صومئيل بيكيت: بروست (الفصل السادس)
ترجمة: حسين عجة

عند ذهابه إلى فندق “آل غيرمونت”، يشعر الراوية بأن كل شيء قد ضاعَ، وبأن حياته لم تكن سوى سلسلة من الإخفاقات الفارغة من كل واقع، إذ لم يبق منها أي شيء، لا من حبه “لجلبرت”، للدوقة “غيرمونت”، ولا حبه لجدته. أمّا في الوقت الحاضر، فلم يبق من حبه “لإلبرتين”، و”كومبري” أو مدينة “بالبيك” و”فينوس” غير الصور المُشَوهةِ لذاكرته الإرادية. وها أن حياته برمتها تتمدد أمامه، على شكل تعاقب لحالات من التفكك وإعادة التنظيم، حيث لم تعد لا الغرابة ولا الجمال مقدستين، لا شيء غير أعمدة سأمه الصلبة التي تَحَملها، والتي استُنفذتْ ضمن انحلال الأعوام الجارف؛ حياة مؤجلة في الماضي ولا معنى لها في المستقبل، وهي محرومة من كل ضرورة فردية دائمة، حداً لن يكون فيه موته الآن أو غداً، أو بعد عشرة سنوات، سوى نهاية وليس خاتمة “termination but not conclusion”. كذلك يعتقد بأن عبارة “بيرغوت” “غبطة العقل” فارغة. فالفن، الذي طالما آمن بأنه العنصر المثالي الوحيد الذي لا يمكن اغتصابه في عالم فاسد، يبدو له الآن، أمّا بسبب عوزه الدائم للموهبة، أو لأن الفن يتضمن بنفسه على الافتعال، شيئاً غير واقعياً وعقيماً كالمعماريات الكاذبة للمخيلة –”ذلك الأرغن المخبول الذي لا يَعزفُ إلا نغمةً خاطئةً؛ وبأن أدوات الفن –بياترس وفاوست و”لازورد السماء الواسع والمدور” والمدن المحاطة بالبحار- كل الجمال المطلق لعالم سحري، ما هو إلا شيء سوقي ولا واقعي ولا قيمة له كحال “راشل” أو “كوتارد”، شاحب، ممزق، قاسي ومفكك ويخلو من الفرح كقمر شيلي “Shelley’s moon”. بعد أعوام من العزلة العقيمة، إذاً، يعود بلا حماس نحو ذلك المجتمع الذي قد كفَ منذ وقت طويل على إثارة اهتمامه. والآن، وهو يجد نفسه عند أطراف التفاهة، التي سهلَ حضورها نفس ذلك الحزن والتعب اللذان شعر بقرفه منهما بعد لحظة من التبصر العقيم (سهلتها، بحكم ادعاءات ذاكرة مُثبطةً، يختزلان في هذه اللحظة إلى مجرد تقديم نفعي)، ها أنه يتلقى ذلك الوحي الذي غالباً ما تمّ نكرانه من قبل ضغط وتوتر روحه، والذي اخفق ذكائه من إنقاذه من لغز زلزال انهيار الشجرة، الوردة، الحركة والفن، وجعله يعيش تجربة دينية بالمعنى المنطقي وحده للنعتِ، كما أنه يتلقى بدفعة واحدة إيحاء ونداء، لذا سيفهم، في النهاية، وعد “بيرغوت” وما أنجزه الرسام “إلستر” والرسالة الموسيقية “لفنتاي” من فردوسه وعبر مجرى حياته المؤلم والضروري، ومن التفاهة اللانهائية –بالنسبة للفنان- لكل ما هو غير الفن.
تنقسم تلك الصبيحة إلى جزأين. تجربة الراوية التأملية والصوفية بالمعنى الديكارتي في مكتبة “آل غيرمونت”، وتضمينات تلك التجربة المُطبقةِ على العمل الفني الذي يشرع بأخذ شكله في ذهنه أثناء ذلك الاستقبال نفسه. من انتصاره على الزمان يمر إلى انتصار الزمان عليه، ومن نكرانه للموت إلى تأكيده. وهكذا يحترم بروست، في النهاية كما يفعل في جسم عمله، الدلالة الثنائية لكل شرط وظرف في الحياة. أن الحشو “tautology” الأكثر مثالية يَفترضُ علاقة ما، كذلك يتضمن التأكيد على مقاربة من التطابق فحسب، كما أن تأكيد الوحدة هو نكران لها.
