحت الكتابة.. معادلا للموت والحياة) أضحت الأيام لدى الأستاذ الذي ازدادت غربته فأعتزل الناس، عتمة، فالوطن أجمل المهن فيه صناعة التوابيت وحفر القبور، صار ينصت الى كل هذا العدم، وهو محاط بالسام وظلمة الموت، فلقد ارهقته فكرة العجز، وأخافته محنة الكبرياء، فليس ثمة من أزمنة للغناء، ولأحاسيس النبيلة، ليس سوى صوت السياب يأتي من بعيد، بعيد جدا (بالمدينة وهي توشك ان تضيق بساكنيها.. نبئت ان القاصفات هناك ما تركت مكانا.. الا وحل به الدمار.. تعاظم الفكر الفلسفي لدى الفيلسوف الأستاذ وناحت أفكار (شلر) بين يديه، فردد مقولته الرائعة، ان المحبة تنصب دائماً على قيمة من القيم، فصرخ، سيدي كيف والقيم داستها أقدام غزاة لا تعرف ان هنا منشأ الحب؟!
يخوض وفلاسفته الأصدقاء، في دروب فلسفة العزلة، فيجدد انها تجربة روحية، تعلو على كل التجارب الأخرى، وجد انها حقيقة، كان (امانامونو) قد قالها، ان الوطن لا يحتاج الى شفقة، بل الى الحب، ولا مبرر فلسفي للربط بينهما، لهذا تضخم كبد الآلم، وبدا الحزن يضغط على الشقاء، لقد تهدمت لدى المعلم الثالث، محبة الحياة الجمعية المشتركة، فمضى يخلق من تصاوير الحب تصاوير للموت، أغلق التلفاز، وامتنع عن سماع هذيانات الساسة، وراح يفكر، في كيفية الاسهام في خلق دراما الأمل، ذلك بحسب ما يعرف، ان الحب يسكن صميم الذوات العليا، فكيف بذات فلسفية اصيلة مصابة بقهر الانعزال وحلم العزلة؟! لقد عطل الاستاذ مجسات الانا لديه، عن عمد، وسد نوافذ العالم الخارجي، وكانت بشريته هي مفتاح وجوده الوحيد، أمام أكداس المعارف التي كان يتعقبها أيام العشق الأول ليل نهار، تلازمت لديه الحدوس والأخيلة، وبعناد عارف الغى قوانين المنطق والعقلنة، فشعر ان الفن الأداة الوحيدة التي تمتلك حضوراً متميزاً لاستخدام الترميز والإحاطة بكل مواقع الواقع، عاد يحس روحه بين ثنايا أنفاس (أرسطو) فوجده يشير الى الشيخوخة، بقول خطه فوق بساط علومه الشيخوخة تؤدي الى الجبن والخوف، لأن الخوف نحو من التبرد، ثم هم محبون للحياة، ولا سيما عند آخر أعمارهم مسح الحجب عن عينيه، وأنطلق الى العرفانية، راح يبحث عن سلوى، فوجد صاحبه الشاعر، يصرخ وحيداً، باحثا وسط العتمة عن انسان مطلق، ذلك لأن اللام قد نهش عميقا في فؤاده (أصرخ في شوارع لندن الصماء.. هاتو لي أحبائي).
نفد صبر المعلم الثالث، الفيلسوف العرفاني، فخلق مركبا، من بحور موجعة، وبصمت، اختلس السفر.. وانحدر تاركا وراءه اسئلة عن علل الوجود والموجودات، وقصص لا شك في صحتها وربما قصائد من شعر، وصلاة روحية لا يفصم الموت عراها بينه وبين الفلسفة، فلقد حط بمركبه هناك، ليرى عن كثب معلميه، ويزداد يقيناً بالسؤال، ما معنى ان يستنطق الانسان الحكمة، ويصر على الرأي الذي يختار؟!
أقعدوه، مقعد صدق وحب بينهم، فهو الحلقة بين غرب الدنيا بفلسفتها وشرقها المنحوس، نظره ابن سينا وقال: اي بني مرحبا.. أأعيتك الاجابة وضاق بك السؤال!! والتفت الى الجمع في مجلس الحكمة الرباني وقال بتفاخر ـ هذا هو مدني صالح!! رمقه الجمع بمودة وإعجاب، وسطعت مرايا أعماقه، فردد في مقاله شاعر يوما، اخذوا الشاعر الى الجنة فصرخ أريد وطني، وبغير ما تردد انهمر قلبه، فصرخ ـ أريد وطني!!
فوقف المجلس، القائم بالحكمة، وبهدوء، أخذوه الى صدورهم، مرددين ـ هذا هو مدني صالح!!
* عن صحيفة الإتحاد