عند اجتيازه للممر يتعثر بدرجاته. يتلاشى ما حوله، الخدم، الإسطبلات، العربات، وواقع المكان برمته وزمنه، كذلك يختفي قلقه وشكوكه كما يختفي واقع الحياة والفن أيضاً، وها أنه مذهولاً بموجات الانقطاع، ومشبعاً من نفس تلك النعمة التي فاضت وغمرت كل ندم حياته. تمحى الرتابات في ألق لا يُغفر. وفجأة تبزغ “فينوس” عبر سلسلة من الأيام المنسيةِ، فينوس التي لم يكن بالإمكان أبداً التعبير عن توهج جوهرها، لأن ذلك الجوهر قد رفضه العمل اليومي، السوقي والمُلحِ للذاكرة، غير أن هذا التكرار المحظوظ للتوازن العابر الذي حدث في كنيسة “سانت ماركو” قد قَدَمَ من الساحل الإدرياتيكي “Adriatic shore” منها وجلب في ممر الأميرة “غيرمونت” عنصراً غريباً من الشروق. لكن هذه الرؤية سرعان ما تزول، ومن ثم فهو حر بالقيام بوظائفه الاجتماعية. تتم مرافقته في المكتبة، ذلك لأن السيدة التي كان اسمها في السابق “مدام فيردنان”، والتي أصبحت فجأة وكأنها آلهة من الأساطير الشمالية وضحية لداء الشقيقة، يحيط بها ويمجدها ضيوفها، تتناول أقراص دواء لكي توقف سيلان أغشيتها المخاطية فيما كانت تتألم من أشد أنواع الإثارة العصبية التي تشبه التوتر العصبي لسترافنسكي “Stravinskain neuralgia”. أثناء انتظاره انطلاق الموسيقى، تعاوده معجزة الممر أربع مرات تحت أشكال مختلفة. لكن سرعان ما يتمّ ربطها بسبب ما. يَضْربُ خادم ملعقة من فوق صحن، يَمْسحُ هو فمه بمنديل مُنشى للغاية، يصرخ الماء وكأنه صفارة إنذار في أنبوب، فيتناول من أحد الرفوف رواية « François le Champi » لجورج صاند. وبالدقة كما انفجرت باحة كنيسة القديس ماركو بطريقتها الخاصة في الممر وفرضت سيطرتها المنورة والهاربة، كذلك فأن المكتبة تصبح الآن مغزوةً بالغابة، وبالمد العالي لساحل “بالبيك”، بفيضان غرفة الطعام الواسعة في الفندق الكبير، وكأنها حوض سباحة، مع شروق الشمس والبحر عند المساء، وفي النهاية “كومبري” و”طرقاتها” والانتقال المعتبرِ لنثر لاذع ومتميز، يشكله ويضعه في مكانه صوت أمه، الأصم والمُحلى وكأنه هدهدة، تجلب طيلة الليل الطمأنينة المنسابة لصوتها أمام طفل مصاب بالأرق.
لا يمكن لأية ذكرى بالغة النجاح أن تكون سوى انعكاساً لصدى إحساس ماضوي، ذلك لأنها، كحركة ذهنية، مشروطة بتعسف الفطنة التي تستخرج من كل إحساس معطى، باعتباره شيئاً لا منطقياً وبلا دلالة، عنصراً فضولياً سطحياً وغير متجانس، فمهما كانت الكلمة أو الحركة، الصوت أو العطر، لا يمكنها التلاؤم مع لغز المفهوم “puzzle of concept”. لكن هذا العنصر الغريب، الذي ترفضه اليقظة باعتباره مفارقة زمنية، هو منْ يتضمن على جوهر أية تجربة جديدة. أنه القطب الذي يدور من حوله الإحساس، ويشكل مركز جاذبية تماسكه. لذا لا يمكن لأي تلاعب متعمد إعادة بناء انطباع ما بكامله كانت الإرادة قد ثبتت -أو تقريباً- لا تماسكه. لكن، إذا ما حدث بالصدفة، وفي الظروف الموائمة (كاسترخاء عادة البطل عن التفكير واختزال القطب البعدي لذاكرته، أو نوع من التخفيف عن ضغط شعوره الذي يعقب مرحلة من الإحباط المتطرف)، وإذا ما عاد، بفضل معجزة تماثل ما، الانطباع المركزي لإحساس ماضوي كمحفز مباشر يمكن للبطل مطابقته غرائزياً مع نسخته الأصلية (التي تمّ الحفاظ على نقاوتها بكاملها لأنها كانت قد نُسيت)، حينئذ سيتمكن إحساس الماضي، وليس صداه أو نسخته، بل الإحساس نفسه، القضاء على أي تحديد مكاني وزماني، وسيأتي راكضاً لكي يغمر البطل في كل جمالية بعده المعصوم. وهكذا، يدفعُ صوت الملعقة على سطح فمه الراوية، ضمن وعيه التحتي، على القيام بتوحيد ذلك الصوت بصوت مطرقة تضرب بصورة ميكانيكية على عجلة قطار يمر خاطفاً أمام غابة؛ صوت كان قد طرحه جانباً باعتباره شيئاً خارجياً بالنسبة لفعله المباشر. لكن الوعي التحتي وفعل الإدراك الحسي اللامبالي قد اختزلا المادة -الغابة- إلى معادلها اللامادي والروحي العسير على الهضم، كذلك فإن تسجيل حركة التعرف النقية هذه لم يجر ربطها بصوت المطرقة الضاربة على العجلة فحسب، بل وأيضاً تم محورتها من حولها. إذ لا أهمية للمزاج، كما هو الأمر عادة. أن نقطة انطلاق العرض البروستي لا تكمن في التكتل البلوري ولكن في نواته –المتبلورة. فمهما كانت تفاهة التجربة -كما يقول هو في الواقع- فأنها تحفر مع عناصر لا يمكن منطقياً ربطها بها، وبالتالي يتم رفضها من قبل فطنتنا : أنها محبوسة في مزهرية مملوءة بنوع من العطر وبلون بعينه، ضمن درجة حرارة معينة. تظل تلك المزهريات معلقة على طول أعمارنا، ولأن ذاكرتنا الفطنة لا تطالها، لذا تبقى مصانة بمعنى ما، كذلك يحافظ النسيان على محتواها المكيفِ، فكل واحدة منها تبقي على مسافتها، وتاريخها. لهذا يغمرنا هواء وعطر جديدين، إذا ما تمّ تطويق الكون الصغير “microcosm” المحبوس بالطريقة التي جرى وصفها (جديدين، بالدقة، لأنهما قد جُربا في السابق)، ونقوم بتنفس الهواء الحقيقي للجنة “true air of Paradise”، والتي هي ليست حلم إنسان مجنون، لكنها تلك الجنة المُضيعةِ.
أن مطابقة المباشر بتجربة الماضي، عودة فعل الماضي أو ردة فعله في الحاضر، هي بمثابة المشاركة “participation” ما بين المثالي والواقعي، ما بين المخيلة والفهم المباشر، ما بين الرمز والمادة. يُحرر تشارك كهذا الواقع الجوهري الذي حُرم منه التأمل وكذلك حركة الحياة. فما هو عام “common” ما بين الماضي والحاضر له أهمية تفوق أهمية كل منهما، إذا ما أُخذا على انفراد. فالواقع يظل، سواء أخذناه عن طريق المخيلة أو التجربة، سطحياً، ومغلقاً. وإذا ما طبقنا المخيلة -قبلياً a priori- على أي شيء غائب، ستكون ممارسة في الفراغ ولا تغفر أية حدود للواقع. كذلك لا يمكن أن يكون هناك أي اتصال نقي، تجريبي ومباشر ما بين الذات والموضوع، لأنهما مفصولين بطبيعتهما عبر الوعي الذاتي للإدراك، وبهذا يفقد الموضوع نقاوته ويصبح مجرد ذريعة ذهنية أو دافعاً. بيد أن التجربة، بفضل التكرار، هي في آن معاً تجريبية ومتخيلة، ذكرى وأدراك مباشر في ذات الوقت، واقعية دون أن تكون مجرد حالية، مثالية دون أن تكون تجريدية فحسب، المثالي الواقعي “the ideal real”، الجوهري، ما فوق الزمني “extra-temporal”. لكن إذا ما كانت هذه التجربة الصوفية توصل لنا الجوهر ما فوق الزمني، فذلك يعني بأن المُوَصلْ “communicant” نفسه هو في تلك اللحظة كائن ما فوق زمني. وبالتالي، يكمن الحل البروستي، بالطريقة التي فحصناه بها، في نكران الزمان والموت، نكران للموت لأنه نكران للزمان. لقد مات الموت لأن الزمان كان قد توفى. لقد مات الزمان. (ثمة ما هو لا منطقي نوعاً ما عند هذه النقطة، يكمن في التعامل مع “الزمن المُستعاد” باعتباره وصفاً غير موفقاً للحل البروستي، تماماً كما رائعة “الجريمة والعقاب” لا تنطوي على ذكر لا للجريمة أو العقاب). فالزمان لا يتمّ العثور عليه ثانية، لكنه يُلغى. يَعثَرُ الراوية على الزمان ثانية والموت معه حين يغادر المكتبة ويلتحق بالضيوف، ومن ثم يظل جاثماً ضمن عجز وقتي من فوق الركائز المحلقة للأول ومصاناً من الثاني بفضل معجزة التوازن المرعبة. فإذا كان العنوان عنواناً جيداً، سيكون مشهد المكتبة مضاداً للمناخ). لذا فهو يفهم في الوقت الحاضر، ضمن إحساسه بأبديته القصيرة، بعد خروجه من عتمة الزمان، العادة، الانفعال والفطنة، ضرورة الفن. فضمن ألق الفن وحده يمكن فك لغز الإثارة المحيرةِ، تلك التي شعر بها قبل لقائه بالمساحات الغامضة لغيمة، لمثلث، للولب، لوردة، لحصاة، حينما تكون المعجزة، الجوهر، والفكرة “Idea”، المحبوسة في المادة قد حثت سخاء البطل وهو يمر داخل قحفة لا نقاوته، على إطلاق أغنيته التي ستجعله يحصل على الأقل، كدانتي في أغنيته “ingegni storti e loschi”، على جمال لا يُفسد :
“ponete mente almen com’io son bella”.
كذلك سيفهم معنى تحديد بودلير للواقع باعتباره “المطابقة الصحيحة ما بين الذات والموضوع”، وبشكل أكثر وضوحاً يفهم التزييف الفظ للفن الواقعي -الحكم البائس للخط والسطح-، والسوقية المفلسة لأدب الملاحظات.
يترك المكتبة ويلتقي بمشهد الزمان الذي صار لحماً “Time made flesh”. وحيث كان ألق صناجات ساعتين متباعدتين قد شُلَ، للحظة بالقرب منه، من قبل الانتشار القاسي للأعوام، واستسلم لدافع لا يمكن مقاومته لجذب ودفع متلازمين، وكأنه عاصفة من السحب، في جلجلة أجراس نحاسية براقة، كُتبَ مقياس انتشارها من فوق وجه وهشاشة ما يموت، ويتقوس، ككبرياء دانتي “Dante’s proud”، تحت ثقل أعوامهما –”صعب المأخذ، بطيء، ثقيل وشاحب كراسب تبري”.
“e qual pazienza avea negli atti
Piangendo parea dicer :-Più non posso”.

تعليقات الفيسبوك

شاهد أيضاً

| جمال مصطفى : (ألـف هـايـكـو وهـايـكـو) 4 .

ترجمة لنصوص شاعر الهايكو الياباني إيـسا (ياتارو كوباياشي 1763- 1827)     ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ     …

| زياد جيوسي : دوامة “منّ السَما”.

“منّ السَما” هي الرواية الثانية للكاتبة غصون رحال التي يتاح لي قراءتها بعد روايتها “في …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *